31/10/2010 - 11:02

ذكريات.. وحلم يطير...!! \ ليلى الصفدي

ذكريات.. وحلم يطير...!!  \  ليلى الصفدي
نهاية حلم..
عندما أخبرتني أمي حلمها لأول مرة لم أكن بعد اعرف أن سيغموند فرويد كتب مجلداً في تفسير الأحلام. كنا نلتف حولها بشغف ونستمع لحلمها الرائع معجبين فخورين... وظانين أن حلم أمي قد طرد اليهود عن أبواب دمشق...
"شيخ يلتف بالنور يلبس أبيض بأبيض.. يحمل عصاً.. يحركها شاقاً السماء باتجاه الغرب... وكأنه يتصدى لخطر قادم... فجأة تنقشع الغيوم والظلام وتشرق الشمس"...
ويبدأ مخاض أمي لتضع مولودها الثالث في 19 حزيران 1967 ...
"في اليوم التالي نسمع الأخبار: اليهود تراجعوا والحرب ستنتهي".. هذا ما تقوله أمي بعد أن تكمل حلمها..
حلم أمي ودرس واحد عن فلسطين في المناهج الابتدائية هو كل ما سمعته عن اليهود وعن الاحتلال الإسرائيلي... في الدرس صورة لجندي إسرائيلي يصوب بندقيته باتجاه طفل صغير يكتب على الحائط "فلسطين عربية"...
حلم أمي ودرس واحد في المدرسة كانا كافيين لأكره اليهود، ولكنهما لم يكونا كافيين لأعرف الحقيقة.
ومن عالمين لا ثالث لهما، غير شاشة بالأبيض والأسود وكثير من التشويش وقليل من الحقيقة كنا نتعرف العالم ونعرف أن الحرب انتهت ونحن منتصرين، وأن الأمور تمام التمام طالما نستيقظ كل يوم ونجد قوته وأمنه وأم تدفع عنا الحقيقة بالأحلام.
كان يكفيني 11 عاما لأعرف أن الحقيقة تتجاوز عوالمي الثلاث الوهمية (البيت والمدرسة والتلفزيون)، وأن العالم اقل أمنا وأكثر وجعا....

عالم إجباري:
كلمة أو كلمتان قرأ، لا اعرف بالضبط، المهم انه استطاع بحسه الاستخباراتي تصنيفها رسالة غرامية، وقعت في يده خطأً.. كان يكفي أن يقرأ أولها حتى تقوم دنياه ولا تقعد.....
ولأنه عربي يتقن الغضب ولا حد فاصل لديه بين الحب والعهر جنّ جنونه وقرر أن يثأر لكرامته المجروحة.
حتى لا تفهم الأمور في غير محلها لم تكن إلا رسالة من معجب مراهق إلى أختي ذات 12 عاما.
ذاكرتي الطفولية لا تذكر سوى شذرات من هذه الحادثة، ولكن بحسي الطفولي آنذاك.. المنفعل والخائف قررت أن التزم الصمت، أن ابني عالما إجباريا، عالما إجباريا من ورق، عله يكون أكثر أمانا، أكثر هدوءا، حتى وان كان اقل حبا واقل دفئا..
هادئة كعادتي، خائفة لأدق تفاصيل عظامي، باردة كشتاء بيتنا، جاحظة... متوترة
وأتمنى في لحظتها أن لا يكون هو أبي.

سمراء/ خجولة
من المفيد أن تكون طفلا خجولا، أنت بالنسبة للآخرين خجولا وربما تثير العطف ونقطة.
أما بالنسبة للخجول فالنتيجة رائعة... فهو سيتيح مساحة من الحرية، مساحة للتفكير بعمق والغوص إلى الداخل، فضاء لا يعكر صفوه إلا ملاحظات سخيفة لمن يدعون الجرأة.
خجولة!! هادئة!! غريب عالم الأطفال كيف يداوي جراحه بنفسه، الطفلة الخجولة في البيت هي الأكثر تميزا في المدرسة.
عشرون عاما استغرقت أمي لتقول لي أنني جميلة، ما ذنب طفولتي إذا كانت موضة العصر السمنة واللون الأبيض، كنت أتمنى أن أعيش زمنا عكسيا لأنال رضا وإعجاب أمي، واستغني عن الكثير من المعجبين الشباب فيما بعد. جملة لها وقع خاص قالتها أمي في لحظة صدق ودفء: "أنت السمراء الوحيدة التي أحبها".

