31/10/2010 - 11:02

في بيت غسان كنفاني/نضال حمد

في بيت غسان كنفاني/نضال حمد
لم أكن ادري أن ذكرى استشهاد الأديب الفلسطيني الكبير غسان كنفاني ستحضر بتلك الطريقة المثلى، حيث أن أفضل ما يقال عنها أنها جاءت ونحن على مقربة من المكان الذي عاش فيه الأديب الشهيد سنوات عديدة من عمره القصير. فقد حلت علينا ذكراه هذه السنة بطريقة مميزة وخاصة جدا ،إذ أنها مرت ونحن نجلس في نفس المكان الذي طالما جلس فيه غسان. لقد كنا في المنزل الذي احتضن غسان الطفل،الشاب، العاشق، المرهف والكاتب الحساس ، المبدع بقلمه وريشته ووعيه وروح الثورة المتفجرة في إبداعاته المتنوعة، غسان القائد الشاب الصاعد صعود الكبار بأعماله ونتاجه الأدبي والفني.

في هذا المنزل الذي يعيش فيه الآن الصديق والزميل الأديب عدنان كنفاني شقيق الراحل غسان،جلسنا نتحدث عن فلسطين والأدب والثقافة وحق العودة والمقاومة وعن الهموم العربية الكبيرة والأحمال الثقيلة. شربنا شايا مثلما كان يفعل غسان في المنزل الذي لم يعوض المنزل الأول في فلسطين. تعرفنا على الغرفة التي كانت تشهد دورة الحياة عند الأديب الفقيد. فهناك كانت بدايات غسان، طلته وطلعته. أما تلك الجدران الصامتة التي تسمع ولا تنطق فقد عرفت الشهيد عن قرب واستطاعت معرفة أسراره المتواجدة في كل شيء من حولها. هناك بين جدران البيت وتحت سقفه كانت العشرة لسنوات طويلة، وكان غسان ومعه عدنان يعدان العدة للعودة إلى المنزل الأول.

جاءت ذكراه هذا العام وأنا خارج منفاي الاختياري، بعيدا عن اوسلو البعيدة والقريبة. حيث أنني قمت بزيارة إلى سورية الواقفة على حد السكين والسائرة فوق الجمر والشوك.هناك في مقهى الروضة الدمشقي المعروف بلمه شمل بعض المثقفين أو أكثرهم في الشام، التقيت بأصدقاء اعرفهم منذ سنوات طويلة وبآخرين لم أكن اعرفهم سوى بالمراسلة الالكترونية، حيث أن تجمع الأدباء والكتاب الفلسطينيين،الوليد من رحم التجربة الصعبة، الخارج من معادلة الحساب والمحسوبيات في وضعنا الفلسطيني، تمكن من جمعنا تحت سقفه الممتد من أول الكرة الأرضية من جهتنا حتى أولها من جهة الذين ركبوا السفر وهجروا البشر. كان اللقاء حميما ومفعما بالمحبة والحرارة التي جعلتنا نتحدث وكأننا نعرف بعضنا منذ سنوات. ولم يغب عن بالنا اثناء الحوار ان غسان لازال يدق الجدران ويحثنا على الصمود وتحدي مصاعب الحياة والاستمرار بالعمل من اجل حماية الثقافة الوطنية الفلسطينية وتطويرها وصيانتها والمضي بها نحو الأفضل، هذا بعد إخراجها من سجون وغياهب المذاهب السياسية الضارة، ومن بنوك التجار والتجارة التي جعلت من أكثر المثقفين والأدباء والشعراء مجرد خدام وعبيد لرأس السلطة ورؤوس الأموال. فهؤلاء الأدباء والشعراء الذين باعوا الحرف والكلمة والقلم مقابل موائد السلطان وفتات الحكام والحكومات، لا يهمهم أمر الذين يدقون جدران الخزان. لأنهم لا يعرفون من الثقافة سوى التصفيق للحاكم الذي أصبح ولي نعمتهم وحبر أقلامهم، فبالاعتماد على هباته ونفقاته في الكتابة نراهم عند إلقاء القصيدة أو القيام بالخطابة يجعلونه فوق الجميع ويجملونه بحيث يصبح كما الحمل الوديع، مع انه شرس وقاسٍ وشرير .

