فلسطين والبحر: التباس وهوس وهواجس وحنين

في لقاء مكثف ومزدحم غاص بالعلاقة بين الإنتاج الأدبي الفلسطيني بكل أشكاله وفنونه، وبين البحر، بين الفلسطيني الذي أصيب بفاجعة التشرد عن بحره عام 1948، وتبعات هذا البعد على النواحي الثقافية والاجتماعية والسياسية.

فلسطين والبحر: التباس وهوس وهواجس وحنين

يافا

في لقاء مكثف ومزدحم غاص بالعلاقة بين الإنتاج الأدبي الفلسطيني بكل أشكاله وفنونه، وبين البحر، بين الفلسطيني الذي أصيب بفاجعة التشرد عن بحره عام 1948، وتبعات هذا البعد على النواحي الثقافية والاجتماعية والسياسية.

كيف تعاملت الثقافة الفلسطينية مع بحرها واقعا وحنينا؟ وكيف عملت على استرداده في الفن والوعي والحكاية الشعبية؟ متى بدأت السباحة في البحر المتوسط كظاهرة؟ وما الدور الذي فرضه الاحتلال ونكبة فلسطين الكبرى على تلك العلاقة بين الأجيال المتعاقبة وبحرها الذي يشكل هوسا للوصول إليه؟

في اللقاء المتعمق بفكرة البحر بشكل عام والتخيلات والأساطير والحنين، ضمن فعاليات "قلنديا الدولي"، تحدث مهتمون في الأدب والفن والبحث والدراسات، وغاصوا في تلك العلاقة الملتبسة.

في البداية كانت كلمات الفنان خالد حوراني، التي قدمها علاء حوراني، "من حسن حظ الجغرافيا الفلسطينية، أنها تطل على ثلاثة مسطحات مائية، البحر الأبيض المتوسط من الغرب، والميت من الشرق، والأحمر من الجنوب، مساحة فلسطين المائية 12 ميلا بحسب الأعراف والمواثيق الدولية".

علاقة الفلسطينيين بالبر والبحر علاقة استثنائية نتيجة للسلب والنهب بفعل الاحتلال وانقطاع عن برهم وحقولهم وبساتينهم في قراهم ومدنهم وانقطاعهم عن شواطئهم وصيدهم، وهذا جعل من الحنين للبحر سمة للتعبير عن الوطن.

فإن لفلسطين كلها حصة في البحر لأننا دولة صغيرة. أهل الشواطئ لهم ثقافات مختلفة عن أهل الجبل وأغان وطعام مختلف.

لم يغب البحر رغم هذه المنظومة الاستعمارية والسلب ومفهومه عن الوجدان الفلسطيني وإن تراجعت بفعل الشتات، وبسبب تقدم العمر في البحارة الفلسطينيين آنذاك وغياب أو رحيل بعضهم عن الحياة، حضر البحر وأن ملتبسا أحيانا في الأغاني التي كان يرددها البحارة على مراكبهم وحضر في الأدب والسينما ولاحقا في الفنون البصرية.

ومن الطبيعي أن تؤثر تجربة بحجم النكبة على الفلسطينيين وعلاقتهم بالبحر الذي تم إقصاؤهم عنه في الغالب، وأن تحدث هزة في الثقافة عموما وطقوسهم المختلفة وأن تتآكل تدريجيا، وأن تغيب أنماط عيش معينة وتحل محلها بفعل الحرب والتهجير أنماط أخرى كاستبدال البرتقال اليافاوي بشجرة الزيتون، استبدلت ثقافة أهل الشاطئ كرمز وطني لفلسطيني بثقافة أهل الجبل.

في الفن كما في شؤون الحياة الأخرى، أثر الغياب القسري للبحر على وجدان وعيون الفلسطينيين وممارساتهم الثقافية، وحل محله الحنين "النوستالجيا" والبحر الافتراضي، علينا أن نتخيل أحفاد هؤلاء، صار البحر لديهم خيالا بعد أن انتقلوا للعيش في المخيمات.

في فلسطين شكل الجبل ملاذا قسريا، وشكل البحر التباسا للراحلين عنه ولمستقبليهم. لا نعرف أي من اللاجئين حمل شباكه وأدوات صيده كما حمل أهل الجبل مفاتيح بيوتهم.

على الرغم من أن السمة العامة للثقافة العربية هي ثقافة جبل وزراعة، لكنها في الغالب ثقافة صحراء، يحضر فيها الجمل كسفينة صحراء بدلا عن السفينة الحقيقية، ولحم الغنم والطيور بدلا عن الأسماك والأكل البحري، إلا أن لفلسطين خصوصيتها كما لبنان أيضا، شكل البحر ومن قديم الزمان جزءا أصيلا من ثقافته.

