28/12/2011 - 13:55

غزّة / هشام البستاني*

يبتسمُ الموتُ لأطفالهِ المُخلِصين إذ يلعبون بأدواتهِ المفضلة: أباتشي، إف-16، ها هو صاروخٌ ينطلق: بووم، يرتفعُ عمودٌ دخانيٌ من بعيدٍ على الشاشة. تحت العمود تستلقي أجسادٌ زرقاءُ منثورةٌ على الأَسْفَلْت - يدٌ هناك، رِجلٌ هناك، وفمٌ هنا: أشهد أن لا اله إلا الله...

غزّة / هشام البستاني*

- هشام البستاني-

 

[تشكيلٌ بالأحمَر]

الجزيرة. خبرٌ عاجل: إسرائيل تقصفُ غزّةَ بعنفٍ الآن. المشهدُ عشراتٌ من الجثث المرميّة على الأرض. إحدى الجثثِ تقول شيئًا. تقترب وتسمع: أشهد أن لا اله إلا الله...

بينما تترقّبُ محرقتها النهائية، تُغني الجثّة أنشودةَ الموت. "دمٌ/مطر، دمٌ/مطر، دمٌ/مطر .."

 ***

يمشي الموتُ بينهم بخطواتٍ واسعة، تلمعُ نجمةٌ سداسيةٌ على كتفِهِ بينما يُطالب بكل واحدٍ منهم. يعدُّهُم: واحد، عشرون، ثلاثمئة، أربعة آلاف، خمسة ملايين، ستة مليارات... يا سُكّان الأرض: كُلُّكم لي.

يبتسمُ الموتُ لأطفالهِ المُخلِصين إذ يلعبون بأدواتهِ المفضلة: أباتشي، إف-16، ها هو صاروخٌ ينطلق: بووم، يرتفعُ عمودٌ دخانيٌ من بعيدٍ على الشاشة. تحت العمود تستلقي أجسادٌ زرقاءُ منثورةٌ على الأَسْفَلْت - يدٌ هناك، رِجلٌ هناك، وفمٌ هنا: أشهد أن لا اله إلا الله... 

***

يجلسُ بالقرب من النار الملتهبة، يَهتزُّ جذعه جِيْئَةً وذهابًا، عيناهُ مُزجَّجتانِ بينما ينظر يمْنَةً ويسْرَة، لا يرى شيئًا ولكن يشعرُ بالسائلِ المندفعِ إلى عينيه: وجههُ مغسولٌ بنبعٍ من الدماء.

***

الله أكبر... الله أكبر... تنفجرُ الجموعُ بينما يخترقها عاملُ الإسعاف مُسرعاً يحملُ بين يديه طفلاً اخترقه صاروخ.

***

جثثٌ كامنةٌ تحمل جثثًا فِعليّة. الجميعُ يسيرونَ معًا لقدرهم المحتوم: النارُ المنبثقةُ من اغتصابِ الـ إف-16 للسماء.

***

تحتَ أخضرَ باذخٍ لشجرةِ زيتونٍ أَنامَها صاروخٌ عابر، تضطجعُ فتاةٌ سعيدةٌ كانت عائدةً من المدرسة بعد أن أخبرها حبيبُها خلسةً كم هي جميلة، ودَسَّ وردةً في يدها. لونُ الوردةِ أحمرُ. أحمرُ دَمَويّ: لونُ الوجهِ ذي الابتسامةِ السعيدة.

***

70 جثةً على الطريق. جثةٌ لكل كيلومتر بين القدسِ وعمّان. يبتسمُ العلمُ الاسرائيليُ بفخرٍ فوق الهضابِ شرقَ الأردن. العلمُ يقول: الضفّة الغربية لنا، والضفّة الشرقية لنا أيضًا.

347 جثةً على الطريق. جثةٌ لكل كيلومتر بين غزّة والقاهرة. يبتسمُ العلمُ الاسرائيليُّ بفخرٍ فوق بنايةٍ على النيل. يقول العلم: أَرضُكِ يا إسرائيل من النيل إلى الفرات.

***

البحرُ هادئ. تحت السطحِ مجموعاتٌ من الأسماكِ تسبحُ بين المرجانِ المُلوَّن. فوق السطحِ، تُطلق سفينةُ الحربِ ذاتُ المعدنِ الباردِ صواريخَها على مجموعاتٍ من الأطفالِ ليسبحوا في بحارٍ بلونِ الدم.

***

المعابر التي أُغلِقَت في وجهِ الدقيق، تُفتَحُ اليومَ عن آخرها لاستقبالِ الموتى.


[تشكيلٌ بالأبيض]

يزورهُ إسرائيلُ في منامه، يرتفعُ جداراً مُصْمَتاً أمام عينيْه نحو السماء.

