قراءة نقدية في "ديوان فوضى" الذات لسوسن غطاس / طلال الحديثي*

وأختم بالقول إن هذه المقالة لا يمكن أن تقدم الصورة الحقيقية للشاعرة، وأملي أن تتاح لي فرصة أخرى لقراءة ما تبقى من قصائدها.

قراءة نقدية في

مقدمة :

الفوضى: اضطراب وتشتت وتجزؤ، والذات: الصلب والجوهر، ولكل شيء ذات، ومن دون الذات لا يقوم للشيء كيان، فالذات الأرض والأشياء جذور فيها، ولا غنى لها عنها، ودعيت هذه الذات بالذات المطلقة أو مطلق الذات إذ لا سبيل إلى حصر ما لا يحصر، هكذا يقول المتصوفة .

وفي عنوان هذه المجموعة من القصائد لشاعرتها سوسن غطاس مفارقة يحملها عنوانها: "فوضى الذات"، مقابلة بين التجزؤ والاتحاد؛ وتعد المفارقة التصويرية تكتيكًا فنيًّا يستخدمه الشاعر المعاصر لإبراز التناقض بين وضعين أو موقفين بينهما نوع من التناقض؛ والتناقض، يقول د. علي عشري فايد (مجلة الثقافة _ طرابلس ع54 _ 1975) فكرة تقوم على استنكار الاختلاف والتفاوت بين أوضاع من شأنها الاتفاق والتماثل، أو بتعبير مقابل تقوم على افتراض ضرورة الاتفاق فيما واقعه الاختلاف، والشعر المعاصر يستغل هذه العملية في إدانة بعض الأوضاع الجائرة، أو التنديد ببعض المواقف المتخاذلة، أو ما أشبه ذلك من مضامين تقوم المفارقة بدور فعال في التعبير عنها .

ثانيًا:

القصيدة الأكثر دلالة على التجزؤ هي القصيدة التي تقول فيها :

أنصاف العقيق لا تؤول

حتى إلى نصف الكمال

والعقيق خرز أحمر تتخذ منه فصوص الخواتيم، واحدته عقيقة، وأنصافه لا تؤول حتى إلى نصف الكمال، لأنه لا يستعمل مجزءًا، فلذلك لا يؤول إلى نصف الكمال .

والتساؤل: كيف يبدو نصف القمر في ليلة حالكة السواد؟ وتبقى الإجابة مبهمة وفيها ترتسم روح الشعر، لأن الشعر سؤال، والسؤال تأمل، والشاعر حامل مجمرة الأسئلة، وتبقى قصائده مسامات تملأ الجسد لا تراها العين، ومن خلالها تنبعث باحثة عن الأفق الذي يحتويها، فالسؤال يجر إلى سؤال، واليقين كقطعة الإسفنج تنخفض بضغطة على جانب ويرتفع بدونها من جانب آخر، وبر اليقين كشاطئ جزيرة السندباد، يقر لساعة تصفو فيها النفس ثم يستوحشها الملل والسكون فتشتهي المغامرة وركوب الأهوال، وهكذا يكون الشاعر دومًا في دوامة اللا استقرار.. لا سكون يريح النفس ولا جواب شافٍ لسؤال .

ويستمر التجزؤ فتقول الشاعرة :

نصف الحب

يؤول إلى نصفه الأقرب إلى نقطة الصفر،

تفرغ الآبار من مخزونها

في نصف الفراغ

ونصف الكلام .

أخيرًا:

يحاول الشاعر الحاذق أن ينفذ إلى حقائق الأشياء متجاوزًا مظاهرها الخارجية، بل نافذًا - من خلالها - إلى تلك الحقائق، فإذا كان عميقًا في رؤيته الفنية فإنه يستطيع أن يقفنا على قيم إنسانية ثرية، والخيال والتأمل الصافي أعظم أدواته للوصول إلى كشوفاته، وانطلاقه الكامل من أسر الواقع الخارجي للالتحام مع الواقع الداخلي، وفي هذه الكشوفات يتعانق المرئي المحسوس مع المعنوي الأثيري خلفه، والمألوف مع الغريب المجهول، هذا ما يقوله ناقد .

تقول الشاعرة سوسن :

العصافير لا تموت في الجليل

تتناسخ كل غروب على حافة الرحيل

هذه الصورة الظاهرة بالكلمات تعبير عن عالم خفي، يحمل رؤية فنية تفيض بمعنى البراءة التي تحملها العصافير مع الانطلاق نحو الحرية في فضاء غير محدود، في رحلة يومية، ولكنها رحلتها الدائمة إلى عش السكينة والطمأنينة؛ ومن هذا المعنى تربط الشاعرة لا شعوريًّا بين رحلة العصافير ورحلة المواطن المتسربل بطموحه نحو الحرية وكسر القيود .

وتقول الشاعرة :

للقدس نكهة لجوء مؤجل

واحتلال متخفٍّ بأسوار

وهذه صورة واقع معاش لا يخص القدس وحدها، بل هو حال فلسطين بأسرها.. بين لجوء مؤجل واحتلال متخف بأسوار مصطنعة يظنها تحميه من غضب آتٍ .

وفي قصيدة "مجرة القمر" يتمازج البوح مع قمر مظلم بجوهره، مشع بغيره، فكأنه الوطن الذي يشع بأهله، وهو في حقيقته تراب، لكنه يغدو مظلة بل يغدو نورًا بناسه .

هؤلاء الناس الذين يرسمون الصورة الحقيقية له.. الصورة المتولدة من مهمته لا من كينونته، وهذا استبطان من الشاعرة، نجحت في إبرازه من خلال قصيدتها فحققت قدرة على التصوير ورسم الظلال .

وهذه مهمة النص الشعري ذي الأعماق البعيدة، وهي تستعمل الصورة الشعرية أداةً لتعميق المعاني وتكثيف الأحاسيس .

ولا أزعم أن تجربة هذه الشاعرة مكتملة، لكنها ليست ضحلة، وأحاسيسها وانفعالاتها ذات نسق موسيقي خفي، ولغتها لها طابع نثري يمكن أن تثريها بمزيد من العناية والاطلاع، لكنها شاعرة ذات تجربة تتوافر فيها عناصر الصدق والجمالية .

وأختم بالقول إن هذه المقالة لا يمكن أن تقدم الصورة الحقيقية للشاعرة، وأملي أن تتاح لي فرصة أخرى لقراءة ما تبقى من قصائدها .

وكل آتٍ قريب .

 

* ناقد وكاتب عراقي- ألّف ونشر أكثر من ثلاثين كتابا ستة كتب منها في النقد نظريةً وتطبيقًا.

التعليقات