خيبات جديدة
مذ قدمت إلى هنا.. إلى الوطن المنفي.. أصبحت علاقتي غريبة مع الهاتف... علاقة مختلطة.. الهاتف خندق صغير يصلني بذاكرة تبتعد كل يوم أكثر...
يخيل إلي أحياناً أنه حبل سري.. بقاءه يضر بي أكثر من زواله.. أنه يضعني بين عالمين.. اختيار احدهما ربما يكون تنازل عن الآخر...
مذ قدمت إلى هنا أصبحت علاقتي بالأرقام تعيسة... لم أحفظ رقم هويتي المؤقتة، ولا أرقام هواتف "الأصدقاء" القلائل.. ولا المقربين.. ولم أعد أحسب عمري، لا لأني تجاوزت الثلاثين.. ولكن لأن حساب السنوات مؤلم... دليل وتأكيد دائمين على العجز.. على الدوران حول الكلمات والأمنيات... وأننا سنفعل!! سنعمل ونطالب.. سنغيّر.. أمنيات بعد كل هذه السنين ما زلنا نتقيأها.. لخيباتنا طعم مؤلم.. جارح..
وأعود مجبرة إلى لسان حال أبناء الهزيمة.. لجيل كامل انكسرت أحلامه في الحرب.. أتقمص أحزانهم، وانكسارات عيونهم، أحياناً أحسدهم.. فهم لم يولدوا مهزومين... بل ولدوا مع حلم.. أما نحن.. جيل السبعينات... فجيل لا طعم له.. ولا لون!! نبحث عن معنى لوجودنا.. ولا نجده..
أتذكر الآن كيف اعتذرت لأمي حين بدلتُ هديتها الذهبية بمناسبة نجاحي في امتحانات "الكفاءة" واشتريت بدلاً منها خارطة فلسطين.. بدأت أتحسسها كأنني امتلكت العالم.. لبست العالم في قطعة تشبه القلب.. كان عمر الانتفاضة الأولى سنة.... عمر الألم الأول بعد الطفولة سنة، سنة ومشهد واحد يمر ببالي فيبكيني.. أنا أخجل أن أبكي خوفاً من كلام أهلي ومن نعتي بـ "أم دمعة"، لذلك قررت أن ابكي سراً.. في فراشي عندما يذهبون إلى النوم...أو في الحمام..
أهو مشهد من الذاكرة أو من فيلم سينمائي قديم... لا يبدو أنها مشكلة التلفزيون عندنا فهو باهت بالأبيض والأسود... رغم عدم وضوح الصورة إلا أن المضمون صارخ حد الجرح... والألم والقهر يظهر بكل الألوان.
"سياسة تكسير العظام"!!!! كل شيء يخطر ببالي إلا أن يمسك "إنسان" عصاً ويكسر عظاماً حية بعيون باردة!!! بهدوء.. وعلى مهل!!! المشهد يبالغ في صناعة الألم.. أو لأنهم "مبدعون"؟ يبدعون حتى في اختيار أشكال الذل والقهر.
عدت لخلط الحديث والأوراق.. بدأت بالهاتف.. وانتهيت بتكسير العظام.. يبدو أن كل الأحاديث تقود إلى الهزيمة....
إذا حاولت أن أتفذلك على حلم أمي، وهذا ليس لبراعتي في تفسير الأحلام ولا لضلوعي في كتاب فرويد الأنف الذكر، إنما لبساطة حلم أمي، حلم أمي هو رغبة الملايين، بإغراق اليهود في البحر..
حلم أمي ببساطته لخص تاريخ ما بعد الهزيمة، نكوص طفلي نحو الماضي..... ذلك الأب كلي القدرة... بعصاه الوهمية التي تشق السماء.. نافياً واقع الخصاء العربي... الأب الذي سيدخل معظم العرب تحت عباءته منذ ذلك الحين...
ما بال العرب؟؟؟ أتذكر الآن نكتة: عندما سأل أحدهم عربي عن رأيه بصرح ثقافي قديم، فقال: إنه يذكرني بالجنس!! وعندما استغرب السائل الإجابة قال العربي: "لا عليك.. إن كل شيء يذكرني بالجنس"..
أنا كل شيء يذكرني بالهزيمة...
صار عمر فلسطين 5 سنوات... كنت أتباهى أنني أحملها بجوار قلبي.. بعد فترة لا أعرف ماذا حدث!!! ربما بعتها.. ربما بدلتها.. لم أعد أذكر، ربما كان يجب أن أشتري خارطة أخرى... ولكني لم أر مرة في صاغة سورية خارطة للعراق... ربما قررت أن أبيعها لأنصف العراق.
هذه المرة كنت قد أصبحت بعيدة عن أهلي... أنا الآن في الجامعة... أبكي براحتي.. وأينما خطر لي، لا أحد يعرفني، وفي أسوا الحالات سيقولون أنها تعاني من أزمة عاطفية.. لا يهمني، المهم أن أبكي بحرية.. وللدقة بكيت في غرفة الغسيل، أنا أبكي هذه المرة لأنني أنتمي إلى جيل لا ينتمي، أنا الآن في حرم الجامعة وبالتحديد في كلية الاقتصاد، في حمامها.. أحاول ترتيب شكلي المنفعل وترتيب أفكاري أمام المرآة، وبالصدفة أسترق السمع لجيل أنا منه: طالبة محجبة ترتب حجابها الأنيق وتقول لصديقتها: "يا خسارة.. صدام فات عالكويت.. وما لحقنا نجيب منها إشاربات، عندهم بالكويت إشاربات بتجنن".
دموعي التي مسحتها للتو عادت غاضبة.. ولأنني أتقن الغضب المؤقت أعدت لخبطة شكلي وغسلت وجهي بدموعي وخرجت.. أعلنت الإضراب عن الدوام.. عدت إلى غرفتي.. إلى بعض من أصدقائي وبكينا معاً.. أتذكر أننا بكينا طويلاً معاً. عذرا من قضايانا التي كانت دوما اقرب إلى قلوبنا من عقولنا.

