31/10/2010 - 11:02

"سراحة يوم بتياسة سنة" / قصة بقلم سعيد نفاع

قررت أن اترك اشغالي واعمالي وأصير راعياً، وهذا ممكن في بلدنا،

رغم أن أهل بلدنا يعتقدون ومصرّين على اعتقادهم أن "سراحة يوم بتياسة سنه"، والسراحه بلغتهم رعي الماشية، واستمدوها من كون الراعي يسرح كل النهار في البراري. رغم ذلك قررت أن اترك اشغالي واعمالي وأصير راعياً، وهذا ممكن في بلدنا، حيث أن الناس ولفقر الحال يقتنون بعض رؤوس الماعز تشيل عنهم بعض هم هذه الدنيا بحليبها ولحمها. وسيسرهم كثيراً وجود راع آخر، فقد قلّ الرعاة في هذه الأيام، ليحمل عنهم "السراحه"، خصوصاً وأن المقابل زهيد وعادة من الحليب واللحم وعلى الموسم.

بما أن كل "شغله" تحتاج لاتقانها مدرباً وتدريباً مهما كانت، ولا تخرج عن هذه القاعدة "شغلة" رعاية الماشية، رحت افتش عن مدرب وجدته في شخص "العبد" أشهر رعاة بلدنا والذي لم يقعده عن "السراحة" مكرهاً إلاّ تقدم العمر، لكن ليس قبل أن يورثها حياً لأحد ابنائه.

استغرب العبد زيارتي وهو قليل الزائرين ولكنه كإبن قرية ما زالت تسري الاصالة تسري في عروق ابنائها، استقبلني بحفاوة، لكنه كاد أن يصرفني باللتي هي أحسن عندما عرف سرّ مجيئي، ظاناً أني آت لأتسلّى، وهو يعرف عملي ومركزي فما لي و"للسراحه"، استجمعت كل طاقاتي الفكرية لاقنعه اني جاد. وعلى غير اقتناع ظاهر راح يجاريني من باب "انفع صاحبك في شيء لا يضرك".

لشدّ ما كانت دهشته كبيرة عندما وجدني لا افقه شيئا في شؤون واحوال الماشية فلا أعرف تسمية الماعز، لا اعرف "الكحله" من "البرشه" من "الملحه" من "السكّه" ولا "الثني" من "الرباع" من "السداس" فراح اولاً جاهداً يعرفني بالوانها مصادر اسمائها واعمارها، لعلني أفهم ذلك نظرياً. لكن كثرة اسئلتي التي دلّت على جهلي، جعلته يقتنع أن لا مجال أن افهم ذلك وانجح في أول درس إلاّ اذا طبقته عملياً، ودعاني للقائه في اليوم التالي على "عين الجرون" حيث ترد الماعز ظهراً للارتواء، ولعله بذلك اراد أن يعرف جدّيتي.

كطالب العلم الجاد وجدني انتظره على العين، وما أن أقبل الظهر حتى بدأت القطعان ترد العين، وما أن ارتوت حتى اتخذ كل قطيع له مكاناً يرتاح، فما أن استقر احد القطعان، حتى اخذني، بعد أن ردّ تحيات الرعاة باحسن، منها بجولة بينها يعرفني على "الكحلة" و"البرشه" و"الملحه" و"السكّه" و"الثني" و"الرباع" و"السداس" وعلى غير ذلك من الأمور الخاصة بالماعز، دون أن ينسى أن يوقفني بجانب الحلابات لاراهن كيف يعالجن حلمات اثداء الماعز لحلبها، وكيف يجب تثبيت الارجل بالسواعد حفاظاً على وعاء الحليب من غضبة "عنزة" تركله إن ضغطت حلمات ثدييها زيادة عن المطلوب.

