31/10/2010 - 11:02

المزارات بوابات السماء/ أحمد زين الدين

-

المزارات بوابات السماء/ أحمد زين الدين
ذكر ابن الأثير في كتابه “الكامل في التاريخ” ان المتوكل العباسي الذي تولى الحكم عام 232 هجرية كان شديد النقمة على آل علي وشيعتهم، فحينما رأى تعاظم الاهتمام بمرقد الإمام الحسين في كربلاء وتكاثر زواره، أمر بهدم قبره، وهدم ما حوله من المنازل، ومنع الناس من زيارته. ج.4 (ص 375).

فالمقام هنا، وكل مقام ومزار ديني آخر يحوي جسد ولي او قديس، بؤرة روحية محمّلة بالقوة المافوق طبيعية، لاعتبار المسجى فيه، من المصطفين من الخلائق. بؤرة تنفصل عن مكانها العادي المجانس لأنها مملوءة بنفسها، مشبعة بقداسة ما تضمّه في جنباتها. والسفر الى هذا المقام او ذاك من مقامات ومراقد الأئمة والأولياء من السنة والشيعة، وكل القديسين في كل الأديان والطوائف. انتقال من عالم دنيوي وحقيقة أرضية، الى عالم أخروي وحقيقة سماوية. والعين الدينية التقليدية تأبى إلا ان ترى انبثاث هذا الفضاء القدسي حولها، وهو ما تمثله مقامات ومزارات الأولياء والقديسين في كل مكان.

لذلك انتشرت في العالم الإسلامي مقامات الأولياء وشكلت مع مرور الزمن، المحور الذي استقطب النشاطات الاقتصادية والعلمية والثقافية. وعديد من المدن تأسست حول ضريح من أضرحة، وبنيت حوله تدريجا البيوت والفنادق والأسواق. ومنحت هذه الأضرحة المقدسة والمقامات والمزارات أسماءها الى المدن والأحياء والقرى كالكاظمية والأعظمية في العراق والسيدة في القاهرة، والستّ زينب في دمشق، والنبي شيث والنبي أيلا، في البقاع اللبناني. بل وُضعت بعض المهن والأعمال في المغرب العربي تحت رعاية واحد من هؤلاء الأولياء. مثل سيدي يعقوب الدباغ في فاس راعي مهنة الدباغة، وسيدي علي بو غالب راعي الحلاقين، وسيدي محمد بن عباد راعي السكافين، وسيدي ميمون الفخار راعي صناعة الفخار. كذلك للطحانين راع هو حماموش. وفي مراكش يحمي سيدي بلعباس صانعي الصابون، وسيدي مسعود البنائين، وسيدي عبد الله شريف الخياطين.

أما علة رعاية هذه المهن والأشغال فمردها الى ان بعض الأولياء كانوا يمتهنون في حياتهم المهن عينها التي يرعونها، مثل مولاي سيدي يعقوب الذي كان يشتغل في الدباغة وسيدي ميمون صانع الفخار (راجع كتاب درمنغهام بالفرنسية “عبادة الأولياء في الإسلام المغربي” ص 164-163). وكان اصحاب هذه المهن يخصصون يوما من السنة لزيارة مقامات رعاتهم وشفعائهم لمباركة أعمالهم وصناعاتهم، حماية لها من التلف أو الكساد.

وقلّما خلت بقعة من الأرض في العالم الإسلامي من قبة تظلل ضريح وليّ، يلوذ به القاطنون في المنطقة او الجوار. وغالبا ما اكتنف الغموض اسم الوليّ، او حقيقة وجوده في الموقع المسمى باسمه. وكان من جراء عدم تشخيص صاحب الاسم، انه كان يختلف من قوم الى قوم، ومن عصر الى عصر، كما حصل عندما تنازعت الطائفتان السنية والشيعية منذ فترة، على ملكية أحد المقامات في وسط بيروت، ناسبة كلتاهما صاحب المقام إليها. وربما أُقيم البناء او أُعيد ترميمه على جدث مجهول، وأحيانا على اسم مختلق، او على معبد وثني في الأصل. مثلما هي الحال في العديد من مزارات المغرب العربي التي أقيمت على معابد رومانية. وعزا سكان المنطقة الى أولياء المزارات المزعومة قدرات، كانت تُنسب عادة الى أرباب رومانيين ويونانيين، وعلى رأسهم القدرة على الشفاء التي كانت من صفات الإله أسكاليبوس رب الصحة.

