27/05/2012 - 22:19

سبراليكس* / أنوار سرحان

هذا الناي اليغازلُ شهقاتي، وهذا الحزنُ الدافق في روحي أنهارًا، وهذي السماء الأقربُ إليّ من طرحتي لا تداعب شَعري الذي تشعّثَ إذ يحاول إبعادَها، تقرفص غارزةً حوافرَ من نارٍ ولهب.. وهذا النّورُ البعيدُ البعيد كلّما سارعتُ جريي إليه، فرَّ تاركَني ألهث ألهث.. وهذا الذي ينسكب من روحي حنينًا إليّ...

سبراليكس* / أنوار سرحان

هذا الناي اليغازلُ شهقاتي، وهذا الحزنُ الدافق في روحي أنهارًا، وهذي السماء الأقربُ إليّ من طرحتي لا تداعب شَعري الذي تشعّثَ إذ يحاول إبعادَها، تقرفص غارزةً حوافرَ من نارٍ ولهب.. وهذا النّورُ البعيدُ البعيد كلّما سارعتُ جريي إليه، فرَّ تاركَني ألهث ألهث.. وهذا الذي ينسكب من روحي حنينًا إليّ...

بامتعاضٍ قاطعني غاضبًا وصاح مشمئزًّا ممّا كرّرتُ أمامه حدّ الملل:

"كلّ هذا البياض من حولك.. كل هذي العصافير تشدو للفرح.. فلماذا لا تسمعين غير الصراخ ولا ترين غيرَ الدم؟!"

وكطفلةٍ غبيةٍ لا تملك إجابات، أطرقتُ أمامه ذاهلةً وهو يلحّ بنصيحته مهدّئًا من نبرته ما استطاع: "ابحثي فقط عمّا يمنحكِ الفرح، وابتعدي عن كلّ ما يسبّب لكِ الحزن، بغير ذلك لن تتخلصي من الاكتئاب"..

لا أدري إن كان ما أحرجني أني لا أعرف شيئًا يمنحني الفرح، أم كوني سأغدو مضطرّةً للابتعاد عن كلّ العالم، وأوّله أنا.. وكيف أفرح وثمة صباحات بأسنانٍ تنهش، ولعضّاتها وجع الحقيقة.. لم يبدُ عليه انزعاج من صمتي قدر ما بدا راثيًا لحالي.. أغرق أذنيّ بما لم أميز منه حرفًا، ثم سألني بنبرة من قنط من فهمي: "بم تفكرين يا ابنتي؟"

- "التوحيدي".. همست متحشرجة.. ولمّا تحجّرَت نظراتُه ألقيتها إليه كما كرةٍ تائهةٍ بلا مرمى: "بل الغريب من هو في غربته غريب"**. ولم أنتظر ردًّا.. خرجتُ أبحث عن كون يتّسع لحزني.. النور الذي خفت وبهت، الفضاء الذي كبحَته العتمة فضاق واختنق، النفس التي اغتصبها الحزن فحبلت بالوجع، حملوا اسمَ غيابك خجِلين... فيما حملتُ بين أحضاني بصمتٍ شظايا أملٍ ما زلتُ أُرضعه دموعي ليلتئم... لا أذكر إن كنتُ استجديتُ النوم الحضورَ أم أنه باغتني.. حلمتُ بك، كنتُ قد نسيتُ مَن نكون.. وكنتَ خلعتَ عنك كلّ رداءات الخجل المعهود.. ضممتَني.. ضممتني عميقًا حتى كدتَ تندسّ بين ضلوعي ثمّ رفعتَ ذراعيك وما زلتُ بين كفيك، قبّلتني، لم تكن دافئةً، كانت حارّةً حارّةً. رفعتَ عينيك وحدّقت بي طويلاً بصمت. كانت ملامحي تنضح لهفةً وشوقًا وشغفًا ووو... ضحكتَ ضحكتك العميقة وقلتَ ونبرة الضحك لا تفارقك: "تعشقينني يا مجنونة!!؟؟"

