15/09/2012 - 12:25

صديد / خالد عودة الله

كانت الأشهر التسعة التالية لرفع اسمه عن قائمة المطلوبين لجهاز "الشّاباك"، أشبه بورشة عملٍ محمومةٍ قام خلالها بإعادة تأويلٍ منظّمةٍ لمعالم المرحلة السابقة، مرحلة العمل الثوري السري. فمجرد خروجه للتسكع ليلًا في شوارع بلدته المُنارة حديثًا، حفّز في نفسه رَغبةً جامحةً في المراجعة والاعلان عن بداياتٍ جديدة.

صديد / خالد عودة الله

كانت الأشهر التسعة التالية لرفع اسمه عن قائمة المطلوبين لجهاز "الشّاباك"، أشبه بورشة عملٍ محمومةٍ قام خلالها بإعادة تأويلٍ منظّمةٍ لمعالم المرحلة السابقة، مرحلة العمل الثوري السري. فمجرد خروجه للتسكع ليلًا في شوارع بلدته المُنارة حديثًا، حفّز في نفسه رَغبةً جامحةً في المراجعة والاعلان عن بداياتٍ جديدة.

القبو السري كان الشيء الوحيد المتبقي من معالم المرحلة السابقة، والذي بقي إلى الآن، بعيدًا عن حمى إعادة التأويل والكشف. كان القبو عبارةً عن غرفةٍ مربعة الشكل مشيدةٍ من الخرسانة ومعزولةٍ من الداخل بطبقتين متتاليتين من الجبس، يفصل بينهما الصوف الصخري، وذلك لضمان عزل الصوت، وأما مدخل القبو  فيبدأ بفتحةٍ مموهةٍ تقع تحت الثلاجة في أرضية مطبخ بيته، وتتصل بنفقٍ بطول ثلاثة أمتارٍ يؤدي إلى القبو.

بعد أن َسلُم "الفنان" - الاسم الحركي الذي اكتسبه وسيم لمواهبه الفنية المتعددة في الرسم والنحت "والتجميل " - كلَّ محتويات القبو من  "متعلقات" العمل السري للأجهزة الأمنية،  لم يتبق في القبو إلا صندوقًا خشبيًّا يحتوي على خمس ساعات منبّهٍ ماركة "سيكو"، كانت تستخدم في تجهيز العبوات الناسفة، وتشكيلةٍ من الألوان الزيتية والأصباغ والدهانات المستخدمة في تمويه العبوات الناسفة، بالإضافة إلى حقيبةٍ سوداءَ مليئةٍ بأدواتِ ومساحيقِ  "الماكياج" والشعر المستعار التي كان وسيم يستخدمها للتنكر وتغيير ملامحه أثناء تنقله، عند اضطراره للخروج من القبو في المهمات النضالية. تربّع الصندوق في وسط القبو كنصبٍ تذكاري، يحتفي بالبطولة ليعلن نهايتها، ويحيل الذاكرة إلى تاريخ.  

لم يصمد القبو طويلًا أمام غواية المراجعات والكشف، فذات ليلةٍ وفي نهاية جلسةٍ احتدم فيها النقاش حول نقد التجربة الفنيّة  في العمل الوطني والعلاقة ما بين السياسي والجمالي، وُلدت فكرة تحويل القبو إلى "جاليري" في ذهن وسيم:

"لتأخذ  العلاقة ما بين السياسي والجمالي بعدًا أكثر عمقًا يُضفيه مكان العرض على العمل الفني" .

 "جاليري الثورة" كان الاسم الذي إختاره وسيم للقبو، وفي صبيحة اليوم التالي كان حديث الليل قد تحول نهارًا إلى معاول ومطارق، وبنشوة البدايات الجديدة وعلى ألحان مارسيل خليفة بدأت عملية إزاحة التراب عن الجدار الشرقي للقبو، ومِن ثُم انهالت المطارق على الجدار لعمل فتحةٍ فيه لتكونَ "المدخل الجديد"  للقبو بديلًا عن النفق. كان الجدار الاسمنتيّ يتداعى بسرعةٍ مذهلةٍ، لعلّه الفعل السحري ِلتَبَدُّلِ أسماء ووظائف الأبنية.   