كذلك أقيمت في بلاد الهلال الخصيب بعض المزارات على بقايا معابد عشتار وتموز. وربما عددت المقامات والأضرحة للشخص الواحد بين منطقة ومنطقة وبلد وبلد. كما في ضريح الإمام الحسين في كربلاء حيث استشهد في موقعة الطف، وضريحه في القاهرة الذي يُزعم انه دُفن فيه رأسه. كذلك تتعدد أضرحة النبي الواحد بين أكثر من منطقة وبلد، مثل آدم وشيث ونوح وإيليا ويوسف. ويزداد عدد هذه الأضرحة المقدسة مع الزمن، عندما يُكشف عن قبور بعض الذين يمتون بصلة قرابة الى أصحاب هذه المقامات المعروفة. وربما انتحلت لهم الأنساب التي تعود الى الأئمة والصحابة تعظيما لهم وإثباتا لصحة ما يزعمون. وأحيانا تُفضي أحلام ورؤى بعض الناس، خصوصا البسطاء منهم، لاعتبار الرؤيا إرهاصا بالكرامات، الى ظهور قبور درست او نسيت. وفي أوقات محددة، تتبدل صور هذا الوليّ وذاك، ويظهر لزواره بصور حيوانات او بصور زواحف او طيور.

وتقول الرواية ان سيدي علي مبارك في المغرب يتقمّص، عندما يغضب على أتباعه، صورة الأسد. وفي قرية شمسطار البقاعية يقول بعض القرويين ان النبي (نجّوم) يتمظهر على صورة أفعى. وتمثل الأيقونات المسيحية القديس فرنسوا الأسيزي وهو يخاطب الذئب وتحطّ عليه الطيور. ويصوّر الرسام الإيراني الغزلان وحيوانات برية أخرى، وهي تجتمع بين يدي الإمام الرضا مصغية الى حديثه. وهو الملم بلغات الطير والحيوان حسب المأثور. ولعل في هذه التمظهرات الحيوانية بقية من موروث الفكر الديني الطوطمي، او هي دلالة من دلالات كرامة الولي. “وتقوم هذه الكرامة على رفع الحواجز بين هذا الولي والكائنات في الطبيعة”. (“الكرامة الصوفية والأسطورة والحلم”: د. علي زيعور ص 142. )

المقامات والعتبات المقدسة قائمة على الامتلاء بأشعة هذا المقدس. فهي بوابات السماء. ولا يدنو المرء منها إلا باعتماد حركات وإشارات مقننة، تجعله خليقا بالاقتراب من المنابع الروحية التي تشيع في المكان. وتسمية المزارات عند الشيعة بالعتبات ذات دلالة عميقة على فكرة العتبة، في الذهنية الدينية التقليدية كحد فاصل بين عالمين: داخلي مقدس، وخارجي مدنس. وبين زمنين: زمن داخلي روحي، وزمن خارجي مادي. إذ كان يترتب على اجتياز العتبة في كل الأديان طقوس محددة. لذلك على الشيعي الزائر ان يستأذن الإمام صاحب المقام بدعاء خاص. كأن يقول في زيارة الإمام علي بن موسى الرضا: “ائذن لي يا مولاي في الدخول أفضل ما أذنت لأحد من أوليائك، فإن لم أكن أهلا لذلك فأنت أهل لذلك” (مفاتيح الجنان: عباس القمي ص 418 419). ولكل مقام دعاء خاص يمكن الرجوع إليه في كتاب “مفاتيح الجنان”. بل ثمة أدعية يتوجه فيها الشيعي من بعيد الى كل إمام، هي بمثابة زيارة روحية له، واقتراب وجداني منه.

كذلك كانت التسميات الأخرى التي يطلقها الشيعة على مزارات أئمتهم ذات دلالة أيضا على الايحاء بأن هؤلاء الأئمة أحياء يُرزقون، يسمعون صوت الزائر القادم لزيارتهم، وصوت الشاكي المظلوم. لذلك يتحاشى الزائرون تسمية القبر باسمه لدلالاته على الموت والفناء، ويسمّونه بدل ذلك الروضة لما في الكلمة من معاني الخصوبة والحياة، وإشعارا بأن المقام يعكس حالة فردوسية، كأنما الزائر في روضة من رياض الجنان. او يسمّونه المشهد، لأن الناس يشهدون على مثول الإمام بينهم، من خلال قدراته ومعاجزه.

