31/10/2010 - 11:02

لن يسكت الحنين (نص)/ دينا سليم مطانس

لن يسكت الحنين (نص)/ دينا سليم مطانس
1
تقصد "دينا" موطنها الأغر، تتجلد أحاسيسها المكبوتة داخلها. ما زالت تلك البقعة باقية صامدة. نظراتها البعيدة تسبقها الى الجذور، جذورها .. أصلها ...

تتلفت حولها بقلق مشوب بالخوف، وحنين جارف مجحف لا يمهلها. حنين رؤية الوطن. تخطو بثبات، خطوة تلو الأخرى، تدوس بقدميها بلاطا من أزمان غابرة . تمتلكها الرهبة، رهبة مكان شاخت فيه الجدران، تأتيه أشعتها بهالة من الغموض، أصبح ضيوفه من كوكب آخر... مساكن خاوية تائهة أرواحها لا تحوي الا العظام و..الذكريات.

ذكريات أناس منسيين قلّما يستيقظون، من عصور غابرة تجتمع جثثهم داخل حفر عميقة، حيث تتوارى أجسادهم بمعية مسراتهم وآلامهم. أسرار النفوس الخامدة، هنا يقلب الماضي بمعية الحاضر فلا من مستقبل آت. شيخا كان أم شابا في الحفر متساوون، يهمهمون من تحت الركام. لا يمنحهم رفع الرايات ولا يهدىء من وقع النفوس الزائلة.
وتسبح بها الذكريات:" أوصلتِ يا ابنتي"
-" نعم أبي، أعذر لي تأخري الزحام على أشده"
-"أرجوكِ يا ابنتي أن تبقي معي.. أشتاق اليكِ كثيرا.."
-"وأنا أيضا أشتاق اليك كثيرا، سأبقى..ماذا بك أبي؟ ألمح نظرات تائهة ملحة تغتال عينيك، ما هذا الصمت الذي تخفيه وراء هذا الكلام؟
-" لا شىء البتة"
-" لا تخفي عني شيئا"

تصدم بصمته العميق، قلّما ترى والدها بهذا الصمت والسكون، كان دائما الانسان الضحوك، البشوش المتكلم،عهدت به تلقائيته وعفويته، لا يتساوم مع نفسه اذا أراد التكلم.
تحيطه بذراعيها بكل رفق وحنان، تناشده الكلام:
-" يا ابنتي ان الوطن أغلى وأجمل شىء في الوجود، لقد عانينا الكثير في بلاد المهجر، لم نشعر أبدا بكياننا، بذلنا قصارى جهدنا لضمان لقمة العيش لأبنائنا، خشينا عليكم الضياع والانصهار في محيط لا يمثلنا، محيط بعيد من تقاليدنا ومن عاداتنا العربية العريقة...نحن في المهجر الآن ، إن الشوق يضنيني لأطأ تراب بلادي، استنشق هواءها، ألازم جدران بيتي حتى لو أصبح الآن كومة من الركام.."
-" نعم أفهمك جيدا، ألم تتعود بعد على الحياة خارج الوطن؟"
-" لا يا ابنتي منذ أمد طويل والأرق يلازمني، كل فجر يأتيني يناشدني صارخا، يحثني على العودة لكن بعد هذا العمر كيف يتسنى لي ذلكَ؟ وأنا قابع منذ شهور في هذا المشفى أنتظر موعد الفراق، أشعر وكأني فراشة هرمة تلازمها روحها تترقب ببطء أجنحتها المتنصلة التي تفارق جسدها رويدا رويدا آه..."
-" سلامتكَ أبي "

2

احتضار والدها وآهاته تدخلان صدرها تجتران آلامه :
-"أريد الموت شامخ الرأس غير فاقد كبريائي.."
-" ما عاش الذي يفقدكَ كبريائكَ أبي، بل يجب أن تتفاخر على ما صبرتَ من معاناة طوال هذه الأعوام ، يكفي أن وطننا الضائع ما زال يختمر عروقنا، غير ناكرين جميله فمن خيراته أكلنا وترعرعنا ، كبرنا وشخنا وما زلنا ننشد ذرات ترابه، لقد علمتنا احترامه وتقديسه.."
أجابها بوهن:" أريد أن أدفن في موطني، في أرض أجدادي ،آبائي، أمي، أبي وكل من سبقني..."

حملت "دينا" أحزان والدها وهمومه الثقيلة، تاهت بها الأفكار، ناجتها الأصوات وكبرت داخلها الأمنيات، أمنيات ضائعة يجب أن تلملم وأن تتحقق فكيف لا انتشاله من آلامه؟ .
نحيب النسوة ملأ المكان معلنا الحداد، جفّت الألفاظ ، عقد اللسان.. مسكين أبي، رحلت به سحابة سوداء... لم تعد الأحلام رهن الأوهام...

تضع "دينا" الزنابق البيضاء على قبر أبيها، رابطة الجأش غير باكية يغلفها الصمت، سوى أصوات تفوهات مخيفة، آهات غير مرئية، وجوه واجمة بين باقات الزهور . الميتون ميتون وغير نائمين. نهرتها آهة والدها تدعوها لزيارته، لقد سمعته بالفعل يكلمها ولم تستطع الأنتظار، جاءت من بعيد قاصدة مدينة الأجداد ، حيث والدها وُوري التراب .. كمطلبه.
جيء به محمولا من بلاد الغربة البعيدة، استقر في حضن موطنه، الذي أبى الا أن يدفن فيه، غادرهُ مرتحلا مشيا على الأقدام وأَمّهُ داخل تابوت تحمله طائرة ليسجى في مكان الحنين .
-" لبيتُ أمنيتكَ أبي ولبيتُ نداءكَ، جئتكَ زائرة ، أيقظتَ داخلي الحنين، وضعتُ الزنابق على صدركَ لتغفو في حضنكَ كما غفيت وأنا طفلة . أشعل شمعة أخشى أن تطفئها الريح ! المهم هو أنكَ استطعت أن تورثنا الأرض مجددا،َ لقد أصبح لنا كيان .. أنتحل اسمكَ " سليم "، أتخذهُ ختام كل حديث لن ينتهي، أحدثُ الكون ومن فيهِ عنكَ وأحدثكَ عني مناجية طيفكَ الى الأبد. Dina_saleem@hotmail.com

التعليقات