31/10/2010 - 11:02

نازلاً في خان الافرنج - عكا القديمة قبل زلزلة فلسطين 1927

نازلاً في خان الافرنج - عكا القديمة قبل زلزلة فلسطين 1927

بلاد الشام, من شمالها الى جنوبها ومن شرقها الى غربها كانت عبر تاريخها الطويل سبيلاً للاتصال التجاري (وسواه) بين الشرق والغرب.

والتجارة عملية صعبة شاقة بسبب المسافات التي كان التجار يقطعونها لبيع ما معهم والحصول على سلع جديدة يحملونها الى مواطنهم. وكان لا بد لهؤلاء التجار من أماكن, تقوم في مراكز التجارة الرئيسة, يقيمون فيها ويخزنون بضائعهم ويريحون دوابهم. من هنا كانت فكرة "الخان".

والواقع ان الخانات لم يقتصر وجودها على بلاد الشام. فنحن نجد, من دون ان نتوغل في عصور التاريخ البعيدة, انه في أيام ازدهار الاتجار البري بين غرب آسيا وشرقها في الفترة الإسلامية أقيمت الحانات حتى خارج المدن على الطرق الطويلة. وقد كانت هذه أبنية ضخمة يمكن ان يلجأ اليها التجار والتي كانت تحرس حراسة قوية اذ يبعث السلطان أو الأمير الذي يقع الخان تحت سلطته بحامية تؤمن السلامة للنازلين وما يحملهم وما يحملون.

لكنني أود الآن أن أحصر حديثي على بلاد الشام كي أصل في نهاية المطاف الى عكا. تكاد كل مدينة في بلاد الشام, وبخاصة البحرية منها, ان يكون فيها خان أو أكثر. والخانات التي أشير اليها بنوع خاص هي المسماة عادة بـ"خان الافرنج". والتسمية مرتبطة بالعنصر التجاري الأبرز الذي أدى الى بناء الخان - وقد يكون في المدينة الواحدة أكثر من خان واحد, يطلق عليه هذا اللقب.

والتسمية لا تدل دوماً على زمن معين. فخانات الافرنج في عكا تعود الى أيام حروب الفرنجة (الحروب الصليبية), فيما نجد ان خان الافرنج في صيدا يعود الى القرن السادس عشر.

وخان الافرنج في عكا, الذي أود الحديث عنه هنا, يعود الى أيام الحروب المذكورة. فقد جاء على عكا حين من الدهر كانت أكبر مدينة غربية افرنجية (صليبية) على الساحل الشامي. وكانت تجارتها رائجة, وكان لكل مدينة تجارية أوروبية كبيرة حي يقطن فيه مواطنوها ويقومون بالعمل التجاري فيها. فكان لكل من هذه الجماعات خانها.

والخان كان يحوي في طابقه الأرضي, في غالب الاحوال (سواء كان في المدينة أو في البر الآسيوي) على أماكن لاقامة الدواب.

وخان الافرنج في عكا, الذي قدم لنا ابن جبير وصفاً له وللمعاملة فيه, كان يضم في طابقه الأرضي أماكن لهذه الدواب التي جاء ابن جبير في قافلتها من دمشق الى عكا.

وعلى باب الخان كاتب يسجل اسماء التجار وما معهم.

الى جانب أماكن اقامة الدواب كان الطابق الأرضي فيه غرف لخزن البضاعة الى ان يحين بيعها. كان كل تاجر أو كل جماعة مشاركة من التجار يمكنه ان يطمئن على ما معه في غرفة مقفلة محروسة.

ثم يأتي الطابق الذي يعلو ذلك. هنا كانت تقوم غرف يقطنها التجار الى ان يتدبروا امر بضائعهم بيعاً, وشراء ما يعرض في سوق المدينة (او خاناتها) من سلع يمكن ان تلقى رواجاً في أسواقهم عندما يعودون اليها.

وقد يكون في بعض الخانات, التي قد يقيم فيها تجار أجانب, كنيسة صغيرة تمكنهم من أداء الصلاة عند الحاجة.

