31/10/2010 - 11:02

أمسية ثقافية احتفالا بصدور رواية وأضحى الليل أقصر للكاتب جمال ظاهر

-

أمسية ثقافية احتفالا بصدور رواية وأضحى الليل أقصر للكاتب جمال ظاهر
الليل والموت إن اجتمعا كان البوم الثالث الثلاثة من غير سوء. وللبوم في حكايات روما القديمة، ربَّة تُدعي منيرفا. من ذهن أبيها الرب سالت، لا من رحم أمها. جاءت إلى الدنيا وهي تلبس الدرع كاملةً، وتحصن فجرها وفرجها بالحلق الذي لا تنتهك فيه حرمة امرأة ولا آلهة. منيرفا،التي صيَّرها أوفيد "آلهة الصنائع الألف"-آلهة المحاربين العذراء: شعراً، وموسيقى، ورياضيات مقدسة...جيء معها إلى الدنيا برمحها الذي في يسراها، وبومها الذي في اليمنى...لبوم منيرفا في حكايات روما وانتصاراتها خرافاتُه، ولبومها عند ضحايا روما رذائلُ ليس أخفض دركها الشؤم، وفضائلُ ليست ذروة سنامِها الحكمة...بوم منيرفا "طائرٌ محلق"، لا "ال" تحكمه ولا تعريف، محلق في روايات كانت، وأخرى في زمن لم يحالفه الحظ بالتعيّن، وثالثةٌ بين أيدينا ليست قصةَ الموتِ تحكي، ولا الزمنَ السعيد، بل قصةَ "الليل" حين "أضحى أقصر"، بوم منيرفا الرعوي يرتّل "التكوين" على نحو معكوس، يخلقُ الإنسانُ فيهِ الربَّ على صورته، ولا يخلق الربُّ فيه الإنسانَ على صورته، يعلنُ الإنسانُ فيه موتَ ربِّه الذي لم ينجز في "يومه الذي لم يتعيَّن عينيةً(2) سوى أن "قص قصته ومات".(3)

"وأضحى الليل أقصر"، إذن، روايةٌ تحكي التزاحمَ على الخلق إذ تؤسس لتزاحم أكبر على سلطة التسمية، ومن يسمي يخلق، ومن يخلق هو الرب، والرب يصنع الذوات على صورته، كآدمَ وضلعِه، ويصنع الأشياءَ على عينه، كموسى وعصاه، ولا تصنعه الذوات ولا الأشياء. ما قبل الجزء الأول من الرواية، هو سفر تكوينها من غير سوء ولا عنونة، فيه تأويل خاص لأساطير الرب عن خلقه، والخلق عن ربهم "في الزمن السالف،السابق لعصر الصيرورة،(4) وفيه قوة طاردة عن حواف الفن إلى مركزه، وعنف رمزي يحيل ما في اللغة من فاعليات: المعنى، والأخلاق، والسياسة،إلى صنائعَ طيعةٍ في يد الخالق الفذ-مؤلفها الذي منذ السطر الأول في هذا المانفستو الخَلقي يعلن: أولاً، ثورته على خطاطات المستوى الصرفي الشكلانية في ثنائياتها الصغرى والكبرى، لينحت للذوات والأشياء أسماءَها التي لم تُعَلَّم لأحد من قبل. ويعلن، ثانياً، تمرده بسفور على نظرية الإسناد في المستويين الدلالي والتركيبي، ليقلب ترتيب الفاعلية والمفعولية وتراتبيتهما في الجملة العربية، فعلية كانت أم إسمية، رأساً على عقب ليؤسس خطاطات الزمن والفضاء والذوات السابحة فيهما كما كانت دونما لجوء إلى ألاعيب "البَداء" ولا يقين "الكينونة".ويعلن، ثالثاً، براءته من نظرية المجاز الخطيِّ الذي يطابق بين المتشابهات كأنها بحاجة إلى فاعل يحدث المطابقة الحاصلة فعلاً، وينأى إلى بلاغة الاختلاف التي تجسِّر بين المختلفات وتلزمها بعلاقات قربى بالرضاعة، فتغدو الديدان بيضاء، كالموت، مثلا...

تتضافر أضلاع هذا الثالوث الخوارجي معلنةً ميلاد نص رعوي، بطله، وباعث حركته الأولى، ومعيِّن أسمائه ذواتاً في العدم، ومخرجها إلى الوجود، ومحييها، ومميتها، وكاتب صورتها وأسطورتها، هو: الإنسان، الطائر المحلق، القادر، الواحد والمتوحد على جانب النهر في الحلم الأخير، المولودُ لحظة الغسق قبل يوم من انتصاف نيسان: شاهد الرواية، ومشهدُها، وشهيدُها.

