31/10/2010 - 11:02

تبرئة قراقوش../ رشاد أبو شاور

-

تبرئة قراقوش../ رشاد أبو شاور
يردد بعضنا هذا المثل دون تمحيص، فمع طول الاستخدام استقّر في الأذهان حتى بات حقيقة لا يداخلها شك: على نفسها جنت (براقش )!

من هي (براقش) هذه، وما هي جنايتها على نفسها؟
شخصيّاً، كل ما عرفته أن (براقش) كلبة، ولكن ما جنايتها التي جرّتها على نفسها؟ لا جواب عندي، ثمّ في أي زمن عاشت عمرها القصير، أو المقصوف، ومن صاحبها، وهل نهايتها المفجعة ـ كما يوحي المثل ـ لسوء سلوك منها؟ ألا تكون قد قامت بواجبها في التصدي للصوص همّوا بسرقة بيت صاحبها، فكان أن ضاقوا بها فقتلوها شّر قتلة؟ ألا تستّحق وساماً وتقريظاً على وفائها، وشجاعتها؟ ما يدرينا أن اللصوص هم من عاقبوا سمعة براقش بتأليفهم ذلك المثل؟
هيهات أن يعاد (لبراقش) الاعتبار، فالمثل مع الزمن صار أهّم من (بطلته)، ومن الحقيقة.

المثل: كل الكلاب أفضل من (حمّور)، أقّل انتشاراً من مثل (براقش)، ولكنه يشاركه في الغموض، فأنا، وربّما يشاركني بعض خلق الله، لا نعرف منشأه. فمن هو (حمّور) هذا، وكيف آل مجده وانقلب معرّةً، وكان مدللاًّ بدليل اسم التدليع (حمّور) حتي بات مضرب مثل في الهمالة؟.

من الأمثال السائرة لثلب القضاء و(القانون) و(الحكّام) في بلاد العرب: حكم قراقوش!
الناس لا يعرفون من هو (قراقوش)، ولا في أي عصر عاش، ومن أين جاء، وما هي أحكامه التي يتواطأ العّامة، وغيرهم، على أنها مثال للظلم، وغرابة الأطوار، والخراقة، والغفلة؟
شغلني (قراقوش) ودفعني للبحث عن سّر التشنيع عليه، ولذا سررت إذ وجدت كتاب الدكتور عبد اللطيف حمزة الذي ضمّ كتاب (قراقوش) مع كتابين آخرين هما (إبن المقفّع) و(صلاح الدين).

الصفات التي لحقت بسمعة قراقوش، وعليها المزيد، تنطبق على بعض القضاة في بلاد العرب، فالقاضي، غالباً، مسيّر بحسب نظام الحكم، ووفقاً لأهواء الحاكم الفرد المطلق الصلاحيّة ونظام حكمه الاستبدادي، والناس انتقموا من القضاء والقضاة بإشاعة مثل (قراقوش)، يعني صار قراقوش هو (الدوبلير) بلغة السينما لقضاة أزمنة عربيّة اتسمت بالظلم والفساد!

كثيرون سيفاجأون، عندما يعلمون بأن (قراقوش) بطل من أبطال زمن صلاح الدين والدولة الأيوبيّة بمصر، وشخصيّة فذّة امتازت بالجّد في العمل، والإبداع في هندسة القلاع التي ما زال بعضها ينتصب شامخا، كقلعة صلاح الدين المطلّة من فوق جبل (المقطّم) علي القاهرة.

(قراقوش) رومي الأصل، بعض سيرته في بدايتها مجهول، فقد امتلكه أسد الدين شيركوه، عم صلاح الدين الأيوبي، وحرره من العبودية، ثمّ جعله لكفاءته وذكائه أحد ضبّاط جيشه. اختار لنفسه اسم بهاء الدين بن عبد الله الأسدي، نسبةً إلى سيّده (أسد الدين)، والذي اصطحبه معه إلى مصر. بعد وفاة أسد الدين انتقل لخدمة ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي واستبدل كنيته (الأسدي) بـ(الناصري) نسبة للناصر صلاح الدين.

جعله صلاح الدين الأيوبي متوليّاً على القصر الفاطمي بعد أن أنهيت الخلافة الفاطمية ودعي على المنابر للخليفة العبّاسي، فعالج (قراقوش) الأمور بشدّة وحكمة ويقظة، وأفسد كل المؤامرات التي حاول تدبيرها من بقي في القصر من البطانة الفاطميّة.