وهكذا أصبح للقبو السري لافتةٌ تدلُّ عليه من بعيد، بعدما تحّول إلى "جاليري الثورة"، وقع اختيار وسيم على ساعات المنبّه الخمس كمادّةٍ خامٍ لعمله الفني التدشيني "للجاليري"، وبعد يومين من العمل والتجريب الفني، وتحت غواية  مدارس ما بعد الحداثة الفنية - التي طغت على نقاشات المهتمين بالتجديد الفني في بيته - وُلد "عَبَث"، الاسم الذي أعطاه وسيم لعمله الفني "الخالص" الأول،  كان "عَبَث"  استعراضًا سمعيًّا – بصريًّا مكوّنًا من الساعات الخمس، المثبتة بشكل دائريٍّ على خلفيةٍ زجاجية، والتي عَبَثَ وسيم بمسنناتها مُجبرًا عقارب كل ساعة على الدوران بعكس اتجاه عقارب الساعة التي تسبقها في الترتيب، وبهذا  تكون محصلة الزمن في الساعات الخمس تساوي صفرًا دائمًا.

 توالت ابداعات وسيم "الثوريّة" ليتحول الجاليري شيئًا فشيئًا إلى مَعلمٍ يجذب الفنانين الثوريين والنقّاد المهتمين بالفن المعاصر، بالإضافة إلى المتضامنين الأجانب المشاركين في المسيرة الاسبوعية لمقاومة الجدار بالقرب من بلدته.

بدأت علاقة وطيدة تنشأ ما بين وسيم "والكاميرا"، فكل زيارةٍ "للجاليري" كانت تنتهي بصورةٍ تذكاريةٍ للمكان والفنان، ومع كل ومضةٍ "لفلاش الكاميرا" كانت ذكرى ذلك المساء التشريني تقفز إلى ذاكرة وسيم، عندما اتخذ قراره "بالنزول تحت الأرض"، فقام بحرق كل صوره الشخصية كإجراءٍ امنيٍّ احترازيّ.

 في غمرة أضواء النجوميّة، كانت بثور وردية ذات رأس يميل إلى الحمرة تغزو ببطئ وجه وسيم، لم يُعرها اهتمامًا يُذكر في أوَلِ الأمر، إلى أن بدأت البثور تتحول إلى الحمرة الداكنة، وأخذت تتشقق ويسيل منها سائلٌ مائلٌ إلى الصفرة. ذُعر وسيم وهو يرى خيوط السائل الأصفر تتكاثر وتتقاطع على وجهه، فهرع إلى طبيب الجلد الذي شخّص الحالة "بتهيّجٍ شديدٍ أصاب النهايات العصبية في بشرته، مُرَجِّحًا سبب التهيج إلى تحسسٍ من أشعة الشمس المباشرة والأضواء الساطعة، وَرِثَتْهُ بشرته من سنوات الاختفاء الطويلة."

 كانت البثور تجتاح وجه وسيم كأنها احتجاج الجسد على تحولات الروح، وأجبره السائل الأصفر على "الاختفاء" مدة أسبوعٍ كاملٍ قضاه في علاجٍ مكثف، إلى أن بدأت البثور توقف نفثها للسائل الأصفر، لتتحول شيئًا فشيئًا إلى بقعٍ سوداءَ خشنةٍ تُغطي غالبية وجهه. لم تنفع كل المراهم والغواسيل في التخفيف من حدة البقع السوداء فضلًا عن إزالتها.

لم تترك  صورة الوجه الدميم - التي تظهرُ أمام عيني وسيم كلما نظر في المرآة - إلا خيار العودة إلى "التنكر" وتغيير الملامح من جديد، ولكن هذه المرة لإخفاء بعضٍ من البقع الداكنة ودمج البعض الآخر في تضاريس وجهه الجديد.

11-9-2012

(القدس المحتلة)

التعليقات