هنا، تبرز فكرة اعتزالية قديمة تناقش الإمكانية الموضوعية لإطلاق اسم الشيء على ما لم يـ(نـ)وجد بعد، الزمن الذي يعلن عنه في مفتتح الرواية بأنه "الزمن السالف، السابق لعصر الصيرورة"..تلك هي مقولة "الأعيان الثابتة في العدم" التي تضادُّ المقولةَ الفلسفية الشائعة باستحالة حضور الوجود في العدم، وذلك عبر تفريق شفيف بين حالتي "التجلِّي الأقدس"، وهو ظهور الذات بأسمائها، و"التجلِّي المقدَّس"، أي حضور الأسماء بإظهار العيان أو العالم. هذا التفريق يكافئه، في مصطلح الفلسفة العلمانية، الانتقال من حالة "الوجود بالقوة" إلى حالة "الوجود بالفعل" حين تتحقق "المعاناة".

ما يعنينا، من وراء هذا، هنا، هو إرادة التسمية، أو حضور المسمِّي الذي بوجوده، ورهن إرادته وحسب، ينوجد المسمَّى الذي لا يملك من خصائص الوجود ولا صفاتِه، قبل ذلك،إلا قابلية السماع لأمر المسمِّي كما يؤسس ابن عربي:" لم يكن للأعيان، في حال عدمها، شيء من النسب إلا السمع، فكانت الأعيان مستعدة في ذواتها، في حال عدمها، لقبول الأمر الإلهي إذا ورد عليها بالوجود. فلما أراد لها الوجود قال لها "كن" فتكونت وظهرت في أعيانها فكان الكلام الإلهي أول شيء أدركَتْهُ من الله تعالى بالكلام الذي يليق به سبحانه." هنا، أقول، إن كان المؤلِّف السماوي الموجود، دوماً، في مرتبة " الوجود لا بشرط شيء" قد أخرج الأعيان الثابتة في العدم من حالة الغياب إلى حالة الحضور بحركة خطيَّة أخرجتها من حدِّ الظاهر إلى حدِّ الباطن، فإن المؤلِّف الأرضي، روائياً، وبوجوده المؤقت في مرتبة "الوجود لا بشرط شيء"، قد أخرج حصيلة الفيض من حالة "الوجود بالقوة" إلى حالة "الوجود بالفعل":" لم يسمِّ جمال ضاهر، إذن، أشياءه الفلسطينية والكونية وذواته لينفي عنها تنكيرها الخطي وحسب، بل ليهبها وجوداً موضوعياً ينفحها المعنى المتاح في فضاءات آلة الفناء القدرية، ويقيها خطر الزوال الجُزاف بفعل آلات الإفناء الأرضية بأولها الذي في يد العجوز تدق به رؤوس الديوك الشبقة، وآخرها الذي على أبواب خيانة الجنود ورب الجنود لحراسة القافلة وأنثى القافلة التي في مخدعها تنظر الإله الشبق!

يقول درويش في ليلة البوم-النكبة:
"ههنا حاضرٌ
لا مكانَ لهُ،
ربما أتدبر أمري،وأصرخُ في
ليلة البوم:هل كان ذاك الشقيُّ
أبي،كي يحمّلني عبءَ تاريخهِ؟
ربما أتغيَّرُ في اسمي،وأختارُ
ألفاظَ أمَّي وعاداتِها مثلما ينبغي
أن تكون:كأن تستطيعَ مداعبتي
كلما مسَّ ملحٌ دمي،وكأن تستطيع
معالجتي كلما عضَّني بلبلٌ في فمي(5)

هذه ليلة البوم الدرويشية، أما جمال ضاهر، فليلة بومه أشد غموضاً وحلكةً، إذ تقع في زمن آخر وفضاء آخر برزخيين، أو ربما كانا أقرب إلى الأبدية التي يفقد الزمن فيها فاعليته، ويتجرد حتى من حياده في الوجود، ومن حياد الوجود ذاته كفضاء. هذه رواية تدور في منطقة برزخية، حيث يفقد الزمن معناه، وفاعليته كـ"انفعال بالذهن" أو كـ"منظم للتغير" أو كـ"ناظم لخط البياض وخط السواد اللذين في الحياة والموت يكونان.

