31/10/2010 - 11:02

إستقالة.../إياد البرغوثي

-

إستقالة.../إياد البرغوثي
لم أذهب اليوم للعمل.
نقر الطائر التشريني على شباك مطبخ بيتي فتركت فرشتي الدافئة أكثر من اللازم وقررت أن أزور أمي، وها أنا أعود وقد توقّف المطر وفاجأني ربيع مؤقت.

عندما فتحت شباك غرفة النوم قليلاً، لأعطي دخان سيجارتي الصباحية فرصة للهروب، صفعتني ريح باردة كبخار المُجَمِّد فأغلقته وأطفأت السيجارة. لم تعد زوجتي تتحمل رائحة الدخان.

كلَّمتُه، قلت له إن بطني يؤلمني وكان صوتي مبحوحًا ومقنعًا، فجاوبني بحدته التافهة "لا يهمني، عليك أن تأتي.. كيف سأجد لك بديلاً؟!"، صمتُّ قليلاً "أتريدني أن أتقيأ على الزبائن؟!" سألته فأقفل الخط في أسرع وقت ممكن كي لا يتقيأ هو الآخر وليتصل بالموظفة الروسية الجديدة، لقد درَّبتُه جيدًا حين إنضم للطاقم وعلَّمتُه على برنامج الحاسوب وعلى طريقة التوجّه للزبائن وإرضائهم كما يجب قبل سنة ونصف، فليعمل يومًا وليبقي يوليا في الفرشة الدافئة، فهي الأخرى لم تعد تطيقه.

نقر الطائر الأسود ذو المنقار البرتقالي على شباكي فأيقظني من حلمي وأيقظ فيّ أحلامي وغرائبي، كنت أحلم أنني أعمل في "برج العرب" بدبي.. كان كل شيء يلمع ولم تكن جيوبي تتسع للإكراميات فخبأتها في قميصي وكَبُر كرشي وبدوت سمينًا أكثر، قبل أن أنام قلت لزوجتي "السعادة تبدأ بدولار" فضحكت "نم يا حبيبي، لديك دورية صباحية.. أحلام سعيدة".

كنت أنتظر شهر تشرين كل سنة وأنتظره، كانت أمي تترك فرشتها الدافئة (أقدّر هذا اليوم أكثر من أي وقت مضى) لتحضّر لنا الشطائر وتدهنها باللبنة أو الشوكولاطة، كان الطائر ينقر على شباك مطبخنا وكنا أنا وأمي نبتسم حين نراه ولم يكن أحد غيرنا يعلم بنقراته. "لماذا يزورنا نحن بالذات؟!"

سألتها "أرسل الله معه الحظ.. أرسله لأنه يحبنا"، كنت أبحث عنه في السماء والأشجار والضباب لأني شعرت بأنه يطير حولي ويتبعني ليحميني من الطلاب الأكبر مني، وعندما أجبت، لأول مرة، في حصة الدين بأن الله يرسل طائرًا أسودًا ليحمينا تعوّذت المعلمة من الشيطان "أبله" قالت وضحك عليَّ الأولاد والبنات.

هل سيجلب لي الحظ أخيرًا؟
لم أعد أطيق المدير بالمرة، يستفزني ويثير أعصابي وينغِّص عليَّ أيامي. هو ليس مديرًا بالضبط،هو مدير لقسم الإستقبال في الفندق وفوقه عدة مدراء، أي أنه مُدار أيضًا ويفرِّغ فينا غضبه على نقد مديريه له. مهنته أن يراقبنا وهو مراقَب أيضًا. لا يفوِّت فرصة لرمي الملاحظات المتعالية ويتميز بذاكرة أخطاء قوية وخبرة في لحس المؤخِّرات والوشوشة الواشية. ليس هذا إحساس بالحقد الطبقي فأجره ليس بمغرٍ ولا إستخدام للعنصرية كحجة لتفسير عدم الترقّي والتقدم في العمل، فالحارس "موسى" اليهودي العراقي الأصل، الذي يحب شارون وفريد الأطرش، يشاركني رأيي فيه ويوليا أيضًا.

لقد تذكرت الطائر في الأمس، بعد إجتماع الطاقم الدرامي الذي طرح فيه المدير قضايا النظام والطاعة وأنذرني بشكل مباشر، خرجت غاضبًا وأغلقت غطاء محرك سيارتي بعد أن رويتها بالماء بقوة، فأغلقت كل أبوابها وكانت كل المفاتيح وسجائري وهاتفي في داخلها. كدت أن أبكي وتجمّعت كل أعصابي في وجهي ويداي ولوّنتني بالأحمر وعيناي لم تعد ترى إلا السواد وإشتد المطر ولم أعرف أين سأخبئ نفسي من نفسي "ما كل هذا النحس؟!".