***

السماءُ زرقاء تشقُّها خطوطٌ بيضاءُ متصلةٌ بمؤخّرة الـ إف-16، والعصافيرُ تبعثرها دفقاتُ هواءٍ حارةٌ تنبُعُ من شفراتِ الأباتشي.

لحظاتٌ ويُسمعُ الصوتُ وتهتزّ الأرضُ.لم يكن صوت الله يكلّمُ موسى، ولا صوتَ ارتطامِ لوحة الوصايا العشر الحجريّة بوجه الصحراء. "لا تقتل" كانت تقول. لكنّ الصاروخَ المندفعَ بعزمِ يهوه وسرعةِ حجر داود، أنزلَ عَمَارةً كاملة. بين الغبار والركام الأبيضيْن، كان رأسُ طفلةٍ يحاول الخروجَ، بينما استلقت أجسادُ ثلاثةَ عشرَ من إخوتها في الاعماق معانقين ما تبقّى من أمّهاتهم.

سحابةٌ بيضاءُ ثقيلةٌ تُمْسك الآن بوجه الأرض، تتسلّل من تحت الأبواب، من أطرافِ الشبابيكِ، ومن الثقوب التي خلّفها الرصاصُ في الجدران. الرائحةُ معدِنيّةٌ، تَطْرُقُها أصواتُ سعالٍ واختناق. لا تَرى أحداً، فضبابُ القنابلِ كثيف. بين الحين والآخرِ تسقطُ زخّةٌ من شُهُب الفوسفور الأبيض، وتندلع النار. يبدأ الناسُ بالركضِ، بينما يتساقطُ لحمُهمُ المتفحّمُ على الأرض. 

يضحكُ الجنرالاتُ على عرضِ الألعاب الناريّة.

***

يمشي في حيّ الزيتون. يتابع بنظرهِ الهياكلَ العظميّةَ الراكضة. يَنْفضُ عن رأسه غَمامةَ القهر ويتابع المسيرَ. يسير بعيدًا، بعيدًا..

 

 ...بعيدًا إلى الجنوب الشرقيّ: "تملّكِ الآن شقّتَكَ الفاخرةَ في مدينة النصر، على الخليج مباشرةً". 

فتح البابَ ودخل. الأصواتُ في شبه الجزيرة مختلفة، والسماء مشقوقةٌ بخطوطٍ بيضاء أيضاً لكنْ لم تتبعثرْ فيها العصافيرُ. العَلَمُ المرصّعُ بالنجوم يلمع لوهلةٍ تحت الجناح، وتَظْهر حروفٌ ناريّة: USAF .

يقفِزُ من الشُّباك ليسقطَ بين غابات النخيل وأهوارِ الماء وضفافِ الرافديْن. يتسلّلُ الجنودُ مدججين بالإم 16 والأُصبعُ على الزّناد. يمرُّون به وكأنه نسمةٌ من هواء. صياحُ ديكٍ ونقنقةُ دجاجاتٍ ونهيقُ حمارٍ ثمَّ تندلع النارُ من قاذفة اللهب لتتحوَّل القريةُ شمساً صغيرة.

***

حين استيقظَ من كوابيسهِ كانت آثارُ الدماءِ والحروقِ وأغلفةُ الرصاصِ الفارغةُ تتناثر هنا وهناك في غرفته وعلى أغطية سريره. من ثقبٍ في السقف كان يرى السماءَ الزرقاءَ المخطّطةَ بالأبيضِ والخاليةَ من العصافير. كان ثمة صاروخٌ لم ينفجرْ يخترق بطنَه.

إلى يمينه جلس إسرائيلُ يهدهده ويقول له: "نحن نتألّم لكلّ قتيلٍ مدنيّ، نحن لا نستهدف النساءَ والأطفال، نحن نقتل الإرهابيين فقط، سنفتح تحقيقاً حول ما حصل هنا.."

ابتسمَ. نظر ثانيةً إلى السماء الزرقاء فشاهدها تتحوّل قليلاً إلى الأحمر. مرّ سربٌ من العصافيرِ، وبالوناتٌ، وطيّاراتٌ ورقيّة. تدثّرَ جيداً بحزامٍ ناسفٍ، وضَغَطَ.

-------------------------------------------------

 

USAF : القوات الجوية الأميركية - United States Air Force

هشام البستاني: قاص وكاتب من الأردن. صدر له "عن الحب والموت" (بيروت: دار الفارابي، 2008)، "الفوضى الرتيبة للوجود" (بيروت: دار الفارابي، 2010)، و"أرى المعنى..." (بيروت: دار الآداب، 2012).

التعليقات