"يتكاثف الغموض عبر تقنيات الأسطرة، أو لعلها اللغة التي فقدت قدرتها على الفهم فاقترحت الأسطورة بدلاً جمالياً، وبديلاً تشفيرياً لواقع فاقد القدرة على التموضع على إحداثيات الفهم الذي تقترحه اللغة. تجري الأحداث في لحظة الزمن الصفر التي لا تتسع معها نافذة الرجل الأسطورة-الرب الذي مات، ولا يتغير مشهد الأفق الذي منها يظهر. يموت الناس في كهفهم أو يصحون، ينامون موتاً أصغر، أو يغتلمون بزوجاتهم وتغتلم زوجاتهم بهم موتاً صغيراً petit mort كل ليلة وصباح، دونما تغيير في الإحداثيين الأكبر للوجود: زمان لا يمر، ومكان لا يقر.هنا، يتناص جمال ضاهر مع الرب وجودياً، لا رعوياً وحسب، إذ يجعل من مجهولية الشاهد-الشهيد-المودع في التابوت، ومن مجهولية زوجته، وشبه أبنائه له، ومن الأحلام الأساطير، يخلق كتاب خلقه، روايته، ويجعل الزمن صفراً إذ "لا زمان سار هناك، ولا أحداث كانت...(6) لا تغيير يصيب الأشياء، ولا حتى الفلسفة بإمكانها أن تحرك الزمن المتوقف الذي لا ينفعل الذهن بالمادة لينجزه، ولا يقوى هو على تنظيم التغيير ليثبت للذهن وجوده، حتى لو كان حلق لوكريتيوس على جناح بوم منيرفا...و"نافذة المرحوم المطلة على الأفق المتعرج أصفر، رغم مرور الوقت لم تتسع...(7) في هذا الزمن، تدخل الأخلاق في بيات شتوي، دورمنسي،أو دور منسي وتفقد فاعليتها، فيخذل الحراس رب عملهم في معاونة الكلاب على حراسة الجميلة ويفقدون فاعليتهم، ويخذل رب العمل ربه بارتكاب الخطايا ويفقد فاعليته، ويخذل الرب السوى بالسماح أن تتم هذه الحلقات المترامية من الخذلان الكوني...حتى الرب يفقد فاعليته في زمن الرواية كما يؤثثه جمال ضاهر.

الإله الأسطوري الذي حواه تابوت مشبع بالدود وماء الورد في وقت الغسق، قبل انتصاف نيسان بيوم واحد ولد: فهل أضحى الليل أقصر بولادته-الموت،وموته-الولادة، أم بطيران بوم منيرفا الذي لا ينشر أجنحته إلا قبيل حلول الظلام؟ يقصر الليل، ويطير بوم منيرفا، ويأتي بالخبر اليقين هدهدُ روما،على شهوة من رُشد الفلسفة، وكهولة المجاز، وصَبا الشعر وصِباه، وعلى مسافة من انحطام أصنام الديانات القديمة بفأس غير فأس إبراهيم الصنم...يطلق جمال ضاهر ضحكة عابثة أخرى بوجه التاريخ العابث كثير المزاح، ضحكة كتلك التي أطلقها هيغل متندراً بفضاء التاريخ الذي لم يفشل مرةً واحدةً أن يثبت أنه يحسن المزاح الثقيل. أطلق هيغل ضحكة من ذهب، كضحكات جمال، أو ضحكات ذلك الفقيد-الكبير-الرب الذي في التابوت جثته، أطلقها وهو يشهد إحدى السماجات الثقيلة حين كانت سنابك جيوش نابليون تجتاح أرض ألمانيا، ضحك هيغل ضحكة من ذهب، وتندر تندراً من ذهب:"إن بوم منيرفا لا ينشر أجنحته إلا قبيل حلول الغسق". لا تؤثث الفلسفةُ الحياةَ بالمعنى حين تنتهي، أعني الحياةُ، أو الفلسفةُ، لا فرق بين الرايتين، ولا يكشف الراؤون أفقاً غير مرئي بالطيران إن طاروا...لكنه الطيران المحض، الذي لا معنى له في ذاته، ولا فيما يترك من أثر، لا معنى للطائر كذات أخلاقية، أو معرفية، بل المعنى فيما نودعه فيه من معنى: الجمال الضاهر للطيران،...فشكراً لك أيها البوم الجميل،على هذا الجمال الضاهر.


(1) محاضر في قسم الفلسفة والدراسات الثقافية في جامعة بير زيت
(2) الرواية،117.
(3) الرواية،109.
(4) الرواية،11.
(5)درويش،محمود،لماذا تركت الحصان وحيداً؟،بيروت:رياض الريس للكتب والنشر،1995، 30.
(6) الرواية،88.
(7) الرواية،97.

عقدت في بداية الأسبوع أمسية أدبية وثقافية، احتفالا بصدور رواية واضحي الليل قصر، للكاتب جمال ظاهر، والتي صدرت عن دار الآداب، وذلك في مدينة الناصرة، وبمشاركة عدد كبير من المهتمين بالأدب ومن أصدقاء الكاتب ومقربيه.

