حين اجتمع الموت والأسر معاً/ راوي سلطاني

بالرغم من كل القيود التي يفرضها الأسر على الأسرى، إلّا أنّ هناك دائماً أملاً وقوة وإصراراً على مقاومتها، إلا حين يجتمع الموت والأسر معاً، فتصبح جدران الفصل أعلى، وزرد السلاسل أثقل، وأرضية العزل أبرد.

حين اجتمع الموت والأسر معاً/ راوي سلطاني

بالرغم من كل القيود التي يفرضها الأسر على الأسرى، إلّا أنّ هناك دائماً أملاً وقوة وإصراراً على مقاومتها، إلا حين يجتمع الموت والأسر معاً، فتصبح جدران الفصل أعلى، وزرد السلاسل أثقل، وأرضية العزل أبرد.

قبل عام، عندما انقض عليّ خبر وفاة د. روضة عطا الله من بين قضبان الأسر وزجاج غرفة الزيارة بحثت عن الأمل الذي ربيته لسنين فلم أجده، استجديت بعض القوة فلم توهب لي، والإصرار رأيته رماداً منثوراً. 

كنت وحيداً في حزني، فبيني وبين المواسين زنازين وجدران وأسوار وأسلاك عازلة، لا هم يدخلون إلي، ولا أنا قادر على الذهاب إليهم. ولم أعرف كيف أقاومُ وجعاً أكبر من كل الأوجاع، وكيف للقلب أن يصبر على فراقٍ ظنّهُ مؤقتاً فإذا به بلحظةٍ يتحول إلى أبدي؟ 

ظل الحزن يدور برأسي كيفما شاء، لا شيء يغلبه ولا شيء يزحزحه. حتى نزل علينا الليل وأطفئت أنوار السجن المزيفة، وسيطر الصمت على كل الأشياء. عندها رأيت طيف وجهها الجميل ينهض من ركام الذاكرة. ببطء أخذت ملامحها ترتسم برأسي، هي كما هي، لم تتغير، قوية ودودة، جبارة حنونة، ذكية طيبة، هي نفسها 'الدكتورة' التي عرفتها قبل سنين، ابتسمت بهدوء وقالت: ما بك؟ أضعف إيمانك لتظن أنني سوف أغيب؟
 
سرعان ما استدركت أساي، واستجمعت قواي، واستوعبت أن من كانت مدرسة للعطاء والوفاء ونضال المحبة لا يمكن أن تغيب، وأن من كانت بوصلة الحفاظ على المبادئ وسط سوق بيع الذمم لا يمكن أن تغيب، وأن من استطاعت أن تكون الأم والأخت والقائد والمثل الأعلى للآلاف من شباب وشابات الحركة الوطنية لا يمكن أن تغيب. وأن من احتضنتني وأنا أحبو بين الجموع باحثاً عن هويتي، ورفعتي بين يديها، وعلمتني أن أبقى مرفوع الرأس لأني فلسطيني، ثابتا على أرضي لا يمكن أن تغيب. وأن كل من تشرف بمعرفتها وعشرتها لا يمكن عنه أن تغيب.

ويوم تحرري بحثت عنها، التفت حولي لأراها، وبلحظة سمعت صوتها خلفي، نادتني باسمي، عانقتني، وقالت لي: ها أنا ذا، كما وعدتك، معك، تراني، وتسمع صوتي، ومتى ما احتجتني ستعرف أين تجدني.
وأثبتت الأيام ذلك، وفعلاً لم تغب الدكتورة عني، وحتى بعد عام على رحيلها ما زالت هنا، وما زال صوتها يدل صوب الحق، وما زال وجهها في كل مكان، في جهدها الذي بذلته لعشرات السنين من أجل  القيم الإنسانية، وفي قلوب الشباب الذين علمتهم قيم الحرية والعدالة والمساواة، وفي الثقافة التي دأبت الدكتورة على صقلها، وفي العطاء الذي كان عندها نهج حياة. 

التعليقات