للبحر في أحكامه شؤون، وهو ليس فقط لون أزرق مبهم نراه على الخارطة، وليس فقط خطا متصلا باليابسة، ولكن مكان للترويح عن النفس أثناء مشاهدته أو الرحلات إليه، إنما هو حياة كاملة، فمثلما للبر قوته وتأثيره فللبحر قوة وتأثير أيضا. وإن كان للصحراء واليابسة أثرهما بسبب ثباتهما النسبي، فإن للبحر أثرا أكثر تعقيدا بحكم تقلبه وأخطاره غير المعهودة وبحكم انفتاحه على الآخر البعيد والقريب، ثقافة البحر فيها قدر من المغامرة والمجهول، بينما ثقافة البر فيها السكون والاتكال المعروف والمألوف.

متغيرة تدعو للتعلم والاقتراب وثقافة الصحراء تأملية كسكونها تدعو للأمان. بغياب هذه السمات كليا أو جزئيا عن ثقافة الفن في فلسطيني تدريجيا أصبحت ثقافة الزراعة والعمل بالأجرة وما شابه سمات لها دلالات وممارسات في الفعل الثقافي حتى على لغة الخطاب بشكل عام.

نسجت بعض الحكايات الفلسطينية علاقتها بالبحر كأسماء بعض الأفلام التي يحضر فيها البحر، كذلك الروايات والنصوص الشعرية، بينما ينحصر الحضور البصري البحري عن المشهد الفني التشكيلي وأصبح حضوره الشكلي مقتصرا على اللون الأزرق وبعض السفن والأشرعة والأسماك في الغالب، دون معرفة حقيقية بأنواع السمك أو السباحة فيه.

خسرت فلسطين علاقتها بالبحر كجزء من خسائرها الكبرى منذ نكبة 1948، ومثلما خسرت البيت والشجرة خسرت مياه البحر ومراكبه وأسماكه، غير أن في الثقافة تعويض ليس عن الخسائر فقط وإنما الطموح والتطلع نحو ما نريد، وهناك دائما أملا يسكن الفن والثقافة وهذه الندوة هي مثل على أن الفن والثقافة هي محاولة للتذكير في موج البحر، وصوته الذي لم يعفينا غياب سؤاله الكبير عن أسئلتنا الأخرى، فها هو المركب ينادى على البحارة مرة أخرى "هدي يا بحر هدي".

الكثير من الأعمال أعلنت توقها للبحر الذي لا تعرفه، يستحضرني هنا عمل الفنان عايد عرفة "خط الأفق" و"بكجة البحر."

أستاذ الأدب والناقد، إبراهيم أبو هشهش، قال إن البحر يمثل الغموض والمجهول، والبحر في الأساطير هو أنثوي ويمثل الولادة والموت، وفي الكثير من الأساطير يكون البحر أساسا لوجود وخلق هذا العالم. كما أن الفناء وتصور الموت يرتبطان بالبحر، وأيضًا تصور البحر على أنه أنثى لسببين الخوف وظهور الحديث عن حوريات البحر مثل حورية البحر الصغيرة لهانز كريستيان، وتمثالها الموجود على شواطئ بنهاغن.

ومن ناحية سيكولوجية فإن البحر يمثل الغموض، فحتى سطحه يخفي أمور كثيرة وتتكون قوته، لذلك هو في أعماقه يمثل رمزية اللاوعي الغامض المجهول وفي نفس الوقت هو مصدر للخلق الفني والشعري، ويمثل البحر أيضا الاتساع والبعد والغربة.

في الأدب والفنون الرومانسية ارتبط اللون الأزرق بالغياب لأن البحر هو الغياب والغياب أيضا يتضمن عكسه وهو العودة، لذلك البحر ارتبط دائما بهذا المعنى خاصة في الأدب الرومانسي. وذكر محمود درويش لون البحر حين قال "وفي كل فراغ سنرى صمتا يغني أزرقا حتى الغياب".

في الحقيقة إن الأدب العربي ليس أدب بحار وكذلك الفلسطيني، بينما في الأساطير اليونانية البحر أساسي فيها، فهناك إله البحر، وهناك شخص اسمه أقيانوس، وبالعربية تعني المحيط، وهو النهر الأسطوري الذي يحيط بالكون كله، وهناك أيضا أفرودايت، التي ولدت من زبد البحر لأن زيروز كبير الآلهة كان عندما ينجب يعيدهم إلى بطن جارية، وجارية هذه كانت زوجته.