وورد في آداب زيارة الأئمة ان على المسلم ان يغتسل قبل دخول المرقد، وأن يقف على مدخله، ويلثم عتبته وأبوابه، ويتلو دعاءً خاصاً، ثم يدخل، ويقدم رجله اليمنى فإذا وصل باب القبة وقف عليه، واستأذن من الإمام. ثم يقف مستقبلا القبر، ثم يتنكّب عليه ويقبله، ويعفّر خديه يمينا ويسارا. ويدعو بما يريد ثم يصلي ركعتين للزيارة، ويسأل حاجته. وحث العلماء الشيعة أتباعهم على الإكثار من التردد على العتبات المقدسة. حتى جاء في مأثورهم: ان من زار الأئمة كمن زار الله في عرشه، وان جسده يُحرّم على النار.

بلمس الضريح او الاحتكاك به او تقبيله بالشفاه، تنتقل الطاقة المقدسة المختزنة داخله الى جسد الزائر. ويذكر التاريخ القديم ان حجاج مصر الى معبد آمون في الكرنك كانوا يكتفون لاجتياف القوة السحرية للمكان، بأن يضعوا أيديهم متلمسين بوابة المعبد الذي كان محرما عليهم دخولهم.

وأحيانا تسري هذه القوة السحرية بوضع اليد على أوان وذخائر في المقام، او عقد الخيوط على مشبك القبر. او بواسطة المسح بالزيت، او شرب الماء او مضغ التراب. ويحثّ الموروث الشيعي على اكتساب المزايا الشفائية التي توفرها التربة الحسينية بالأكل منها، لأنها كما جاء في “بحار الأنوار” للمجلسي شفاء من الأسقام والعلل وأمان من الخوف والفزع. والمغاربة والتونسيون يتباركون بدورهم من تربة أوليائهم فيدلكون بها أجسامهم، او يحتفظون بها عند الحاجة. مثل تربة سيدي محرز في تونس التي تقي حاملها من الغرق. ويستخدمون بعضها تمائم تُعلق في أعناق الحيوانات المريضة.

ويمثل جوار المقامات وحرمها فضاء مشبعا بالقداسة بكل ما يحويه من أشجار وينابيع وصخور وكهوف ومغاور وطيور وحيوانات وزواحف. وفي الإسلام الشيعي اكتسب الدفن في مقابر “وادي السلام” الى جوار ضريح الإمام علي في النجف قدسية ومكانة عالية، لم تتيسر بداية إلا لعلية القوم والطبقة الثرية، لكن ما لبث ان انتشر الدفن في هذه البقعة، في ما بعد، وشمل مختلف الشرائح الاجتماعية، الى ان تضخمت وغدت مقبرة “وادي السلام” أكبر مقبرة في العالم. وهذا المكان استمد بريقه الديني من اعتقاد الشيعة بأن الإمام علي هو شفيع الموتى في الآخرة، وقسيم الجنة والنار، ومجاورة المتوفى له في زمن البرزخ الفاصل بين الدنيا والآخرة، تساعده على غسل ذنوبه وخطاياه.

تلوذ جماعات المسلمين المتدينين بمقامات الأولياء وعتبات الأئمة في كل الأوقات، بيد ان الزيارات تزداد بالتزامن مع ظروف الاحباط العام والاحتجاج على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية. والزائرون يلتمسون من زياراتهم التفريج عن همومهم، والتداوي من أمراضهم، وتوسيع رزقهم. وتشيع في المقامات أقاصيص الشفاء ومخاريق الأولياء والأئمة. وتتواتر الأحاديث عن قدراتهم ونجاعة وساطتهم وشفاعتهم، فيسترد المكفوف بصره، وينهض المشلول، وتنجب العقيم، ويُعثر على المفقود، وتُقضى حاجة المحتاج، وسوى ذلك من كرامات وأعاجيب. ويصف الصوفيّ الإيراني بيرزاده الذي زار كربلاء في أواخر القرن التاسع عشر، ان زوار الإمام الحسين كانوا ينظرون إليه على أنه صانع المعجزات. وكانوا يلتمسون منه تحسين محصول حقولهم وشفاء مرضاهم وإنجاب الأولاد الذكور، والعون على أعدائهم. (راجع اسحاق النقاش: “شيعة العراق” ص318). وكان القسم باسم أحد الأئمة يلعب دورا مركزيا في التعامل اليوم، بين رجال العشائر العراقيين، وبينهم بين ساكني المدن. وهذا القسم يضفي صلاحية شرعية على الاتفاقات الشخصية والعقود التجارية. أما اختيار الإمام المقسوم باسمه فيعود الى طبيعة العقد او الصفقة. وغالبا ما كان الحلف بالعباس أكثر شيوعا ورهبة من أي حلف آخر. حيث يخشى الحانث باليمين، ان تنزل مصيبة عليه او على عائلته. لذا كان يُلقّب العباس في العراق بأبي رأس الحار، أي السريع الانتقام والغضب. والإمام الكاظم في العراق يُلقّب بباب الأمان وباب المُراد وباب الحوائج. ويدعوه سكان الريف “أبو طلبة” لأنه لا يرد أحدا دون ان يستجيب الى طلبه.

