31/10/2010 - 11:02

عفوا حضرة القاضي..../ هبة الشمالي

-

عفوا حضرة القاضي..../ هبة الشمالي
تتآكل فوضاها في مكان ونيف، كل شيء مثلج عداها والأغنية الشبيهة بكل ما يحدث هناك:
" رجعت أيام الصيفية والصبية شويًة شويّة ...." فجأة تتهدل الأغنية الفيروزية في نهاياتها، وتُحاصر بضجيج إعلانات يعلو من إحدي الإذاعات المحلية غير المرخصّة، المنقوصة بجودة التقنيات والبرامج الوظيفية لإهداءات على الهواء ليس إلا .

تشهق الساعة الثامنة صباحا .... وهي لا تزال مشّرشّة بقوامها بالكعب العالي في تلك الغرفة الباردة وكأنها "إمرأة من طابقين" مُحاصرة بقميصها الأبيض وتنورتها السوداء المحتكرين مُجّهزة لإطلالتها الأولى في المحكمة كلباس لائق ومفروض على ممثلي الجهاز القضائي ّ. لطالما كانت إمرأة الأبيض والأسود كارهة الألوان النصفية في أي شيّ .

كل شيء من حولها مُثّلج يُطبق على صمت.. عدا شفتيّها المروجتيّن المثرثرتيّن لكلمات غير مفهومة، تختلط بصوت الإعلانات الآتي من هناك.
وكأنها تعيد الكلمات القليلة العبرية التي ستبثها لحضرة القاضي خوفا من تلعثمها الإفتراضي لحضورها البكري!

رمقت نفسها في المرآة بنظره تفحصيّة خاطفة مبتسمة إبتسامة نصف صفراء ونصف عمياء اللون، ومدت يديّها لتتأبط "ملف السير السمين" وطارت لمحكمة الصلح في مدينة عكا، مدينه الجدليات العقيمة من بحر حتى كُفر!

في طريقها شعرت بأن أميالها لا تنتهي، وبأن تدفق ذاكرتها يطوّقها ما بين عكا إلى سنوات دراستها للحقوق.. راحت تلك السنين تثور بداخلها كالطوفان فتذكرت كيف بكت في سنتها الأولى ليلة كل فحص دون أي سبب، وكيف كانت عدوة لموضوع الأراضي والأملاك المدرّس في كلية الحقوق، وحتى كيف كانت تهرب قبل الوقت من محاضرات القانون الإسلامي بالرغم من حبها الجم له ... وكيف حين .... وإذا بهاتفها النقال يصهُل ويمزق ذاكرتها إلى فتات الكتروني فأخرسته ورمته جانبا حتى تتابع طريقها التي تتقلص كذاكرتها الراكدة...

وصلت المحكمة معبأة بانفعالات مبالغة!

وقفت أمام المدخل"موفورة الحظ " بكونها معفيّة تعبر على مهل من نقطة التفتيش المرصودة، دون أن يستوقفها ذلك الصفير المزعج المنبعث من آلات التفتيش المٌشعة التي تتأبط كل الأجساد الداخلة في الأماكن العامة في البلاد "تحسباً" .

دخلت الباحة مّعلنة إندماجها الحصريّ في هذه الدائرة القضائية، مشّهرة عضويتها الفعليّة "كإمرأة قانون تابعة" لأول مرة. كانت الباحة كمكعب الكلمات المتقاطعة، كتل متفرقة من ألوان بيضاء وسوداء تتداخل ببعضها من محامين كثر تضيع بينهن نساء قلائل.

كان المحامون ثلاثة أنواع: نوع يأكل ونوع يؤكّل ونوع يتآكل.

أنت لا تعرف مدى جودة ياقاتهم وربطات عنقهم، ولا تميزً رجل القانون المميَز من العادي، الناجح من الأقل نجاحا، التقيّ من المتلّون أو حتى المطلق من الأرمل إلى الأعزب!!! وكأن حكمة "الأبيض والأسود" في أنها تبطن الطفرات المكانية الزائدة لكل منهم...

علا من حولها ضجيج كاد يخنق المكان بأحاديث المحامين التي هي على الأرجح عن الوضع الاقتصادي المنحدر وتقاعس الزبائن بدفع المستحقات المترتبة أو عن قضايا موكّليهم العالقة!!

تنهدت كشراع قرب عاصفة لما رأت...

وراحت تتقدم بخطى مدروسة لتقدم بعض الطلبات في القسم المدني ... شعرّت بأن العيون الغزيرة تكاد تلتهمها، لشّدة حب استطلاعهم لأي زميل جديد يطأ باحة المحكمة خوفاً من ألا يتمخض عددهم المتكاثر بمحام آخر، خصوصا لو كانت"إمرأة"!

تابعت تقدمها المتوتر إلى القاعة رقم "3" حيث أقرّت الجلسة، وبدأت نبضاتها تتسارع خشية التلعثم أمام هيبّة القاضي الذي تواجهه للمرة الأولى، فراحت تعيد الجملة في ذهنها مرات متتالية حتى لا تخطئ...

كان القاضي المخول بالبت بالقضية عربياً، لكنها ألزمت بأن تتحدث باللغة العبرية - التي ما أحبتها يوما- إلا أنها وبحكم عملها بالقضاء، راحت تعمل من أجل إتقانها فأدمنت صحيفة "هآرتس" والبرامج الإخبارية والمواقع القضائية باللغة العبرية. آخذة بتوصيات ذوي الخبرة ممن سبقوها. فـ "العبرية" هي اللغة الرسمية المتحدثة في المحاكم الإسرائيلية... في حين وجدت أن الإلتزام التاريخي والقومي والثقافي للغة العربية مطلوب ومًقدس، لكن إشهاره في الجهاز القضائي هو حلم بعيد لا يتجاوز المحاكم الشرعية، مدركة أن هذا ليس بالمكان الأنسب لتناقش بحرقة بنيوية مؤسسات عامة فابتلعت إيمانها وصمتت.

بتوتر ووجع وقفت في وسط القاعة رقم "3" مستجمعة الكلمات المهترئة من حنجرتها التعبة لشدة "إجترار" الجملة ذاتها منذ الصباح قائلة باللغة العبرية الدخيلة:
"حضرة القاضي .. أطلب تأجيل الجلسة ....."

التعليقات