عدت للفندق لأسأل زملائي العرب عن قدراتهم بفتح أبواب السيارة بالطرق غير الإعتيادية فرفعوا أيديهم كأنهم يقرأون الفاتحة، سألني شاب قصير أسمر بالعبرية إن كان يستطيع مساعدتي بشيء فإستغربت وفتحت عيني على وسعهما وأخبرته، ذهب لسيارته وأخرج سلكًا حديديًا ولواه وبخفة سارقة فتح باب السائق، شكرته "كلنا بشر" أجابني. أخرجت المفاتيح والسجائر وهممت لأسأله عن أسمه ولم يكن هو هناك ولا سيارته، إختفى.

جلست على السرير قبل أن أمشي على الأرض الباردة، لا أذكر من نصحني أن أجلس عند الإستيقاظ لكني أذكر أن لهذا علاقة بالدم أو بالدوران ولكن نقر الطائر سرّعني فمشيت.

شباك مطبخ بيت أهلي تشوَّه قليلاً من النقر ولم أخف على شباكي بل أردته أن ينقر.. أردت حظًا. نظرت إليه ولم يهرب وتركته ينقر.. أنقر أنقر!

كان الحلم الخليجي لا يزال يلصق إبتسامةً على وجهي كأني ربحت كل هذه الدولارات حقًا، كانت بدلة "فرساتشي" السوداء معلقة على الشمّاعة، هذه البدلة السوداء خدعة وها هي تفاصيل حسابي في البنك، إنني أعيش في "المينوس".

كون جدي عبد الله، الله يرحمه، كان يلبس عمامة بيضاء كالتي يلبسها أمراء الخليج لا يشفع لي. كيف أستطيع أن أذهب للعمل هناك؟ هل أستطيع أصلاً؟ ليس بالضرورة في برج العرب سأرضى "بالنخلة" التي بنوها في البحر. ما أعظمها. لو كان أخي إبراهيم هنا لساعدني في إيجاد طريقة، أفضل من أن أذوب في خزان محترق، لأدخل الخليج.

عندما زرت إبراهيم في عمان، حيث يدرس الصيدلة في الجامعة الأهلية، ذهبنا سويةً لزيارة إبن عم أبي في الفيلا الحجرية البيضاء في حي عبدون، التي بناها بعد طرده من الكويت إثر حرب الخليج، وكان رجلاً مثيرًا للإعجاب وحياته المتشردة بين عمان والجزائر والعراق والكويت أخذت منا السهرة وأخذتنا في رحلة كلمات مشوّقة، ليلتها لم أنطق بكلمة عبرية واحدة ما عدا "بسيدر" (حسنًا). وكان أخي منبهرًا به ينظر إليه بعيون مستوعبة حافظة كتلميذ مجتهد وكان الرجل أبًا مؤقتًا له، فإبراهيم لا يستطع العيش مع أب واحد ولا لوحده.

لقد طلب مني أبي أن أذهب لإحضار إبراهيم من بين المواجهات مع الشرطة عندما حاول عنصريون يهود إقتحام الناصرة في تشرين قبل خمس سنين، كانوا آلافًا من كل الجليل وكان بينهم ووجدته بسهولة لأنه كان يصرخ، لقد غضب فالشرطة تحمي المهاجمين وتقتل المدافعين عن مدينة مهزومة وتسيل دموعهم بدخان. مشيت يومها بين الدخان وسمعت صوته وخفت عليه وفهمته وبكيت فرمت لي إمرأة البصل بتلقائية ولم يعد هو معي. ذهب لعمان بعد تشرين وأصبحت هويته التي أوجع رأسي بالحديث عنها رقمًا مختصرًا: 48.

لم يكن إبراهيم ليدرس الصيدلة لولا رغبته بمهنة حرة وظنه المتعالي الدائم أنه يستطيع أن يعرف ما دواء الداء، عندما كنّا صغارًا كانت خلافاتنا في الليل بعد أن ندخل للسرير على من سيطفئ الكهرباء ثم أصبح يتكلم في السياسة أكثر من اللازم ويركِّب لي جملاً طويلة من مصطلحات سياسية وفكرية لم أكن أفهمها. وكان هو وأصدقاؤه يسهرون في بيتي قبل أن أسكن فيه ويغنون للشيخ إمام ويسمعون "بينك فلويد" و"بوب مارلي". لقد إبتعدت عنه فترتها لأني كنت منهمكًا بالعمل لأتزوج ولأني إعتبرت كلامهم عن التغيير ضياعًا للوقت، إنه صادق غير واقعي أو أن الواقع غير عادل.