(لا تعتب على مجنونةٍ أو مجنون.. ثمّ إنه حلمٌ فقط، مجرّد حلم)، كنتُ هناك، حيث خاشعةً كانت تؤدي صلاتَها روحي في محراب نورك، رأيتك تنسكب هيبةً ووقارًا ودفءَ حنانٍ لتغمر شغفي... هناك تمامًا عرفتُ معنى السُّكر بلا خمر.. تهدّمت منّي أسوار الحزن وحصونه، شيءٌ من النور شق العتمة.. وإذ قلتَ: أحبكِ، انهمرت كلُّ النجوم خجلاً وبقيت السّماء عاريةً إلا منك ومني.. عند سدرة العبارة.. ثم عبثًا حاولت السّماء يائسةً أن ترتفع إلى أجنحة حلمي الذي رحُب محلّقًا لمّا زاره طيفك. طمأنتُها بابتسامةٍ صادقة (فيما تعلّقتُ بطرفٍ منه غمر الأفق)، وأشرتُ لها من بعيدٍ أن تحلم بك، وحده طيفك يرمي بأطراف الحلم هناك.. لمّا رأيتَ ما منحتني من أجنحة رحتَ تكررها: أحبك أحبك أحبك.. ومع بغتة العبارة انفجر الحلم، اجتاحت شظايا نبراتك سراديبَ روحي، وجفلتُ أستجدي انهمارًا أكبر.. كانت همساتك تتدافع في أذني، وكنتُ أرتجّ كأرضٍ غمرها الفيضُ بعد طول جفاف.. ثمّ ومن شهقات روحي انولدت شهوات.. كلها لا تحمل إلا اسمك..... قلتُ شهوات؟! وهل ثَمّ شهوةٌ أقدس من وجودي في قلبك وفكرك أو وجودك فيّ؟ كأن أرانا مثلاً نقف في صفوف المصلين في مسجدٍ إمامُه لا يرى أبعد من أنفه، يزعق بأنّ صوتي عورةٌ وأنّ تعدّد الزوجات تكريمٌ للمرأة، وأنّ الحجاب جاء درءًا للفتنة، ويرسم الدين رسمًا شاذًّا دون أن أصرخ في وجهه، بل أبتسم وأنا أراقبك وأستمع لما تقول في سرّكي، قبل أن أرانا في السيارة فيما تفتح النافذة لتشتمَ سائقَ شاحنةٍ أطلق صفّارته إذ مرّ فقطع علينا حديثًا انسجمتَ فيه بوصف الثوراتِ وتحويل مركبها، فأنساك ما كنتَ تحكي عن ثورةٍ فكريةٍ هي العتبة الأهمّ كي نثور حقًّا.. أو أراني أضحك إذ أتابع "خناقتك" مع بائع وردٍ كنتَ ستشتري لي منه زهرةً ونسيتَ حين لفّ عنقَها بجريدةٍ فيها مقالةٌ تحبّها، فغضبتَ وهجتَ صائحًا بأنّ ثمة كلماتٍ أقدس من حديقة ورد..

نعم كلّ هذا، أو حتى أن ألتقيك كما الآن تمامًا: أنت في تلك الديار وأنا هنا أهمس لطيفك وأحدّثك عن شهوتي التي لا تفتر، شهوتي بأن أجلس يومًا في حضرة هيبتك... وأعيد: من الروعة أن تحبّيه ومن الأروع أن تجلّيه، فإذا جاء الحب ثمرة الإجلال اشهدي إنك لعلى عشقٍ عظيم.

في الصباح، وقبل أن يلج الفجر دروب الليل أيقظتني دعوات أمي تبتهل لله أن يشفيني، قبل أن يودي بي الاكتئاب إلى الجنون أو الموت. كانت تلحّ لله بأني طيبة ولا أستحقّ كل هذا الحزن قبل أن تبرئ نفسها أمامه بأنها فعلت المستحيل لأجل سعادتي المفقودة.. لم أقل شيئًا، تذكرتُ حلمي، ونورَك، قمت بلهفة المجنونة إلى غرفة أبي.. وقفت كثيرًا عند بابه صامتةً. كان النفريّ في روحي والعبارات تضيق تضيق حد الإطباق... هل تناولتِ السّبراليكس؟ سألني بحزم..

"وجدتُ لي سبراليكس آخر!!" قلت، وعدتُ للنوم أنادي حلمي: هيت لك..


*سِبراليكس: عقارٌ طبّيّ للتخفيف من حدّة الاكتئاب والاضطرابات العاطفية والنفسية.

** مقولةٌ لأبي حيان التوحيدي في وصف الغريب

التعليقات