07/07/2012 - 05:02

D.C.O / خالد عودة الله

للمرّة الأولى منذ سنين، تجاهل العقيد أبو نضال تعليمات طبيب القلب المشدّدة المتعلّقة بصعود درج العمارة،صاعدًا إيّاه درجتين درجتين، وما أن فتحت زوجته باب الشّقّة حتّى فاجأها بعناقٍ كاد يخنقها قائلًا لها بصوتٍ يرتعش من الفرح:

D.C.O  / خالد عودة الله

للمرّة الأولى منذ سنين، تجاهل العقيد أبو نضال تعليمات طبيب القلب المشدّدة المتعلّقة بصعود درج العمارة، صاعدًا إيّاه درجتين درجتين، وما أن فتحت زوجته باب الشّقّة حتّى فاجأها بعناقٍ كاد يخنقها قائلًا لها بصوتٍ يرتعش من الفرح:ِ

"لقد تمّ تعييني مسؤول الجانب الفلسطيني في جهاز الارتباط والتنسيق الـ D.C.O".

في تلك الليلة نام العقيد باكرًا دون أن يلتفت إلى إيمائات زوجته المتعددة. في الصباح استيقظ باكرًا، توجه إلى الحمام وأخذ "دوشًا" فاركًا جسده بصابون "جونسون" المعطر برائحة زهرة الأكاسيّا، ثم وقف أمام المرآة مستعرضًا عضلاته المفتولة، وتفحص بشكلٍ مبالغ فيه عضلة "الترايسبس"، وأخذ يُشذّبُ شاربيه.. حلق ذقنه بعناية فائقة مستخدما ماكنة "جيليت" من الجيل الثالث التي ابتاعها البارحة على شرف المناسبة.. نتف بعضًا من شعر حاجبيه.. وعالج ذقنه برشات مكثفة من عطر "أولد سبايس" الذي أدمنت عليه مسامات جلده منذ أن دخل السوق الحرة لأول مرة في تونس بعد الخروج من لبنان.. ارتدى بزّته العسكريّة ذات الأزرار الذهبيّة.. لمّع حذائه وتوجه إلى مكان عمله الجديد. 

على مدخل مكتب الارتباط والتنسيق، كان بانتظاره الضابط "سفيكا"  مبادرًا بالتحيّة:

"صباح الخير أبو نضال ، أهلًا وسهلًا بك في مكتب الارتباط والتنسيق، أقدم لك زميلي كابتن ’جاي‘".   

مدّ العقيد يده مصافحًا سفيكا، ثمّ التفت لمصافحة "جاي".. برق أمام عينيه وشم نجمة داوود زرقاء اللّون يتوسّطها عقربٌ أسود على ذراع  الكابتن "جاي"، فَسَرت في جسده قشعريرة عنيفة بعثرت أعضاءه، ولمعت حبّاتٌ من العرق على جبينه. قاد "سفيكا" العقيد في جولة لتعريفه على تفاصيل المكان وإجراءات الأمن المتّبعة، كان العقيد خلالها يوزّع ابتساماتٍ فاترةً على موظّفي مكتب الارتباط والتّنسيق.

رجع العقيد إلى البيت منهك القوى، وما أن دخل الشّقّة حتّى أسرع الى حجرة النّوم موصدًا الباب وراءه.. ارتمى على السّرير مشعلًا سيجارة.. فجأةً انقلبت حياته رأسًا على عقب، وتبدّد الفرح الغامر كالرّمل من بين أصابعه، وابتلعته حالةٌ من الغثيان حوّلته إلى جثّةٍ هامدة، وأطبق على رأسه صداعٌ رهيب:

"هل يمكن أن يكون ’جاي‘ هو نفسه ’مارتين‘  كابتن ’الشّاباك‘  الّذي تولّى التّحقيق معه في مركز ’بيتح تكفا‘ قبل ثلاثين عامًا؟  وهل يمكن أن يكون الوشم مجرّد مصادفةٍ لعينة؟"

لم تكن ندوب "بيتح تكفا" قد اكتمل التئامها بعد - وخاصّةً تلك الّتي تشكّلت في ساعات ما قبل فجر اليوم الثّامن من التّحقيق، عندما اغتصبه ’مارتين‘ بهراوةٍ بلاستيكيّة وهو يطوّق عنقه بذراعه الّتي تحمل ذلك الوشم اللّعين.