يكتب الدكتور عبد اللطيف حمزة: احتاج السلطان صلاح الدين إلى منشآت حربيّة ومدنيّة، كان من أهمّها إقامة الجسور، وتطهير الترع، وتشييد القلاع والأسوار المحيطة بالبلاد، لتقيها شّر الغارات التي قد تأتي إليها من جانب الفرنج...

يتوقّف الدكتور (حمزة) عند مواهب (قراقوش) الهندسيّة، وبراعته في إنشاء القلاع مستفيداً من أساليب الفرنج في هندستها، وبما يلائم حاجات المسلمين، وجيوش السلطان في الدفاع عن مصر.

قراقوش بني قلعة المقطّم التي أقام فيها حكاّم مصر بمن فيهم محمد علي باشا ـ وفيها وقعت مذبحة المماليك ـ وقلعة (المقس) المطّلة على النيل، وأنشأ الأبراج العالية لمراقبة تحركات جيوش الفرنجة، وبني أسواراً جديدة حصينة من الحجارة للقاهرة غير التي كان بناها جوهر الصقللي، وبدر الدين الجمالي.

انتدبه القائد صلاح الدين الأيوبي بعد تحرير عكّا لتحصينها بأسوار تحول دون عودة الفرنجة لاحتلالها، ولكن الفرنجة جمعوا فلولهم وجاءتهم النجدات فعادوا وحاصروا المدينة سنتين، أبلى فيهما (قراقوش) بلاءً حسناً، بشدّه أزر المدافعين عن المدينة بانتظار قدوم جيوش المسلمين لإنقاذها ومن فيها.

أسر قراقوش في معركة الدفاع عن عكّا، وعندما افتداه صلاح الدين وحررّه مع من حرّر من أسري المسلمين سرّ به أيّما سرور، ورفع من قدره. لم يهدأ الرجل، فقد حمل العبء بعد وفاة صلاح الدين، وعني بأبنائه، وإصلاح ذات البين بينهم، وصان حفيده الصغير(المنصور) فصار أتابكه (معلّمه)...

إن سيرة هذا (الأمير) المعروفة بدأت وهو عبد، ومن ثمّ حر محارب، ومهندس، وقائد صمود عكّا، والوصي على الحكم في مصر، وكل هذه المسيرة الغنيّة الواسعة تتسم بالوفاء، ونكران الذات، والحرص على بلاد المسلمين، والبعد عن الأنانيّة، والشدّه) في إنجاز ما يوكل إليه من مهام، وربّما لذلك جرى التشنيع على سمعته ليضحي مسخرةً، وسبّة، فمن الذي فعل ذلك؟

يكتب الدكتور حمزة: الواقع أن قراقوش لم يظلم ولم يتجبّر، ولم يبطش بأحد من المصريين، أو غيرهم من المسلمين، ولم يصدر في عمل من أعماله عن عقل يمكن أن يوصف بالخبل، أو الجنون، فما سبب هذه الأحدوثة السيئة التي اشتهرت عن قراقوش يا ترى؟!

لقد شاءت الأقدار أن تسلّط عليه لسان أديب أريب هو (إبن مماتي)، والذي كان يشغل منصباً كبيراً في الدولة الأيوبيّة، في نفس زمن (قراقوش) والقاضي الفاضل البيساني، في خدمة صلاح الدين الأيوبي!

شارك ابن مماتي في لعبة سياسيّة بين أبناء صلاح الدين، ووظف بعض الطرف الهجائيّة للنيل من شخصيّة (قراقوش)، ملحقاً به أذى يمتّد حتى زمننا، رغم إنصاف باحثين جّادين منهم المرحوم الدكتور عبد اللطيف حمزة.

في زمننا لم يعد خطر التزوير يأتي من متأدّب (فرد) عديم ضمير، ولكن الخطر يأتي من دولة كبري ورئيسها، فهي تشوّه سمعة بلد وتلفّق التهم له، ثمّ تحتله، وتقرقش عظامه بعد التهام لحمه وامتصاص دمه، وتنصّب شخصاً أخرق قاضياً في محكمة تهريجيّة..فألف رحمة علي روح قراقوش!

التعليقات