23/09/2013 - 19:42

تلك اللّوحة / رأفت آمنة جمال*

بطفوليّة صاخبة كنّا نرشُقُ بعضنا بالألوان، بعد أن استفزّه مُزاحي أثناء اقتراحي لعناوينَ وصفها بـ "الإباحيّة للوحتِهِ الّتي أنجزَها "عَنّا" دون أن أفهمَ علاقة مضمونها وألوانها الهادئة بنا!

تلك اللّوحة / رأفت آمنة جمال*

بطفوليّة صاخبة كنّا نرشُقُ بعضنا بالألوان، بعد أن استفزّه مُزاحي أثناء اقتراحي لعناوينَ وصفها بـ "الإباحيّة  للوحتِهِ الّتي أنجزَها "عَنّا" دون أن أفهمَ علاقة مضمونها وألوانها الهادئة بنا!

يحتدمُ نقاشُنا الجادّ ليتحوّلَ إلى عراكٍ صبيانيٍّ بالأيدي، يُثيرُ الضَّحِكَ وأحيانًا الرّغبة في البكاء، من طرفه، وهو يناقش معي دلالات الأزرق والأخضر والألوان الأخرى الّتي عبثًا يُحاولُ تصنيفَها لشخصٍ مُصاب بعمى الألوان مثلي. ثمّ يكاد ينفجرُ وهو يشرحُ فلسفته الملوِّنة لشجاراتنا الدّائمةِ، والّتي كان آخرُها نقاشًا حول مَن بدأ السّرياليّة، هل هو سلفادور دالي أم بيكاسو؟! قبل أن يفتعل عراكًا جديدًا بعبارته: "مش بس عمى ألوان.. لا وعَمى قلب كمان"، لننتفضَ ألوانًا...

يضحَكُ.. فيما أُدخِلُ طرفَ إصبعي بحَذَر إلى عيني لأمسحَ ما عَلِقَ داخلها من ألوان، ثمّ يمُدُّ إصبعه إلى أسفل شفتي لمسح البقع الأخرى. وكما لو أنّه يستفردُ بلوحة يُوشِكُ على البدء برسمها، كان يقبضُ على كتفي من الخلف، ويُمرّر فرشاته على خاصرتي فأنتَفِض.

يلهثُ... دون أنْ يبذلَ جهدًا يستدعي تنفّسَهُ السّريع، فتحرق أنفاسُهُ الحارّةُ ظهريَ وهو يُحكِمُ قبضتَه على كتفي، ويقول: لأوّلِ مرّةٍ أشعرُ أنّني أرسُم، لأوّلِ مرّةٍ أتخيَّلُ هذه الغرفةَ القَذِرةَ مَرسمًا!! يصمتُ ثمّ يستدرك بدهشة طفلٍ اكتشفَ أمرًا:

"بدّي بحر"

- بحر؟ بهيك وقت؟

- لسّة بكير...!

- أيّ بكير؟ يا دوب نتحمّم من القرف اللي علينا.

يمتعض: "إسّا ألواني صارت قرف؟ كنت طاير فيها!

أرتدي ملابسي سريعًا دون أن أنظّفَ جسدي (محاولَةً ذكيّة لإرضائه، هو المُولَع بألوانه.. وبي) وأمدُّ له ذراعي.

*

كنتُ أضغطُ على إصبعِه، يُحاولُ إفلاتَها من قبضتي بعد أن أتمادى في ذلك فيتألّم، إلا أنّه يعجز، فيبدأ بالصّراخ عاليًا قاصدًا إحراجي أمام راكبي الباص لكي يُجبرَني على تركِهِ مستسلمًا لسُلطته الطّفوليّة الماكرة. ثمّ يفرُكُ إصبعه بإغراء و يُطلقُ ضحكتَه الغريبة زهوًا بانتصاره الدّائم كما العادة (أعترِفُ بأنّه كان ينتصرُ دومًا في كلّ معركة صبيانيّة نخوضُها). لكنّه لم يكتفِ بانتصاره الأول عليّ، سرعان ما يصمتُ فيبدو في صمته أكثر النّاس جديّةً ورزانة، فأفهمُ أنّه يُخطّط لمشهدٍ لا يمكنني توقّع تفاصيله، إلّا أنّني كنت متأكّدًا من حتميّة انتصاره بشكل فضائحيّ!