ولنترك التاريخ الآن جانباً, ونعود الى خان الافرنج كما كان لما عرفته أنا اثناء اقامتي في عكا (1925-1935).

كان خان الافرنج الذي يقع في وسط عكا يومها قد ظلّ على حاله. فالطابق الأرضي كانت فيه أماكن يضع فيها القوم الذين يأتون من القرى (لم تكن يومها طرق عربات, وكان الدواب واسطة التنقل) لشراء حاجاتهم. (كان خان عوكل عند مدخل عكا الشرقي (بوابة من ايام الجزار حاكم عكا لما هاجمها نابليون). وكان له زبائنه. لكنه كان خاناً, وقد لا يتسع احياناً - خصوصاً يوم الجمعة لجميع القادمين - فيذهب البعض الى خان الافرنج الذي أتحدث عنه لأنه كان الوحيد الذي ظل بناؤه قائماً منذ ان بني.

أما بقية القاعات في الطابق الأرضي فكان يستأجرها أصحاب الحوانيت الكبيرة في المدينة ليخزنوا فيها سلعهم الى حين يحتاجون الى نقلها الى الدكاكين والحوانيت.

أما الطابق الثاني فقد رتّب وقسّم بحيث أصبح بيوتاً شرعية للسكن. وكانت تقيم فيها عائلات عكاوية اقامة من عكا الى طبريا, فأسرعت الى وكيل الوقف السيد ناصيف واستأجرت البيت لأنه كان من حيث السعة كافياً لأسرتنا.

في 27 أيلول (سبتمبر) سنة 1926 كنتُ عائداً عند الظهر من المدرسة لأتغدى وأعود الى عملي, فلما وصلت الى نهاية درج الطابق الأرضي كان ثمة رجل يوقف الصاعدين ليقول لهم ان الغداء اليوم عند فلان. ومع انني كنتُ قد تعرفت على بعض الجيران, فإن هذا الجار بالذات لم أتعرّف عليه. لذلك رفضت قبول الدعوة, لولا ان الداعي تمسك بي, وقال: "هذه العادة كل سنة!". ولم أعرف أي عادة قصد. وقبل ان يشرح لي وصل أحد أصدقائي من سكان البناية وأخذني على جنب وقال لي: "اليوم عيد رفع الصليب, وفلان يضمن هذا العيد, بمعنى ان الغداء يكون في بيته. والدعوة تشمل جميع السكان في هذا المبنى".

لم أكن أعرف هذا الأمر من قبل. لكنني قبلت تفسير صديقي وانضممت الى الجماعة وتغدينا عنده. بعد هذا استفسرت عن معنى ضمانة العيد. وعرفت ان أسراً مختلفة في عكا, وليس من الضرورة ان تكون الأسر الكبيرة أو صاحبة النفوذ تضمن بعض الاعياد المسيحية وعندها يذهب جميع الاصدقاء والجيران للغداء أو للعشاء على نية صاحب العيد.

"عش طويلاً, تسمع (أو تتعلم) كثيراً - هذا المثل ينحسب علي. فأنا الآن في السابعة والتسعين من عمري وما أكثر ما تعلمت (أترك الكتب جانباً) من الناس ومن الحياة.

سنة 1993 زرت عكا. كانت المدينة القديمة على حالها لكنها تخضع لعوامل الخراب, لأن سكانها لم يسمح لهم باعمار منازلهم. زرت البيوت التي سكنتها في عكا داخل المدينة. كانت قائمة لكن الخراب يزحف اليها وعليها.

أعود الى خان الفرنج (هكذا كان يسمى للتخفيف). ان إقامتنا به لم تطل. ففي صيف 1927 ضربت فلسطين زلزلة كبيرة. فحكم اصحاب المعرفة أن البيوت الثلاثة المبنية طابقاً ثالثاً في الخان اصبحت خطرة. فنقلنا منها.

(عن "الحياة")

التعليقات