في غزة.. لا زلنا في انتظار العيد../ عبير ياسين

ولعله يقف في مواجهة أخرى مع تربية الأمل واللامبالاة التي تحدث عنهم درويش، ويحاول أن يلتقط معنى من بحث طفل وسط الانقاض عن لعبه، وقيام نساء بإعداد كعك العيد باعتبار أن تربية الأمل جزء من القضية والحياة، وفي مشهد الدم والدمار قد تكون كل الحياة.

في غزة.. لا زلنا في انتظار العيد../ عبير ياسين

في مشهد الدم والحزن ترفع أصوات من قبل البعض، أن الوقت ليس وقت الأعياد.. إنه ليس الوقت للاحتفال، ولكنه وقت للحزن.. فالحزن فقط يكتبنا، ويعبر عنا في مواجهة الدم..

يرفض البعض لفظ العيد بالمطلق، ويردد البعض الآخر أنه عيد ولكنه عيد الدم وعيد الشهداء.. وترفع صورة لطفل ذبيح وعجوز مات تحت الأنقاض، وجريح لم يسعفه الوقت فمات وسط بركة دماء من أقارب أو أصدقاء أو جيران أو من مر بحثا عن حياة فكان معهم في لحظة الوداع.. فالكل في اللحظة سواء، والحزن في اللحظة وما بعدها عناء وشقاء.
في مشهد الدم لا تخرج الكلمات قولا أو كتابة عن العيد بتلك السهولة، فالحديث عن السعادة والفرح وسط الدم والأحزان مسألة تبدو غير طبيعية.. ولكن الناس لا تفهم هذا الصمت، فهناك وفقا للتوقيت أعياد، والأعياد لها طقوسها الخاصة، ومنها أن تقول "عيد سعيد".. ولكن الدم له طقوسه الخاصة جدا، والحزن له معناه العميق فكيف تقول عيد سعيد، وهل هناك بالفعل وسط الدم عيد؟!
كلام يحمله البعض معنى آخر، فيسارع من يدخل الموضوع في جدل الدين والتحريم، وما هو حلال وحرام ومكروه ومستحب.. تقف مرة أخرى تتساءل من أدخل كل تلك العبارات في مشهد الدم؟ وهل القول بوجود حالة حزن والمشاركة في حالة الحزن يدخل في باب التحريم حقا؟ ومن تحدث هنا عن إنكار العيد؟ وهل يفترض أن نتعامل مع الحزن والألم بصورة ما وفقا لكتاب يملكه البعض للحكم على البعض الآخر، أم أن المعنى أكثر عمقا من تلك المقولات الخلافية المستخدمة، وأكثر انسانية من التعامل مع اللفظ بتلك الطريقة؟!
عندما يتصادف عيد في التوقيت مع موت في بيت يسود الحزن حتى لو ترك الأمر للأطفال نسبيا للبحث وسط الحزن عن لحظة حياة عادية أو شبه.. عندما يأتي العيد لا أحد ينكره، ولكن حالة الحزن تسيطر على المشهد فيظل العيد قائما، ولكن يسكن في القلب الحزن وتغطى دموع العين على مشاهد الفرح المحيطة دون ان تستنكرها أو تنكرها على أحد. ولكننا في مشهد الدم الحالي لا نتحدث عن أسرة جريحة أو عزيز راحل، بل نتحدث عن أسر ومناطق كاملة أصابها الهم والحزن والفقد... نتحدث عن بشر وحجر وحياة كانت تشبه الحياة، ولكن حتى تلك الحياة التي تشبه الحياة لا تعرف متى ستعود بعد كل هذا التدمير، وأن عادت كيف تتعايش مع ذكرى ما كان ومن رحل؟
تتذكر هذا الأب الحزين وهو يتحدث وسط دموعه عن اعتذاره لطفله لأنه لم يستطع أن يحميه.. ولكن عليك وأنت تتابع وسط دموعك أن تتذكر أننا في واقع غير عادي، ولكن الحزن لا يقل عندما يتوزع على عدد أكبر من البشر، فالحزن لا يقسم، ولا يتم التعود عليه مهما تكررت أسبابه.
في وسط تلك الصورة، تبحث عن كلمات أخرى تتمنى الأفضل، وترجو أن يجد العيد طريقه لكل دار، وأن يتجاوز توقيتا وتاريخا في سجل الأيام.. وأن يأتي معنى العيد لكل قلب جريح، ولكل منزل حزين، ولكل طفل وحيد.. ترجو أن يجد الأطفال جدارا لا يسقط فوق من يحتمى به بفعل الضربات، ولكن يحمي من طقس متقلب، ويكون جزءا من حياة كالحياة وليس ماضيا كان شبه حياة وواقعا مدمرا ومستقبلا غير معروف.. وشارع ليس مصدر خوف ودمار، ولكن لحظة مرور ولعب ومسار حياة.
لا تضم الصوت لمن يتحدث بعبارات التنديد والتجريم والتسفيه بمن يحتفل، فكل شخص يتعامل مع تحديات الحياة بطريقته، والتعبير عن المشاركة أو الحزن لا يحمل نفس الصورة ولا المعنى دوما ولا يوجد كود موحد للحزن أو التعامل معه. لكن كل الفارق أن تشعر بالحزن من عدمه، وأن تشارك الحياة حزنها على الحياة، وأن تشارك البشر احترامهم للموت والإنسان. عندما تفقد هذا المعنى الإنساني للمشاركة واحترام الحزن، عندما تستخدم كلمات كبيرة لتبرير الاحتفاء بالموت أو تبريره أو التشجيع عليه، عندما تستخدم مغالطات وقياسات من خارج المشهد لتقليل قيمة المعاناة وحجم الألم وعدم المشاركة فالسؤال هنا مختلف ويخص الإنسانية قبل أن يمس القضايا الوطنية.
تقف في مواجهة صور لمن رحل، وتدرك أن خلف كل صورة قصة وحياة، وتحت كل حطام ذكريات وأحلام، وفي داخل كل بركة دم خليط من دماء كانت يوما جزءا من وجود وحياة.
تقف في مواجهة لعبة تتدلى من بقايا، وتطرح السؤال عن صاحب المكان؟! هل لازال حيا في مكان ما؟ هل غاب مع من غاب وسط الأرقام اليومية أم رحل بشكل مؤقت، ووجد في مكان ما فرصة لحياة في انتظار العيد؟