ثلاثون عامًا حملت الأيّام فيها العقيد من معتقل نفحة إلى بيروت بعد صفقة تبادل الأسرى مرورًا بتونس، وصولًا إلى رام الله بعد أوسلو.. خلّفت هراوة "مارتين" ندوبًا غائرةً في جسد وذهن العقيد، طمرها  تحت طبقاتٍ عدّةٍ من الحيل النّفسيّة والكتمان الصّارم، آملًا أن تُطوى صفحتها إلى الأبد، لكنّها لعنة التّاريخ الشّخصيّ الّذي يكمن كلغمٍ أرضيٍّ منسيٍّ من مخلّفات حربٍ غابرة.. تأتي عاصفةٌ هوجاءُ فتزيح عنه ركام السّنين لتتجدّد فيه القدرة الهائلة على الفتك.

هناك، وإلى ذلك المكان من جسده الّذي مزّقته هراوة "مارتين" انتقل كلّ نشاط جهازه العصبيّ والذّهنيّ، لتتكثّف حياة العقيد في تلك  "الفتحة النّازفة" الّتي تصالح مع آلامها الدّوريّة معزّيًّا ذاته بمقولة  "كلّ شيءٍ يهون لأجل عيون فلسطين" الّتي كان قد حفرها في ذهنه وهو راقدٌ على سرير المشفى في ألمانيا الشّرقيّة، كان للمقولة فعلٌ تخديريٌّ خارقٌ استمرَّ لسنواتٍ طويلة، إلى أن بدأ يتلاشى عندما فُقِئت عيون فلسطين في أوّل لقاءٍ جمع العقيد مع ضبّاط الجيش "الاسرائيليّ" في أريحا  لتنسيق تسلّم رشّاشات الكلاشنكوف بعد فحصها وترقيمها.

بعد أن لدغ العقرب - الموشوم على ذراع  الضّابط "جاي" -  العقيد،  فقدت المقولة آخر ما احتفظت به من فاعليّتها التّخديريّة السّحريّة، ولم يبقَ للعقيد سوى مراهم معالجة البواسير والإيبوبورفين عيار  800 علاجًا لجرحه النّازف "ورجولته" المهتوكة.

في تلك اللّيلة الطّويلة أصبحت كلّ الاشياء اسطوانيّة الشّكل وداكنة اللّون، هراوة "مارتين":  شمّاعة الملابس هراوة مارتين،علبة رغوة الحلاقة هراوة مارتين، قارورة مياه "جريكو" هراوة مارتين. حاصرت الهراوات العقيد وهو يتقلّب في فراشه، إلى أن صدح صوت المنبّه من جهازه الخلويّ.. نزل العقيد متثاقلًا من السّرير،  توجّه إلى الحمّام وأخذ " دوشًا" فاركًا جسده بصابون "جونسون" المعطّر برائحة زهرة الأكاسيّا، ثم وقف أمام المرآة دون أن يستعرض عضلاته كعادته، حلق ذقنه بعنايةٍ فائقةٍ مستخدمًا ماكنة "جيليت" من الجيل الثّالث.. نتف بعضًا من شعر حاجبيه، وعالج ذقنه برشّاتٍ مكثّفةٍ من عطر "أولد سبايس" الّذي أدمنت عليه مسامات جلده منذ أن دخل السّوق الحرّة لأوّل مرّةٍ في تونس بعد الخروج من لبنان.. ارتدى بزّته العسكريّة ذات الأزرار الذّهبيّة، لمّع حذاءه.. تناول قرصيّ إيبوبورفين عيار 800 وتوجه إلى مكان عمله. 

 

01.07.2012

القدس المحتلّة

التعليقات