أفتتح الأمسية وتولى عرافتها السيد ظاهر ظاهر وقرأ سطورا من الرواية، بعدها قدم الفنان وسام جبران معزوفة موسيقية قصيرة، وثم قدمت مداخلات من قبل كل من السيدة رنا أبو حنا حلو المهتمة بالقراءات الأدبية، والدكتور عبد الرحيم الشيخ المحاضر في قسم الفلسفة والدراسات الثقافية في جامعة بير زيت، ومداخلة ثالثة من د. إسماعيل ناشف المحاضر في قسم العلوم الاجتماعية في جامعة بير زيت.

قدمت رنا حلو قراءة أسمتها قراءة ذاتية للرواية، فبدأت قائلة بأن ليلها أضحى أقصر حين استضافت بحميمية الرواية في سريرها، حيث أعادتها كلمات الأطفال الثلاثة في الرواية، الذين تساءلوا كيف سيكون ولا أب حولنا (ص71) إلى حسرتها على ثلاثة أولاد لها عرف اليتم بيتهم.

أشارت أبو حنا في مداخلتها الى اعتماد الرواية على التكثيف والحذف والاختزال والتفرد كنمط حديث في كتابة الرواية القصيرة المعاصرة. ورأت حضور جمال ضاهر مباشرا في النص، وكما هو في الواقع ، يكتب على هواه و تتحكم فيه أبعاد الكتابة الواقعية ورؤيته الخيالية العجائبية.

مقتبسة من النص قرأت ابو حنا " يأكل ويشرب الخمرة المصنعة من ماء الشعير عند المساء، باردة حدّ الثلوجة كان يفضلها، ويدخن ويمارس الحياة مع أو بدون عقد الخوف من البوح والانكشاف والغوص في أعماق النفس".

ص 56 " كان يحتاط على ثلاثين سيجارة ومنفضتين، واحدة لسجائره والثانية لقاذورات أخرى...لم أره، ولو مرة واحدة، يأكل أثناء احتسائه الخمرة".

تقول ابو حنا هذا هو جمال ظاهر، فهل نكتب غير قصتنا حين نكتب قصة غيرنا، وهل نكتب غير قصة غيرنا حين نكتب قصتنا؟
أشارت أيضا إلى أن الجنس في الرواية هو نقطة الالتقاء والانطلاق في كل مكان وزمان وقد تفنن جمال به حيث لفت انتباهه عري الشجرة، وأثار خياله تجردها ص 56 "جميلة كانت الشجرة بعريها المطلق".

تخللت المداخلات مقطوعة موسيقية أخرى للفنان وسام جبران، وقراءات لسطور من الرواية من قبل الكاتب نفسه.

وأما د. أسماعيل ناشف فقد رأى أن للرواية احداثيات ثلاثة الحياة، الموت والذاكرة، حيث الذاكرة هي الأساس لا الموت ولا الحياة، لأن الذاكرة فعل انساني بينما الموت والحياة لا يبدوان فعلين انسانيين.

أضاف أيضا ان الرواية هي رواية رقمية وليست سردية، والرقم هو ثلاث، ثلاثة اطفال، ثلاثة حراس، ثلاثة كلاب، فجمال لا يستطيع بناء علاقات أحادية بل ثلاثية، ليست هناك أي فكرة اساسية بالرواية دون الرقم ثلاثة.

الرواية رغم انها تبدو مائلة الى التجريد الا ان لها مقولة في الواقع المعاش، الفلسطينيون مثلا يعيشون على التاريخ.

وحول مقولة الرواية قال أيضا ان المركزية الاساسية بها للذاكرة، وهذا اكبر ما يميز الواقع الفلسطيني. واما من ناحية البشرية عامة فالمقولة كلاسيكية وليست استثنائية، حيث بالقرن التاسع عشر ومع اكتمال الشكل الروائي، كان واضحا ان الانسان بالمركز، وبعد 200 سنة يأتي جمال بهذه المقولة، ربما يرتبط هذا مع التجربة الفلسطينية وهذا سؤال أساسي ومفتوح، يميز الرواية مقولتها الجمالية أيضا فعادة المقولة الجمالية تمت بصلة لمفهوم الحياة وهنا للموت جمالية محددة.

وبعد انتهاء المداخلات ناقش بعض الحضور الرواية والمداخلات أيضا، وضمن ما تم الوقوف عليه مناقشة مركز الرواية هل المركزية للكاتب وسيرته الحياتية-داخل الرواية -جمال ظاهر في حالة هذه الرواية. أم للنص ومقولاته ودون علاقة بقائله.

التعليقات