تقف في مواجهة الأم التي تجلس بجوار قبر ابنها وتحمل ملابس العيد الذي كان ينتظره للاحتفال، وتدرك كم من الصعب أن تتجاوز الألم داخلها وأن تتعايش مع اللحظة بتلك السهولة أو أن تتفهم كل الكلمات الكبرى اللا إنسانية أحيانا والقادمة من خارج مشهد الموت.. تدرك أن العيد بالنسبة لها سيكون لحظة انتظار الابن للفرحة وجلوسها بجوار قبره، وأن الذكرى ستكون دوما حاضرة في كل عيد. كل العزاء أن يأتي العيد يوما ما وسط حياة كالحياة فتكون الذكرى دون أحزان جديدة.
في مشهد الدم وسط العيد، والعيد في واقع الدم من الصعب للغاية أن تكون طبيعيا وكل ما حولك غير طبيعي على الإطلاق.. كل ما حولك ينتمي لعالم آخر يجعل دمار الآلة أكثر من تدمير الطبيعة في بعض الأحيان.. وكلمات الإنسان ضد الإنسان كحد خنجر يوجع أكثر من طرف سلاح.
في مشهد الدم والعيد أتذكر عندما توقفت أمام كلمات سجلت في سجل الزيارات بمتحف محمود درويش في رام الله، كتب فيها: كنت أتمنى أن يكون هناك على الأرض ما يستحق الحياة، وإن كنت قد طرحت تساؤلاتي يومها عن جوهر التعليق في مواجهة فكرة درويش، وعن العمق الفلسفي الممكن تصوره لهذا الجدل، فإن الكاتب قد يجد في اللحظة مبررا آخر ليسأل نفسه عن مبررات الحياة..  ولعله يقف في مواجهة أخرى مع تربية الأمل واللامبالاة التي تحدث عنهم درويش، ويحاول أن يلتقط معنى من بحث طفل وسط الانقاض عن لعبه، وقيام نساء بإعداد كعك العيد باعتبار أن تربية الأمل جزء من القضية والحياة، وفي مشهد الدم والدمار قد تكون كل الحياة.

التعليقات