31/10/2010 - 11:02

مدارات - المَشْهد / أدونيس

مدارات - المَشْهد / أدونيس
- 1 –

منذ 1948،

أُعايش «القضية» أو «المسألة» أو «المشكلة» الفلسطينية، بوصفها جزءاً من حياتي اليومية السياسية والثقافية على السواء.

ومنذ 1967،

أعايش «المأساة» أو «الكارثة»، أو «النكبة» أو «النكسة»، أو «الهزيمة»، إضافة الى «الثورة»، بوصف هذه كلها جزءاً كذلك من حياتي اليومية السياسية والثقافية على السواء.

واليوم، 2006،

إذ أنظر الى ما «مضى» وإلى ما «تبقى»، الى ما «مُحِيَ»، وما «كُتب»، أجدني مدفوعاً الى التساؤل: كيف لم يبتكر المسؤولون، فلسطينيين وعرباً، طرقاً جديدة للفكر والعمل في كل ما يتعلق بنظرتهم الى فلسطين، والى حضورهم في العالم، وإلى العالم؟

- 2 –

على مستوى آخر،

يتضح أكثر فأكثر، لي على الأقل، أن فلسطين ليست إلا فصلاً في مسرحية ضخمة: تدمير «الظاهرة» العربية، أو «الطاقة الخلاقة» عند العرب. وقد «تُبدي لنا الأيام» أن هذا الفصل لن يكون الأكثر هَولاً.

في هذه المسرحية، تمتزج الفاجعة بالسخرية، على نحو يقلّ نظيره. ووجه السخرية هنا هو أن أبطال هذه المسرحية الأشد بروزاً هم العرب أنفسهم من جهة، وأنهم من جهة ثانية، الأشد عنفاً، بعضهم ضد بعض، والأشد فتكاً، بعضهم ببعض، والأكثر تشويهاً لحضورهم في العالم، وتهديماً لحاضرهم، وإذاً، لمستقبلهم كذلك.

تُرى، من يعرف، من يقول لنا: من أين، وكيف نمتلك نحن العرب، هذه القدرة الغريبة وهذه الجرأة الأكثر غرابة، على التدمير الذاتي؟

- 3 –

في أثناء مُعايشتي لهذا «العالم الفلسطيني»، قلتُ مراراً وأواصل القول: ليس للقصيدة فعلٌ أو تأثير إلا إذا أسلبت الفعل نفسه، ولا تستطيع أن تحقق ذلك إلا إذا كانت هي نفسها فعلاً إبداعياً متميزاً.

الكاتب أو الشاعر «السياسي – الملتزم» ليس بالضرورة الأكثر كلاماً على السياسة أو الأكثر «التزاماً». أحياناً، تتفجر السياسة من قصائد لا تتحدث إلا عن «اللاسياسة».

- 4 –

ليس مجرد إعلان الانتماء الى التقدم هو الذي يصنع التاريخ. لا يصنع التاريخ إلا التقدميون – المبدعون، المتفردون، كلٌّ في ميدانه.

وأقول، للمناسبة، وتمثيلاً لا حصراً، إن أبا نـواس أكثــر «ثوريـــة» و «التزاماً» مـــن محمد مهــدي الجواهري. الأول أسلَبَ الحياة والواقع، برؤية جديدة للإنسان والعالم. ومقاربة جديدة للأشياء، ولغة شعرية جديدة. وهذا لم يحققه الثاني.

شعر الجواهري «جزءٌ» من التاريخ الذي تحدّث عنه، أما التاريخ الذي تحدث عنه أبو نواس، فهو «جزءٌ» من شعره.

- 5 –

إذا كان الشعر لا يرى بشكلٍ مختلف،

إذا كان لا يفتح طرقاً جديدة للرؤية والفهم والحساسية، وآفاقاً جديدة للكشف والمعرفة،

إذا كان لا يُعنى إلا بتهيئة «طعام» مشترك يرضى عنه الجميع،

فهو لا يفعل أكثر من أنه ينحني لسيدة «البيت»،

فيما تنهض من سريرها،

لكي تذهب الى المطبخ.

- 6 –

الخطر في الابتذال، في المشترك العام، لا يكمن فيه، بحد ذاته، بقدر ما يكمن في نتائجه: زوال الإبداع، ونهاية الثقافة.