في الأدب العالمي هناك أدب بحار، رواية "ذئب البحار" لجاك لندن، التي تتحدث عن مجاز الصيادين ضد حيوان عجول البحر، وتمثل الرواية وهي من أهم الروايات العالمية التي تحدثت عن البحر، قسوة الصياد والبحارة، وهناك الكثير من الروايات التي تحدثت عن البحر ومنها روايات المستكشفين مثل الماجلان الذي اكتشف طريق الماجلان في جنوب التشيلي.

ومثل فاسكو دي غاما، الذي اكتشف رأس الرجاء الصالح بواسطة ملاح عربي اسمه ابن ماجي، عذبه بالزيت حتى يدله على رأس الرجاء الصالح، بعد ذلك انهارت الحضارة العربية والإسلامية لأن أوروبا وجدت طريقا تجاريا بديلا، فالدولة التاجرة التي كانت كل حياتها تقوم على التجارة والجمارك وخدمة التجار انهارت وتبعها بعد ذلك انهيار ثقافي وفلسفي، وبدأت سيطرت أوروبا نتيجة لمعرفتهم بالبحار وطرقه ونتيجة لامتلاكهم السلاح الناري فيما بعد فسيطروا على العالم.

أهم الكتاب العرب الذين تحدثوا عن البحر هو حنا مينا، كتب عشرات الروايات، ولكن في أحد المرات قال له صديق أنت لست كاتب بحار أنت كاتب سواحل وموانئ، فغضب جدا منه لأنه مس وترا حساسا في داخله. من روايته "حكاية بحار" التي تدل على الجهل التام ليس فقط في البحار بل بالبلدان التي زارها البحار.

عمل حنا مينا منذ كان في الثالث ابتدائي في ميناء طرطوس وميناء اللاذقية وتعرف على حياة الميناء القاسية والقوى الفاعلة في الميناء، ومثل ذلك في روايته "نهاية رجل شجاع" الذي تحدث فيها عن شخصيات الميناء، مثل: الختيار، والبطحيش وقسوتهم.

أما بالشعر العربي فكان للبحر مفهوم رومنسي، هناك قصيدة لإليا أبو ماضي يقول فيها:

 قد سألت البحر يوما هل أنا يا بحر منكا؟

هل صحيح ما رواه بعضهم عني وعنكا؟

أم ترى ما زعموا زوار وبهتانا وإفكا؟

ضحكت أمواجه مني وقالت:

لست أدري!

أيّها البحر، أتدري كم مضت ألف عليكا

وهل الشاطئ يدري أنّه جاث لديكا

وهل الأنهار تدري أنّها منك إليكا

ما الذّي الأمواج قالت حين ثارت؟

هذه القصيدة تلخص كامل أسئلة الإنسان اتجاه البحر وكان لأبو ماضي القدرة الكبيرة لتحويل الأفكار الذهنية إلى شعر.

في الأدب الفلسطيني، فلسطين لم توثق علاقة قوية بالبحر، حتى غزة لم تكن ساحلية بالقدر الكافي ولم يكن فيها صيادين حتى لجئ إليها صيادي يافا وبدأت ملامح حركة الصيد، ولكن بقي الحال على صيادين اصحاب قوارب صغيرة وهؤلاء لا يملكون علاقة عميقة بالبحر كالبحارة الذين يغيبون سنوات طويلة قبل أن يرى أحدهم شاطئ. في الأدب الشعبي كان هناك قصص للبحر مثل "السندباد البحري"، في المنظور الفلسطيني ارتبط البحر باللجوء، البحر الذي أخذ الفلسطينيين ولم يرجعهم الغياب بلا عودة.

البحر عند درويش كان ينحصر بالأبيض المتوسط وهو بحر الثقافات، كما أن كل الثقافات بدأت هناك، الإغريقية العربية الفينيقية الكنعانية الإسلامية، لذلك سماه بحر الثقافات. أطل عليه الكرمل وبيروت ومن تونس. ويعتقد درويش أن البحر المتوسط من شكل للفلسطيني قوة على الثبات وإصرار على الحياة رغم كل الأمور القاسية.

بيروت (بحر  حرب   حبر   ربح)

البحر: أبيض أو رصاصيّ وفي إبريل أخضر،

أزرق، لكنه يحمرّ في كل الشهور إذا غضب

والبحر: مال على دمي

ليكون صورة من أحبّ

الحرب: تهدم مسرحيتنا لتلعب دون نص أو كتاب

الباحث في مؤسسة الدراسات الفلسطينية، سليم تماري، تحدث حول العداء للبحر في الثقافة الشعبية، حيث نشر قبل عشرة سنوات دراسة عن الجبل والبحر وعلاقة الساحل بالجبل وتعرض لهجوم شديد بسبب بعض النقاط.