عادت القطعان إلى مراعيها للعشاء، وعدت والعبد إلى القرية، وراح على الطريق يمتحن إذا كنت قد استوعبت ما شرحه لي، وما كدنا نشارف على القرية حتى أجلسني على صخرة تحرس الوادي حيث العين وبدأ في الدرس الثاني، يبدو أني نجحت في الأول، وبادرني:
- بتحب الشبّابه؟ (ناي الراعي مصنوعة من القصب او النحاس)
- يعني!
- لازم تشتري "شبّابه" وتتعلم تدق عليها؟
- ليش؟
وراح يشرح لي باسهاب فوائد العزف على "الشبابه" للقطيع خصوصاً في العصاري، مفهماً اياي أن لا أحسب أن "الشبابة" هي لتسلية الراعي ، انما لتهدئة القطيع وفتح نفسه على الأكل وبقائه قريباً من الراعي. والأهم أن الماعز تحب العزف ويساعدها على زيادة كمية الحليب، واسأل مجرب ولا تسأل طبيب، يعني احياناً "كلّه لازم ترقْصُه حتى تنال غرضك منه".
هذه ال" كلّه لازم ترقْصُه حتى تنال غرضك منه" شتتت تركيزي ورحت وافكاري في جولة، قربت وبعدت في احوالنا، فماذا يقصد "العبد"؟ هل هي جملة عابرة قالها؟ أمّ أن "العبد"، والذي رعى الماشية عشرات السنين، لا تنطبق عليه مقولة أهل بلدنا "سراحة يوم بتياسة سنه"؟
صمتُ واعطاني الفرصة أن أحلق وافكاري، جعلني اقتنع ان "العبد" يقصد كل كلمة قالها. وعندما إطمأن، على ما بدا، أني لم أمر على كلماته مرّ الكرام، إنما فعلت مفعولها بي، تابع:
- مين اقوى خشب "السنديان" أم "السريس" أم "السوّيد"؟
- لا أعرف!
- تعرف تنجّر عصي؟
- لأ!
- الراعي بلا عصا ما ينفع، ولازم عصاه تكون من صنع يديه، ومن أحسن خشب!
وراح يسهب في شرح أنواعها وطريقة قطعها و"تحميرها" على النار وفوائدها وحاجاتها كل ذلك حاسباً أنني أجهل العصي كما ظهر أنني اجهل أوليات رعي الماشية. وعندما حاولت أن اوفر عليه المزيد من الجهد في الشرح مدّعياً إن هذا مفهوم فهي لسياقة الماعز وضرب المشاكس منها وحماية الراعي وحمايتها، فوجئت أن علا صوته ناهراً اياي كمن له حق المعلم على الطالب، وفي لهجته استنكار، ليقول:
- المعزه (الماعز) ما عندها دار "السك الاملح" ولا دار "الاكحل" ولا انتخابات مجالس!
العصا حتى تتكئ عليها وانت تلعب على "الشبّابة"، وفقط اذا صار ما صار وهجم ذيب ولاّ أفعى تستعملها حتى تدافع عنّك وعن المعزة مش حتى تضربها.
وخلص إلى القول أنيّ اذا كنت فعلاً انوي أن أصير راعياً عليّ أن "أسرح" على الاقل "جمعة زمان" مرافقاً لابنه، و"إن كنت قد حالي" سأتقن اللعب على الشبابة والاتكاء على العصا، والأهم من ذلك أن اتقن حلب اثدائها، وخصوصاً تلك الصغيرة الحلمات، دون أن اضطرها، لخشونة في تعاملي، أن تحتج راكلة الوعاء جاعلة حليبها شراباً للتراب.

وصرت راعياً فاقع الصيت أعرف اللعب على الشبابة بل أجيده، خصوصاً وانا متكئ على العصا. والأهم أعرف حلب الماعز دون أن أهدر قطرة حليب، فارحت وارتحت. واذا كانت "سراحة يوم بتياسة سنه" على حد قول اهل بلدنا فسني تياستي لا تعد ولا تحصى، وسأقضي عمري تيساً.

التعليقات