تصادفت ذكرى غسان الأديب والمبدع والإنسان والروائي كما أسلفت ونحن في منزل آل كنفاني حيث حدثنا الزميل عدنان عن المنزل و الجدران والأبواب والشبابيك قائلا أن كل شيء في هذا البيت فيه رائحة غسان وذكراه. وتطرق إلى "عائد إلى حيفا" والكاتب "الإسرائيلي" العراقي الأصل سامي ميخائيل الذي سرق الرواية وكتب شيئا شبيها سماه " حمائم في ترافلغار"، وكان الكاتب سخيفا لدرجة انه في معرض رده على سؤال لصحيفة "هآرتس" عن الأشياء التي غيرها في رواية غسان كنفاني ،أجاب : " روايتي تبدأ من نظرة الأم الفلسطينية، الصراع عند كنفاني صراع رجولي لا يعرف الجانب الأمومي، فهناك رجلان يدخلان في مواجهة في حين أن الأمهات يتصرفن بنوع من البلاهة، ولا توجد في روايته ولو بقية من الحب من جانب الأم تجاه الابن، في حين أنني كتبت روايتي عن الأمومة، والأم في الرواية هي التي تبادر بالاتصال بالابن وترعاه وأمومتها تتفجر لحظة المواجهة بين زوجها والابن الإسرائيلي، هو أراد أن يمحيه من حياته في حين أنها لم تتنازل عنه. لقد انحزت إلي الأم في الرواية لأكثر من أي شخصية أخرى... (انتهى).."... هذا الكلام لسامي ميخائيل مثال حقيقي وحي على العقلية الصهيونية التي تقتل القتيل وتسير في جنازته ...

لم أكن ظهر ذاك اليوم التموزي الحار وحدي، فقد سرت تحت أشعة الشمس الحارقة في شوارع وأزقة الشام برفقة زملاء الحرف والكلمة والموقف، كنا معا بصحبة الروائي الفلسطيني رشاد أبو شاور والشاعر الفلسطيني عبد الكريم عبد الرحيم الذي أنشد لنا من شعره الجميل ما أطربنا وأشعل حنيننا للمنزل الأول. وعبد الكريم عبد الرحيم شاعر صفد الجميل، الكبير بقلمه وكتاباته وعشقه لوطنه ومسقط رأسه حيث يسرح ويمرح الآن أتباع الهمجية الصهيونية المنفلتة.. انشد بصوت ساخن كقهوة الصباح وعالٍ كقيمة الانتماء للقضية. كما كان معنا في الوقت نفسه السياسي الفلسطيني ياسين معتوق رفيق درب غسان كنفاني والذي تذكر البيت الذي كان قد زاره في مهمة عمل في سنة 1969.وتذكرنا معه قصة" إلى أن نعود" للراحل غسان حيث جاء في مقطع منها :

" ... و أحس و هو يصافح الإنسان الذي ودعه قبل أن يذهب إلى مهمته أنه لا زال في المعركة التي بدأت منذ زمن بعيد..و سمع صوته :

- ماذا؟ هل انتهى كل شيء على ما يرام؟

و هز رأسه في إعياء.. و عاد يسمع صوت الرئيس:

- هل أنت تعب؟

و هز رأسه نفياً و همس بصوته العميق المجروح:

- هل أعددت مهمة صباح الغد؟

ووصله صوت رئيسه من بعيد:

- و لكنك لا تستطيع أن تتابع غداً.. يجب أن تستريح..

و دون أن يفكر أجاب:

- بل أستطيع..

- إلى متى تحسب أنك تستطيع أن تواصل على هذه الصورة؟

قال و هو يسند رأسه على كيس المتفجرات:

- إلى أن نعود ... " .

والى أن نعود يا غسان لك منا الحب والعهد بان يبقى المنزل الأول وجهتنا الأولى والأخيرة ...

التعليقات