وقال تماري، "إن عداء الثقافة الشعبية قد تكون كلمة مبسطة، فحداثة البحر وعلاقتها بالجبل حداثة ملتبسة، ورؤيا البحر في الثقافة الفلسطينية فيها عدة تركيبات ليست جميعا سلبية، الأمثال الشعبية في عدة إشارات مبهمة وسلبية كالقول المشهور: موج البحر غدار، ما ييجي من الغرب يسر القلب. هذه أمثال تعكس موقف أكثر عمقا لعلاقة الساحل الشرقي للبحر المتوسط مع البحر، مثلا كيف تبنى البيوت، بحثت في دراستي بين حوالي 30 قرية على الساحل الفلسطيني للبحر و65 قرية على الساحل السوري لا يوجد بينها قرية مبنية على البحر وهي قرية الجورة. القرى كانت تبنى على البحر بعيدة 3 كيلو عنه، واجهاتها للشرق وظهرها للغرب، جزء منها حماية المبنى من الرياح الغربية والهواء البارد، لكن هناك نظرة تشاؤمية لها تنبع من رؤية البحر غدار".

وبين أن الصيادين في شرق البحر المتوسط لم يكونوا يعلموا أولادهم السباحة، لذلك كانت نسبة موت أبناء صيادين فلسطين وسورية أعلى من نسبة الموت العادي بين الناس. لكن في هذا التراث، يوجد علاقة عضوية إيجابية نجدها في المواسم، هناك موسمين هامين في فلسطين لهما علاقة بالبحر، وهما النبي روبين في يافا، وأربعة أيوب في جنوب فلسطين.

النبي روبين يأخذ مجراه في شهر آب، ويستمر شهرا كاملا تنتقل خلاله جماهير واسعة إلى نهر روبين، حيث تلتقي المياه العذبة بالمياه المالحة، ويتم الاحتفاء بموسم الصيف بأهازيج وأغاني وطعام وفسحة تشارك بها جميع الجماهير، وهناك مقولة مشهورة في يافا، "يا بتروبني يا بتطلقني". وكان أهل اللد ويافا مشاركين أساسيين في النبي روبين. وهناك لوحة مشهورة تدل على مشاركة جميع الأديان في المهرجان.

الاحتفال الثاني هو أربعة أيوب احتفاء إشكالي، فالإخوان المسلمين في الفترة الناصرية منعوه في غزة لأن فيه نوع من الفحش في نظرهم، وهو مشاركة النساء العاقرات والنساء على أهبة الزواج في دخول البحر وممارسة نوع من الرمزية الجنسية مع البحر.

مورست هذه الطقوس في كافة المدن الجنوبية (غزة، رفح، دير البلح، خانيونس) في فترة الخمسينات ومنعت في نهاية الخمسينات وبداية الستينات وهي الفترة الناصرية.

اكتشاف البحر كحيز للمتعة هو اكتشاف حديث جدا، ليس فقط في فلسطين، لكن في البحر الأبيض المتوسط، في القرن التاسع عشر لم تكن الناس تسبح في البحر، وهي ممارسة حديثة جدا ليس فقط في الساحل السوري وأنحاء العالم العربي بل في جميع أنحاء البحر المتوسط، في نهاية القرن التاسع عشر وخلال الحرب العالمية الأولى كان هناك نوع من السباحة يمارس فقط في الحمامات المعدنية ولم يكونوا يسبحون في البحر، في الحرب العالمية الثانية فقط بدأت جماهير الطبقة الدنيا والوسطى بالنزول للبحر والسباحة. الاستثناء الوحيد لهذه الظاهرة هو المحيط الهادي، في البرازيل مثلا وجزر سيشل هناك تراث قديم جدا للسباحة، فيما عدا ذلك هو حديث جدا، في فلسطين لم نشاهده إلا في بداية الثلاثينات.

اقرأ/ي أيضًا | حفاوة الافتتاح تطغى على المشاركين في مهرجان الأردن للأفلام

الواضح أن العلاقة التي حولت البحر إلى متعة، هي علاقة جديدة جدا، وانقطاع البحر عنا في النكبة ولد نوع من "النوستالجيا" التي جعلت هوس وهاجس الوصول إلى البحر جزء من الشعور بالضياع وفقدان فلسطين. وبالتالي شعار هذا المشهد الفني "هذا البحر لي" هو استرداد "نوستالجيا" لما فقدناه وإصرار على شيء لم نجده بيننا، هذه العلاقة المعذبة مع البحر علاقة استرجاعية فقدناها واستعدناها النوستالجيا، وفي الواقع إننا مضطرون لأن نواجهها بدراسة "أنثلوبوجية" كنوع لم تعد في أذهاننا إلا في شكل شاعري ولا تمت للواقع الذي كان معاشا بصدق.

التعليقات