31/10/2010 - 11:02

الـنــســر الــغـريــق/ ناصر ثابت

الـنــســر   الــغـريــق/ ناصر ثابت

-1-

تمشي وحيداً في الشوارع تحتَ زخـاتِ المطـرْ

وتجرُّ خلفكَ ذكريـاتٍ فـي الدفاتـر والصُّـوَرْ

وجعُ المدينةِ بانَ فـي عينيـك حينـا وانكسـرْ

-2-

تمشي وحيدا باحثا عـن كـوخِ آلهـةِ الفِكَـرْ

ثملا تغني فـي خشـوعٍ للسناجـب والشجـرْ

متوغلاً في النـوحِ، تنصـتُ للحمائـم والنَّهَـرْ

فكأن وجهكَ والبكـاءَ قصيدتـان عـن القـدرْ

-3-

أبقيتَ ظلـكَ فـي بـلادٍ لا تغادرهـا السمـاءْ

وأخذتَ هامتك العريقة وانسلختَ عـن البشـرْ

وعـن الرياحيـن الطريـة والدفاتـر والدمـاءْ

وركبتَ بحرَ الروحِ بحثاً عن مساحاتِ الشتـاءْ

فكـأنَّ قلبـكَ مولـعٌ بالإرتـحـالِ وبالسَّـفَـرْ

حتى تركـتَ كلامَـك الفضـيَّ يعبـثُ بالفـؤادْ

وينيـرُ أقبيـة القوافـي بالأغانـي والسهـاد

-4-

أيـارُ شهـرٌ باهـتٌ، فيـه التقلـبُ والسـوادْ

فتراه يبخـلُ بالقصائـدِ، قاتـلاً نبـضَ المـدادْ

ويرشُّ فوقَ صدورِنا لهبـا، ويمنحُنـا المطـرْ

أيارُ حين يرى دموعَك أنـتَ يرغـبُ بازديـادْ

فامنحْه أحلاماً رسمتَ على الزنابـقِ والتـرابْ

واسمعْ أناشيدَ المناراتِ الطويلـةِ والضبـاب..

واقرأ له عند الغروبِ قصيدة "الأرض اليبـابْ"*

-5-

الشعر فعلٌ فاضحٌ، فامسـحْ جبينـكَ بالسـرابْ

واستجدِ آلهة الخلودِ، فأنتَ تدخلُ فـي الغيـابْ

-6-

صوتُ القطارات استفاقَ، وحان وقت الإرتقـاءْ

فاكتبْ قصائدك العقيمة فـوق أجنحـةِ العتـابْ

أكتبْ، لعلـكَ بالحـروفِ تـردُّّ غانيـةَ النـدى

تلك التي أصبحتَ عنـدَ بيـاضِ كفيهـا سُـدى

أكتبْ، فإنك هائمٌ فيهـا، وقـد حَضَـرَ الـردى

واغسلْ أناملها الصغيـرةَ بالضيـاءِ وبالصَّـدى

وافتحْ لها أرضَ الفؤاد، ومـدَّ للعشـق المَـدى

متوهمـاً (بعـدَ افتـراشِ نهودِهـا) أن تَخلُـدا

فهيَ انقضاءُ العُمرِ وهي فراشةٌ بيـن الحقـولْ

فـإذا لمسـتَ بيـاضَ زنديهـا وقبّلـتَ اليـدا

ستذوبُ مثلَ الثلجِ فاجمعْ روعة الجَسدِ الجَميـلْ

واسكبْ خلاصَةَ روحِها، قبلَ التوغلِ في الأفـولْ

-7-

زخاتُ هذي الغيمةِ الحمراءِ تصبـغُ معصميـكْ

وتعـودُ رائحـةُ التـرابِ بكـلِّ لَذتهـا إليـكْ

حتى الحشائشُ ليسَ فيها غيرُ أمتعـةِ الرَّحيـلْ

حتى الشوارعُ والجَـداولُ والمنـازلُ والسيـولْ

فضياعُ مثلِكَ في المدائنِ والصَحاري قد يطـولْ

والحزن أيضا قد يعششُّ في الفـؤادِ ولا يـزولْ

والمِلحُ في الدمع الذي يهوى الترقرقَ والهطولْ

والشعرُ، والألم الذي يسمو مع الجسـدِ العليـلْ

الشعر كالألم المعتقِ حينَ يُهرَقُ فـي الكـؤوسْ

-8-

تبدو حبيساً كالنـوارسِ فـي متاهـاتِ الزمـنْ

وعلى حدودِ العُمرِ تسكنُـكَ الموانـئُ والسُّفُـنْ

والبحرُ في غضبٍ يخاطِبُ ما نثثتَ من الشجَـنْ

تشدو، وأجراسُ الكنائـسِ لا تـدقُّ ولا تَـرنْ

في الحزنِ أنتَ تظلُّ وحدَك كالطيور بـلا وطـنْ

تمشي وحيداً مثـلَ أرواح الغيـومِ بـلا بـدنْ

وتخاطبُ الظلماتِ، تسبحُ في الرياح وفي الرمالْ

وتطلُّ من بين الحكايا، حاملا بـؤسَ الكفـنْ...

