31/10/2010 - 11:02

الحركة والثبات توأمان لا يفترقان (نصّ للشبيبة) / د.سمير خلايله

-

 الحركة والثبات توأمان لا يفترقان (نصّ للشبيبة) / د.سمير خلايله
كانت نور تبحث عن شجرة عالية تستظل بها وتأنس بحضور جمالها على مقربة من النهر بعد نصف ساعة من عدوها الصباحي. أخيرا وجدتها نور بعيدة عن مساكن ودور الناس وأطلقت عليها اسم "شجرة الأنس".

إستلقت نور على الارض ,اتكأت الى جذع الشجرة وراحت تتأمل النهر وما يحيطه من الجمال. لقد خيم الهدوء والسكينة على المكان وأخذت نور تتأمل حركة المياه في النهر. فقد بهرها سيلان وجريان المياه في النهر. ركزّت نظرها على قطعة خشب تسير مع التيّار وراحت تتبع مسارها في النهر واذا بخشبة أكبر تسير وراءها ببطء على وجه الماء تمرّ أمام عينيها، عندها تذّكرت نور حديثها مع أبيها سمير حول فكرة الفيلسوف اليوناني القديم هرقليطوس الذي صاغ فكرة السيلان والحركة والتغيير الدائم للأشياء. إنّ الإنسان لا يستطيع أن يطأ مياه النهر مرتين لأن مياه النهر تتبدّل بحركة دائمة وبسيلان متجدّد. فمبدأ التغيير والحركة يشمل كلّ الاشياء وتدور في فلكه.

كل شيء في سيلان دائم إلا مبدأ التغير ذاته فلا يتغيير ويتبدل. يحكى أنّ تلميذا فذا إعترض على فكرة معلمه الفيلسوف قائلا إنّ الإنسان لا يستطيع أن يطأ النهر حتى مرة واحدة لأن هوية وذات النهر نفسها غير ثابتة وفي تغير وتجدد دائم. ما أسعد معلم يحظى بـأن يعلّم تلميذا كهذا! إبتسمت نور لفكرة التلميذ الفذ عندما استرجعت في ذاكرتها حديث أبيها وأحسست أن بإمكان التلميذ او التلميذة أن يجادل ويحاور المعلم او المعلمة وحتى التفوق عليه او عليها في بعض الأحيان.

بينما كانت نور تتأمل حركة قطع الخشب في النهر، فجأة لمحت صديقها أنيس يعدو أمامها فاستغربت لانها لم تتوقع أن أحدا من تلاميذ مدرستها يعدو في هذه المنطقة في مثل هذه الساعة. أكمل أنيس عدوه وما أن راح يقبل باتجاهها حتى هتفـت"أنيس!"، التفت أنيس وإذا بصديقته نور تتكئ على جذع شجرة كبيرة، اقترب منها وحيّاها مبتسما. دعته نور للجلوس فقبل أنيس ثم راحا يدردشان حول فكرة العدو الصباحي وامور المدرسة والاصدقاء والأهل. أثناء تبادلهما أطراف الحديث، طرحت نورالسؤال على أنيس:
"هل تعتقد أنّ الحركة والتغير تلزم وجود شيء ثابت لا يتحوّل ولا يتبدل؟"

فكرّ أنيس قليلا وأجاب: "لا بدّ أن تكون هناك مجموعة من القوانين الكليّة الثابتة التي تضبط حركة الأشياء والاجسام وهذا يفسّر استمرارية ودوام الأمور على ما هي دون فوضوية وانزياح!"

نور: هل تقصد أنّ قوانين الطبيعة لا تتبّدل ولهذا تمكّننا من تنبؤ حركة الأمور كما يجب؟

أنيس: بالضبط تماما، اذا أخذنا التفسير العلمي لقانون الجاذبية لنيوتن مثلا فانّه يفسر لنا سقوط أي جسم نرميه الى الأعلى على الأرض. فلا تسقط التفاحة الى أعلى أبدا!

نور: ألا تعتقد أنّه لا يمكن أن يكون هناك حركة وتغيير دون افتراض نقطة مركزية ثابتة، كما هو حال الدائرة بالنسبة للنقطة المركزية أو ثبات النهر وتغير المياه التي تجري وتتجدد فيه باندفاعه نحو مصبّه؟

أنيس: بلى، الدليل على ذالك أنّ الإنسان العادي يعتقد أنّ كل شيء نسبي وينسى أنّ مفهوم النسبة يتطلب تعبيرا آخر محذوفا عادة يكون هو النقطة الثابتة تماما مثل عبارة "الله أكبر" التي تعني "الله أكبر من كل شيء" فعبارة "من كل شيء " محذوفة في الجملة الأولى.

نور: هل تقصد أن كل شيء نسبي لشيء أخر معناه أنّ الشيء الآخر هو الأمر الثابت؟

أنيس: نعم. التحليل اللغوي، يا نور، عادة يساعدنا في تجنب أغلاط شائعة وفي تفادي الانزلاق الى هوة عدم فهم الامور والمغالطة. تنجم المشاكل الفلسفية عندما تخرج اللغة الى عطلة على حد تعبير فيلسوف مشهور. فهناك من يقول"الكلّ يكذب" ولا يعي أنّه هو ذاته يدخل حيّز ومجال الكذّابين ومن هنا يقع في شرك الجهل اللغوي وتفوهه بالجملة يتناقض مع قصده في الادعاء.

نور: أفهم من كلامك أنّنا لا نستطيع أن نتكلم عن حركة الكون ككل ما دمنا لا نقدر على تصوّر أو حتى تخيّل نقطة ثابتة داخل أو خارج هذا الكون الكبير؟

أنيس: لست متأكدا تماما. مجرد الحديث عن حركة الكون ككل يتطلب منا الخروج ربما عن التفسير العلمي المحض الى مجرد التخمين والأعتقاد لأنّنا عمليا عندما نبدأ في تأويل وتفسير أيّ شيء لا نبدأ من البداية انما نكون صرنا في الوسط كما يقول الفلاسفة لأنّ أي تصوّر فكري ينطلق من مجموعة من اليقينيات والافتراضات التي لا يمكن تفسيرها وبرهنتنها بنور العقل بشكل قاطع أو اخراج كل الامكانيات المنطقية للبدء في مجموعة أخرى من الافتراضات واليقينيات.

نور: أستنتج من كلامك يا أنيس أنّ الأيدولوجيات والنظريات الكبيرة تنطلق من افتراضات مسلم بها وهذا اذن يتطلب منّا مرونة وتسامح فكري وعقائدي لدرجة قبول العقل بمبدأ التعددية الفكرية والعقائدية. والقبض على الحقيقه هو نتيجة البحث من طرق كثيرة متشعبة ومستويات مختلفة وربما هناك طرق كثيرة تؤدي الى الوصول الى طاحونة الحقائق والماهيات. فنحن نشبه الناس العميان الذي كانوا يتحسسون فيلا واعتقد كلّ منهم أنّ الجزء الذي لمسه في الفيل هو الشيء كلّه.
بالاختلاف والحوار تستنير وتستأنس العقول والقلوب في اعتقادي.

أنيس: دعينا ننهي هذا الحديث الشيق الذي أثرته ونكمل النقاش في فرصة أخرى لأني أشعر بالتعب ويجب العودة الى البيت.

نور: أنت على حق يا أنيس. سنلتقى في فرصة قريبة. الى اللقاء!

التعليقات