- 7 –

متى نقرأ لمفكر أو فيلسوف عربي كتاباً عن «لاهوت الخضوع»؟

أسأل أولئك الذين يعيشون في انحناءٍ دائم أمام «لاهوت السياسة».

طقس القتل

يتواصل في العراق «طقس» القتل. (ولا أريد هنا أن أشير الى «تاريخ» العراق في هذا الإطار). غير أن ما يُحيِّر حقاً هو أن كثيراً من الكتّاب والمفكرين والشعراء العرب وبخاصة العراقيين، لا يريدون أن يتأملوا في هذا «الطقس»، أو حتى أن يروه.

لكن، ألا نحتاج، هنا، الى «صحة» البصر، لكي تكتمل «صحة» البصيرة؟

دفتر لقراءة الليل

كانت تلك الليلة تحتضن جرحاً اسمه المرأة،

كانت تلك المرأة، تلك الليلة،

تحتضن جرحاً اسمه الرجل،

كان الحب، تلك الليلة، بلسماً يسيل بينهما.

أشعر، أحياناً، بشهوة طاغية للخروج من مركز هذه «المدينة» التي هي نفسي،

وللسكن في أبعد ضاحية من ضواحيها.

*

في الليل، قُبيل النوم،

تبدو الشهوات كمثل قطعان تتجول في حقول الجسد.

*

كيف يكون الشغفُ بالمتعدد، تمجيداً للمُفرد؟

أو كيف يكون الاحتفاء بالكثير، انحيازاً للواحد؟

هل نجد جواباً، هنا، إلا في الحب؟

لكن،

هل تحب المرأة أن تسمع رجلاً يقول لها: الكثرة هي التي تجعلك امرأة لا مثيل لها؟ هكذا، أحب كثيرات لكي أعرف كيف أبتكر نفسي فيك، وابتكرك في نفسي. وأعرف كيف أحبك – أنت، المُفردة.

هل يحبّ الرجل أن يسمع امرأة تقول له مثل هذا الكلام؟

*

أهناك طريقة لسماع السماء،

تتحدث بشغفٍ وحبٍ،

مع الأرض؟

*

لا تَخف، إذا رفضك النهار،

في الليل ما يجعلك تعشق هذا الرفض.

*

الظلمة مرآةٌ

لا يرى الضوء وجهه، حقاً، إلا فيها.

*

أوضح ما في الليل،

أنه معجمٌ غامضٌ للنهار.

*

ينكره بِذاره وثمره:

أية فاجعة،

أية غبطة!

*

عبثاً يُقنعه الواقع بالنوم

على وسادة غير وسادة المخيلة.

*

أكثر الفصول إضاءة

في تاريخ الجسد،

هو الفصل الذي يكتبه الليل.

شبح البحر

«حلم مرة بأنه تحدث مع شبح البحر»: انه الامبراطور الروماني نيرون، ما يصفه المؤرخ سيوتون.

«شبح البحر»؟ مع أي شبح يتحدث «الأباطرة» في عالمنا اليوم؟ بخاصة في جزئه العربي؟

هذا المؤرخ يصف «نيرون» كذلك بأنه لم يكن يعانق زوجته أو أية من عشيقاته من دون أن يذكّرها بقدرته على قطع رأسها. تماماً، كما يفعل «أباطرة» اليوم، لكن ليس مع زوجاتهم أو عشيقاتهم، وحدهن، وإنما كذلك مع «مواطنيهم»، ومع «شعوبهم».

العجيب اننا، في الجزء العربي من هذا العالم، لا نكفّ عن التحدث مع هؤلاء «الأباطرة» وعن مطالبتهم بإقامة «الديموقراطية»، ناسين أننا نبدو في هذه المطالبة كأننا نريد منهم أن «يبيدوا» أنفسهم، طواعية ومختارين!

والأعجب هو أننا، اليوم، نرى «أباطرة» أكثر بكثير مما رأت الامبراطورية الرومانية. فكل من يعمل معهم في السلطة، ينصِّب نفسه باسمهم «امبراطوراً» في ميدانه.

بقي أن نشير الى أن نيرون عيّن مرة حصانه «قُنصلاً».

(عن "الحياة")

التعليقات