-9-

تبدو حزيناً، والصـلاةُ اليـومَ تُسكِـرُ كالنبيـذْ

فاحملْ تفاصيلَ انتحارك فـي تشاؤمـكَ اللذيـذْ

وإذا نهضتَ من المماتِ، فعد إلى ذات السـؤالْ

من أنت؟ ما الأحلام؟ ما الشعرُ المحلقُ بالخيالْ؟

حتى تعودَ لك الحروفُ بما تريـدُ لـكَ الجبـالْ

-10-

النهر يسري هادئاً بينَ الحَشائـش والغصـونْ

لا موجَ فيه، كأن تحـتَ ثيابِـه السـرَّ الدفيـنْ

ماذا سيحدثُ لـو تفجَّـرَ بالـزلازلِ والجنـونْ؟

ماذا سيحدث للسمـاءِ، وللتـرابِ، وللسكـونْ؟

أتراكَ سوفَ تعيدُ رسمَ الشمس في قلبِ السماءْ؟

متوهماً أن القصائـدَ فـي حياتِـك قـد تعـودْ

أرسلْ عظامَك للمقابـرِ قبـلَ أنْ يلـدَ الوجـودْ

وأنثر عليها ما تيسَّـرَ مـن دمائِـك والـورودْ

فلعلَّ هذا النهرَ تسبـحُ فيـه قامـاتُ الرعـودْ

يبـدو كئيبـاً، والمشـردُ فـوقَ ضفتِـه ينـامْ

قذراً، وكثَّ الشَّعرِ يلتحفُ الرطوبـة والسُّخـامْ

تركَ المدينـةَ، والعَمَـاراتِ العظيمـةَ والزحـامْ

واختار هذا النهرَ متكئـاً علـى بعـضِ الركـامْ

فتراهُ يبحثُ كلَّ يـومٍ عـن بقايـا مـن طعـامْ

بين القمامـةِ والشقائـقِ والجنـادِبِ والحَمـامْ

هو غارقٌ في عالـمٍ أركانـه صمـتُ المكـانْ

يهفو إلى مَن حين يعبـر قـد يبادلـه السـلامْ

يهفـو إلـى وجـهٍ يجاذبـه خيـوطَ الإبتسـامْ

وتمـرُّ أنـتَ أمامَـه متثاقـلاً مـرَّ الـكـرامْ

هـلا وقفـتَ مفكـراً بقسـاوةِ الدنيـا قليـلا؟

ماذا تريدُ؟ ألا ترى الإنسانَ كيف يصيرُ غـولا؟

يؤذي أخاه، وليسَ يعرفُ كيف يمكنُ أن يـؤولا

وتظلُّ أنتَ مسافراً في الشعرِ تحتـرفُ الرحيـلا

تبكي على الأيام، تمسحُ وجههَا الغـضَّ العليـلا

هلا حملتَ إلى المدينةِ بعضَ دمـعِ المعدميـنْ؟

هلا حملتَ لها من الأناتِ مـا يُبكـي العيـونْ؟

علّ الذيـن يسابقـون العصـرَ، أو يتطايـرون

فوق المدى، ويراقصـونَ نساءَهـم يتذكـرونْ

أن الحياةَ تدور دورتهـا علـى مـر السنيـنْ

-11-

تبدو حزيناً، هل أخذتَ الحُزنَ من هذا المقـامْ؟

فارجعْ إلى الأشجار وانظر كيفَ تزهرُ كلَّ عـامْ

وارقبْ صِباها حيـن تبـدأ بالتـزاوج والغـرامْ

أعد الحياة إلـى فـؤادك، جـددِ الأمـل النديـا

وانصتْ إلى صوتِ الطيور يدور فتانـا شجيـا

-12-

جاءَ المساءُ، وأنت تبحرُ بين أشرعةِ الضبـابْ

فبدأتَ تبحث عن قطارٍ يعبـرُ العشـبَ الطريـا

ويضيعُ في أفق القصائدِ حامـلا غـدكَ الشقيـا

لا يعـرف الشعـراء كيـف يكـررون إناثَهـم

فخذ الرياحَ وعدْ بلا قلبٍ إلى الماضي السَّحيـقْ

وامزجْ تنهدَكَ المعتَّـقَ مـع تلافيـفِ الطريـق

فغدا ستمشي في دروبك تحـتَ زخـات المطـر

وستنتفي في الغربة السوداءِ كالنسـر الغريـقْ

ولسوف تبحثُ عن بقايا الشعر في جوف البريقْ

حتى تشاركَكَ الغيـومُ همومَهـا عنـدَ السَحَـرْ

وترشَّ فوقك عطرها، وتردَّ أنت بـلا اكتـراث

وتسيرَ محزوناً كـأن الحـزنَ سـرُّ الإنبعـاثْ

وتظلَّ تبحثُ بين أفكار المدائـن عـن صديـق

وتـظـلَّ تبـحـثُ عـــن صـديــق....

----------------------------------------------------


* قصيدة الأرض اليباب للشاعر الأمريكي الكبير ت.إس. إليوت

التعليقات