يعدّلُ من هيئته سريعًا، يرفعُ حاجبَه ممّا يزيدُهُ وسامةً ثمّ يقلب بؤبؤَ عينيْه بحركة طفوليّة أستلذّها ويقول:

- أنجنّ؟ أحضنك بالباص قدّام الكل وأنزل فيك بوس؟

أضطَّرِب. لم يكن لديّ شكّ بـ "جنونه" ذاك. يأخذ وجهي شكلَ أمّ تزمُّ شفتيْها وتفتح عينيها على وسعهما تأنيبًا لولدِها بعد "فصلٍ ناقصٍ" يقوم به أمام النّاس، أقول بنبرة لا تخلو من الرّجاء:

- لا.. بحب جنونك.. بس هون لا.. تنجنّش!

- خلّيك عم تنظّر عن حقوق العالم وحريّتهم.. وقت الجَد بتنهزم.. وين المشكلة نبوس بعض بالباص زي أي شبّ وصبيّة؟

"وقت الجَدّ"!

لم أكن أفهم تلك الجديّة الّتي يتحدّث عنها عادةً حين يغضب أو يستفزُّهُ شيءٌ ما. كنت أقابلها بالضّحك والسّخرية، وبرغبة جامحة باحتضانه وتقبيله كما لو أنّه أكثر الأطفال جمالًا ومرحًا. هكذا كان يبدو لي - ببساطة - حين يتحدّث عن "وقت الجَدّ" الّذي لم يكُن يحسبُ له حسابًا.

أشيح بوجهي عنه، أضحك بضعَ ضحكات متقطّعة وأقوم بالضّغط على إشارة "قف" وأقول ضاحكًا:

- وصلنا .. تعال ننجنّ بمحلّات ثانية..

نهبط من الباصِ، وحالة من الجديّة تسيطرُ عليه:

- "جبان.. بعُمرها قضيّتك ما رح تنحلّ طالما بتخاف تمارس أبسط تفاصيلها بالعلن...".

كان يعلمُ أنّني لا أخجلُ من علاقتنا. هو أيضًا كان يفكّر مثلي، كان فخورًا بنفسه، متصالحًا مع ذاته، واضحًا حدّ الفضح أحيانًا.. ولعلّ هذا التّطابق في نظرتنا إلى أنفسنا هو ما أتاحَ لنا مسارَ تلك العلاقة المتّزنة.. إلّا أنّ الفارق بيننا، هو أنّه شخص يؤمن بتحويل الشعور - كل شعور - إلى أفعال، حتّى لو بدت متطرّفةً أو في غير موضعها. كان مثلي تمامًا، يُنظِّرُ حول قضيّتنا الّتي عليها أن تخرجَ من أروقة النّقاشات الضّيّقة إلى مساحاتٍ شاسعة من البوح، ومن النّصّ إلى النّاس، ومن كلام الأغنيةِ في القاعةِ إلى الخطوة في الرّقص العلنيّ في الشّارع. إلّا أنّني كنتُ مقتنعًا بضرورة حصر العلاقات الحميمة كلّها بين الجدران الأربع.

*

ثمّة ما هو ممتع في خلافاتنا، ربّما هي الشّقاوة المُتبادلة، أحيانًا كنت أبادله شقاوته وصبيانيّته، على الرّغم من جدّيّتي، إلا أنّني أحيانًا كنت أبدو أكثرنا "مشاكسة" وطلبًا للحُبّ في أيّ مكان، "حسب المزاج"، لكنّه كان يسخر قائلًا: "تقصد حسب الهرمونات".

 كنتُ أشطر منه في النّظرة والإيماءة، لدرجة أنّه كان يخجل من ذلك بينما - في المقابل- كانت تروق له الكلمة والقُبلةُ أكثر، ويجد راحةً في ممارستها.

سنتان متتاليتان، نختلفُ ونتّفقُ، ننفصلُ، نشتُمُ، نحطّمُ هواتفنا، نكتئب، ثمّ بضحكة متعرّجة من باب "عزّة النّفس" نعود، نَفسًا واحدة.

أذكُرُ أوّل "اختلاف" حدث بيننا، كان لا يخلو من الجديّة من طرفه، الأمر الّذي فاجأني بشخصيّته المختلفة بعد ذلك خلال علاقتنا.