وفي المغرب كانت القبائل المتنازعة والمتحاربة في القرن السادس عشر، تقطع العهود في مزار أبي عبد الله المبارك. وكانت تُبرم اتفاقيات الهدنة في ما بينها على أيام معدودة. ولا تتجرأ أي نها على نقض هذه الهدنة في الأيام المحددة لها، والمسماة أيام أبي عبد الله المبارك، خشية العقاب الإلهي الذي يحلّ بها (راجع درمنغهام ص166).

تدلّ هذه السلوكية التي توسط الأولياء في أمور عيشها وحياتها الخاصة والعامة، على انحسار السلطة الحقيقية للقضاة، وضعف قبضة الحكام، وتعبّر عن الاحساس بالغبن والتذمّر من الأحوال. فالوليّ او الإمام هنا، يشغل مكان الحاكم وفعله، فيفضّ النزاعات، ويقيم ميزان العدل بين المتخاصمين، ويقتصّ من المذنبين، ويعيد الأرزاق الى أصحابها. وتعبّر قراءة الرسائل التي كان يبعث بها زوار الإمام الشافعي في مصر، عن هذا الاستبدال بين الحاكم الزمني والوليّ. حيث دارت شكاويهم والتماساتهم حول جميع شؤون الحياة، صغيرها وكبيرها، بدءا من الزواج والخلافات العائلية، الى الابتلاء بالأمراض وعدم الإنجاب، الى البطالة والبحث عن العمل والوظيفة، الى رفع يد الظالم او المعتدي. ويذكر إبراهيم الحيدري في كتابه “تراجيديا كربلاء” ان الناس في العراق ازدادت رسائلهم الموجهة الى الأئمة أثناء حرب الخليج الأولى والثانية. حيث كانوا يرمونها يوميا داخل ضريح الإمام علي في النجف، او يعلقونها على شباك الحضرة، او على الأبواب. وكانت هذه الرسائل تزخر بالشكوى والعتاب، وطلب السلامة والصحة، ورجاء عودة المفقودين والأسرى والسجناء.

وكتابة الرسائل الى الأئمة من عادة الشيعة الذين يزورون مقابر سفراء الإمام المهدي الأربعة في بغداد، الذين يقومون بالوساطة بينهم وبين إمامهم المنتظر، فيبثونه الشكوى والمظلمة وسوء الحال. ودرجت طريقة ارسال هذه الشكاوى الى الأئمة في العصور الإسلامية الأولى التي تعرض فيها الشيعة الى المحن، على أيدي الولاة والحكام الذين كانوا يتبوأون السلطة حينذاك.

يظلّ التضرّع الى الأنبياء والأئمة والأولياء، وطلب الغوث منهم، وتوسطهم بين الناس أوالية من أواليات الدفاع عن الذات المجروحة للتغلّب على جرحها ومكابداتها، وتصريف شحناتها المقموعة، وطريقة من طرق إعادة التكيّف والتوازن مع محطيها. بيد ان الاستغراق في مثل هذا الفضاء الهروبي الذي يشبع ميل الإنسان الى الحلول الموهومة والخلاص السحري، ينحو أحيانا الى نكران الواقع وتحقير الدنيا، والى نكوص المرء عن واجباته تجاه وسطه وأقرانه. بل وأحيانا يتمكن النافذون من رجال السياسة والدين، والمحتلين الغرباء، من استغلال هذه الحالة لدعوة الناس الى الاستسلام، والرضوخ الى الأمر الواقع سياسيا واجتماعيا، باعتباره قدرا ومشيئة محتومة.

وهذه النزعة الأوليائية، إذا جازت العبارة، باقية ما بقيت عوامل نشوئها واستمرارها قائمة، تؤدّي وظيفتها التعويضية والتفريجية، وترد على حاجات الفرد. وتُشبع على ما يقول د. علي زيعور النقائص التي لم تملأها بعد الذهنية المنطقية المتحركة، في المناخ الاجتماعي والاقتصادي العادل.

التعليقات