إلى المطار...
سيارة الأجرة متجهة إلى المطار والزمان يوم صيفي قائظ من أيام دمشق.. كلنا تجمعنا رغبة البكاء إلا السائق، فهو غريب اعتاد أن ينقل أشخاص متلعثمين بالفرح.. بالحزن.. بالعشق والكآبة، هو سيحافظ قدر الإمكان على حياديته من مزاج العالم المفرط في الانفعال، سيحاول أن يفرض مزاجه هو، وغالباً ما ينجح...
أذكره الآن كيف أخذنا عبر طريق أطول "على حسابه" ليقرأ لنا بعض أشعاره.. وليسمعنا بعضاً من أغان يحبها لفريد الأطرش..
لاغاني فريد الأطرش وأمي ذكريات... "أحبابنا يا عيني ما هم معانا" أغنية طالما رددتها أمي لأننا كنا دائما في حالة غياب.
هذه المرة نحن متجهون لنودع أخي مع زوجته وابنه البالغ من العمر سنتين ونصف، هو الآن يبلغ من العمر 14 عاما، أنا بالكاد أتذكر أخر مشهد له في سيارة الأجرة وهو يضمني ويقول لي شعرك حلو، أعرف أن هذا الكلام شخصي جدا وربما لا يعني أحدا، ولكن لا اعرف لماذا هذا المشهد بالذات يذكرني بالموت، إذا أمكن والتقيته ثانية وهذا ممكن جدا... لكني لن أراه ثانية وهو يتهجى نفس الكلمات بلغة عربية مكسرة، باختصار من كان عمره سنتان ونصف "مات"!، هذا شخص أخر.

غريبة... وغريبة:
"اختر الشكل الغريب من بين مجموعة الصور" لمن لا يعرفها: ثلاثة أنواع من الخضروات وتفاحة، ثلاثة من الحيوانات وخزانة، ثلاثة من المكعبات وملعقة، لعبة فيها منطق... أما أن تكونوا أربعة من البشر ويقول احدهم غريبة! فهذه غريبة.
لعبة أصبح لها وقعها الخاص عليّ.
لا اعرف كم يلزمهم من الوقت لتصبح بريئا من غرابتك؟؟ وكم يلزمني منهم لاكتسب صفة الأصالة؟؟
"منذ عام ونصف كان المكان ما يزال غريبا عني، والوجوه تتجاوزها الذاكرة سريعا، فهي لم تكن يوما من تاريخي، قبل عام ونصف كان يقتلني الحياد، كان يقتلني التردد بين بقاء أصيل وبين حلم عودة.
أن تنتمي لمكان لا يكفي أن تبني فيه بيتا جميلا وتزرع حديقة، أن تنتمي لمكان يجب أن تسمع آهاته، أن تقاسمه حزنه قبل فرحه، أن تشاكسه وتقاتله وتصالحه، عندها ستصبح جزءا من حاضره ومستقبله، وربما سيكون لك حصة من ماضيه حتى." كانت هذه مقتطفات من كلمة ألقيتها في حفلة قبل سنة تقريبا.
هذه سنتي التاسعة وأنا أحاول أن أكون ضمن مجموعة الأشكال المتجانسة وافشل/ أو ربما هم يفشلون...

حب:
ربما كنت محكومة بأمل مرضي عندما قررت أهم قرار بحياتي وهو أن أتخطى معبرا لمرة واحدة وباتجاه واحد، فعلا غريب.. من يقرر هكذا قرار!؟.
إذا غصت عميقاً ربما يكون هذا انتقاما من المعتم في طفولتي وشبابي، أو ربما ذلك الهوس المجنون والحنين لإيجاد وطن آخر، في العمق ربما يسكن الكثير، في الظاهر أنا كنت في حالة حب/ جنون، وكان سببا كافيا لأعبر العالم.
نحن موهوبون في استرجاع الألم، لكن هنا سأحاول أن أؤرخ لفرحي ولو ببضع كلمات:
أن تتبادل الحب مع شخص لسنتين وأنت لا تعلم قد تبدو اكبر الطرائف وأجملها،
أن نذهب الرحلات نفسها ونحب الأغاني نفسها.. ولنا الأصدقاء نفسهم، نضحك ونبكي معا ولكل منا حبيب وهمي.
كلما أصل لنقطة فرح اصمت، أنا في حالة حب.

*الجولان المحتل
lailat72@hotmail.com


.

التعليقات