حينها كنّا في بداية تعارفنا، يُحاول كلّ واحد فينا أنْ يتصرّفَ عكس شخصيّته الحقيقيّة، سلوك نلجأ إليه عادةً في بداية تعرّفنا على شخص جديد نشعر أنّ ثمّةَ ما هو مختلف سيحصل بيننا. ربّما كي نشعر بارتياح ونحن ندرّبُ أنفسَنا على احتمال الاختلاف لاحقًا. في ذلك الوقت كان متّزنًا وصارمًا، يكتفي بابتسامة خفيفة وبضحكة يتنفّسها برقّة من أنفه، وكنتُ أتصرّف بانفعال يصلُ حدّ البلاهة أحيانًا. وقد كان من الطّبيعيّ ألّا تُزعجني "جدّيته"، وألّا أشعر بأنّ "خفّتي" تزعجه أيضًا، فقد كان كلّ واحد فينا الآخر.

كان ذلك في الليلة الرّابعة لتعارفنا، كنّا في السّرير حين، فجأة، سحبَ يدَه سريعًا، أصدرَ صوتًا يشبه التّحمحمَ، ثمّ قال بنبرة اعتذار لم أفهمها:

- مكنتش أعرف إنك شو اسمه!

- شو اسمه!

- ممم.. يعني مسيحي!


أشعلتُ نورَ الغرفةِ، كان قد لفّ نفسه بالغطاء كما لو أنّ "شرطة الآداب" قد غافلتنا فسترنا عورتنا كما يفعلون في الأفلام المصريّة. أمّا أنا فلم أقُل شيئًا، قصدتُ أن أظلَّ عاريًا.. أتفحّصهما مبتسمًا.. عضوي ووجهه، ثمّ ألقيتُ ضحكةً خفيفة في تلك المساحة الّتي اتّسعت بيننا. وقلتُ وأنا أتناول "بوكسري" عن الأرض:

- حتى هون؟!

*

أحملُ الكاميرا، وأركُضُ إلى جانبه محنيَّ الظّهرِ محاولًا التقاط صورةٍ لقدميْهِ تنغرزان في الرّمل.

في أصابع قدمِه الملطّخةِ بالرّمل ما يُغري أكثر من تزاحم أصابع كفّيْهِ على لوحة. أصارحه بذلك، فيما يُديرُ وجهَهُ جهةَ البحرِ خافيًا ملامحه وابتسامته الّتي تمكّنتُ من الإمساكِ بطرفها بعدسة الكاميرا. تُثيرُني اللامبالاة المصطنعة. لو أنّه واصلَها ولم يتسلّق بأصابعه على فخذي وأسفل بطني بعد جلوسنا على الشّاطئ البارد، لأثارني أكثر. لم أعترف له بذلك. غباء أنْ أسلّمه مفاتيح رغبتي دفعةً واحدة - أقنعُ نفسي.

يمدُّ ذراعَه مسافةَ بحرٍ، لتبدو إصبعه كما لو أنّه يضغط على أضواء المدينة المقابلة لنا.

- "هناك .. هناك".

يقولُ، دونَ أن يُضيفَ شيئًا عن هُناك! أشرّعُ عينيّ، وأتنهّدُ الكلمةَ:

- "عــكّــــا.."

يظلُّ يراقبُ المدينةَ الّتي لم تكن أكثر من أضواء تتراقص ومياه بحر حيفا، فيما أغرزُ أصابع قدمي اليُسرى بالرّمل، ثمّ أرفعها وأسكبُ رملًا على قدمِه، قبل أنْ تتشابكَ أيدينا ونغطَّ في غوصٍ عميق.

فجأة يضعُف، أشعرُهُ يلينُ تحت جسدي. لم أعُدْ أشعر سوى بإصبعه ثقيلًا يحاولُ انتزاعَ تلك البُقعة الجافّة من الألوان على ظهري. أتأوّهُ، فيُسكتُني  بكفّه ويقول:

- لحظة.. لاقيت العنوان، راح أسمّيها: "أصلًا مش هون العلّة."

وراحَ يركُضُ مسرعًا على امتداد الشّاطئ جهةَ عكّا، بينما كنت منشغلًا بإزالة "ذلك القرف" عنّي قبل أن أرتدي قميصي.

 

* حيفا/ فلسطين المحتلّة.

التعليقات