كان النقر والمطر قد توقفا عندما هممت للخروج من بيتي فتشرين شتاء مزاجي والطائر ضيف لَبِق.
"لماذا لم تذهب للعمل؟!"
"صباح النور!"
"حافظ على وظيفتك يمّا.. "
"سأبدأ بالبحث عن عملٍ آخر"
"لا تترك قبل أن تجد وظيفة أخرى.." سكتت "أصبر.. فقد تتقدم" أضافت.
"الفندق نفسه لا يتقدم.. ما دامت السياحة نفسها غير قادمة لهذه البلاد المقدسة.. وهناك سقف يا أمي!"
"لقد تقدم غيرك"..

صمتُّ ونظرت إليها معاتبًا على إهانتي غير المباشرة، تشعرني أمي بأنني مذنب دائمًا وبأني قد خذلتها دون أن تكون واعية لهذا. لديها أمثلة وحكم دائمًا وما يستفزني أنها تصدق غالبًا.

"لقد زارني الطائر الأسود ذو المنقار البرتقالي.. هل تتذكرينه؟"
"طبعًا" وخجلت من الذكرى كأني سألتها عن أيام خطبتها ونظرت إليَّ كأني في الصف الخامس.
"لك سلام من إبراهيم.. سيعود في نهاية الأسبوع ليودع البيت. سيبدأ المقاول بالترميم يوم الإثنين وسننام أنا وأبيك عند جدتك".
لم نرمم بيتنا من قبل، لم نعد بناءه.
لم أستوعب معنى الترميم قبل هذه اللحظة. ماذا سيبقى؟ ماذا سيُزال؟ هل الذاكرة هي بيت البيت بعد الآن؟ أم علاقة الأسرة إستمرارية روحه؟
"البيت بناسُه.. يمّا!"

رنّ هاتفي الخلوي فجأةً وكنت قد وضعته على طاولة الصالون التي كنا نجلس كلنا عليها فقط في رمضان.

"أهلاً.. أفضل.. ماذا؟.. حسنًا، تكلم. لا لا غير صحيح.. لست مستهترًا.. لا تكلمني بلغة الإخلاص والإلتزام.. نعم؟ أنا مهمل وكثير الأخطاء؟! لا تكلّمني هكذا.. لا دخل لك بحياتي ولست عبدًا عندك.. ماذا تريد في النهاية؟! أنا موافق.. حضِّروا شيك التعويضات.. باي!"

"أقالوك؟!"
"لا.. قدموني!"
"لماذا ؟!"
"إسمعي يمّا.. لقد إستقلت.. آه؟!"
"ماذا ستفعل؟!"
"سأتدبر أموري..لا تقلقي."
عند الباب قلت لها "سلامي لإبراهيم.. قولي له إنني أريده.. سلامات".
صعدت على الدرج قاصدًا بيتي، الغيوم كانت قد هاجرت لبلاد أُمنع من زيارتها وقوس قزح كان قد حوّل سماء حيِّنا الى رسمة طفولية. عدت لسؤالي الطفولي: هل أستطيع أن أمسكه؟ أم هو وهم أم خدعة؟ نظرت إليه وشعرت بالراحة.

لن أكرر الجمل ذاتها بعد الآن، لن أبتسم للخائنين والخائنات الذين يستأجرون الغرف لساعتين، ولن أعامل بلطف زائد زبائن وقحين.

لقد عرفني الكثير من الناس هناك، وحان الأوان أن أستفيد أنا من مواهبي الإجتماعية، أن أكون مستقلاً وأدير نفسي بنفسي. هذا من حقي.

حلَّق من أمامي وإبتَسَمَ لي وإخترق قوس القزح.
ماذا سأفعل أيها الشحرور؟ هل من حظي أني طردت ؟! أجلب لي الحظ، أنقر‍!‍‍‍‍

لن أشعل سيجارة لأجل زوجتي، فهي تخاف عليَّ ولا تطيق رائحته. سأشعل أفكاري وطاقاتي لأسعدها، سأخبرها عن الطائر وعن المدير وعن الحلم. لكنها لا زالت نائمة في الفرشة الدافئة.
صفعتني ريح باردة فوقف شعر يدي وإستيقظت مساماتها.
لن أذهب غدًا للعمل.

22/09/2005
الناصرة

التعليقات