استدراكات حول تداول السلطة..

استدراكات حول تداول السلطة..
إذا عادت عائلة كلينتون إلى البيت الأبيض في العام 2008 فسوف يجد الأميركيون أنفسهم إزاء صراع ودسائس عائلات ملكية، مما يعرفونه من المسلسلات والأفلام الإنجليزية وغيرها ويحبونه في الأحلام، وصناعة الأحلام، وغالبا ما نفروا منه وكرهوه في السياسة الجمهورية الفدرالية التي نشأوا على قيمها، أو إزاء مسلسل "داينستي" من سبعينيات القرن الماضي.

قد تفسد الأرستقراطية السياسية الجديدة الحلم الأميركي "الأصلي" المنسوج حول العصاميين الذين نجحوا، والمركب من حقيقة وخيال في آن معا. الحقيقة فيه أن أفرادا من أصول فقيرة أو مهمشة "نجحوا بالوصول إلى المجد" في الرياضة وصناعة التسلية والسياسة والأعمال، وشكلوا مادة خام لصناعة الأفلام مفصلة لأحلام الشخص العادي كإيديولوجية بمعناها المبسط كوعي زائف: بوسع كل شخص أن ينجح مثلما نجح البطل، من انتصار الفريق الضعيف المغمور على الفريق الشهير الغني في كرة القدم والبيسبول، وحتى انتصار المرشح الرئاسي من الأصول الفقيرة على ارستقراطية واشنطن ودهاليز ومراكز القوى المتأصلة فيها. أما الكذب فيكمن في أن هذا العنصر، حتى حين يكون حقيقيا، لم يحكم في يوم من الأيام خارج بنى السلطة والمصالح المحافظة اليقظة للتغيير إذا لزم، وإلا كاستثناء يؤكد مراكز القوى العاتية القائمة والممأسسة، فإما أن يتكيف معها أو ينتهي. وإما أن ينتهي بمأساة أو بمهزلة، وذلك حسب حجم التوقعات والنفخ الإعلامي في الأسطورة.

منذ أن سيطر المشهد وأدوات إنتاج الصورة الإعلامية على قطاعات متسعة باستمرار من الحيز العام يعاد تشكيل الواقع السياسي على شاكلتها، ويجري نشر التوقعات من السياسي أن يسلك بموجب صورته التي يفترض أن يكونها...

وربما تشهد السياسة الأميركية أخيرا الانتقال من عنصر التمثيل بمعنييه في السياسة، ومن مشاركة الممثلين والنجوم مباشرة فيها كمرشحين ومسؤولين وغيره بحيث يسهل استثمار النجومية من مجال في مجال آخر من عوالم الحيز العام الأساسية في الاقتصاد والسياسة والمشهد الإعلامي، وأخيرا إلى إعادة تشكيل السياسة ذاتها سينمائيا، بمخرجين ومنتجين وعائلات مالكة... ولا تفسد العائلات المالكة المتداولة للسلطة أسطورة العصامية على صانعيها ومستهلكيها، فحتى أسطورة ساندريلا تتضمن ملكا.

وفيما عدا تسجيل أطول مدة لوجود عائلة في البيت الأبيض فسوف يكتمل بعودة عائلة كلينتون التسلسل التالي على الرئاسة الأميركية منذ العام 1989، أي طيلة أربع وعشرين عاما بما فيها مرحلة السيدة كلينتون العتيدة: بوش، كلينتون، كلينتون، بوش، بوش، كلينتون...

حسنا، دعونا من الأساطير، ولنعد إلى النظرية الديمقراطية. هل يشكل توالي البيوتات هذا على الحكم إشكالا؟ لو سلمنا أن تداول السلطة في الديمقراطية يتم داخل أولجركيات حاكمة بغض النظر عن العصامي الدوري المحتفى به، فالجواب هو: لا، لا توجد مشكلة. صحيح أن تداول السلطة سلميا هو مركب أساسي في النظام الديمقراطي، ولكن النظام الديمقراطي المستقر هو بنظر كهنته بالضبط ذلك النظام الذي لا يتوقف فيه الكثير على تداول السلطة. فهو غالبا ما يعني تداولها بين أشخاص من نفس الحزب أو بين ممثلي حزبين كبيرين دون تغيير السياسات، خاصة تلك السياسات المتعلقة بمبادئ الاقتصاد الوطني الأساسية، وسياسات البنك المركزي، وتحالفات الدولة الخارجية المركزية، وأمنها الوطني، والمبادئ الدستورية الأساسية. ويصعب فعلا رسم معالم تغير سياسي متوقع بناء على نجاح المرشح ديمقراطي أو الجمهوري في الولايات المتحدة. فالظرف الاقتصادي السياسي وتوقعات الناخبين بعد مرحلة رئاسة معينة تعني أن يتصرف الرئيس بشكل معين بغض النظر عن انتمائه الحزبي... ويبقى هامش ضيق للتميُّز.

وبغض النظر من سينقل عنوانه إلى البيت الأبيض بعد الانتخابات القادمة فإنه سوف يتصرف بخصوص قضايا الاقتصاد الوطني الجوهرية بشكل لا يختلف جذريا عن غيره لو وصل...

تحاول السيدة كلينتون أن تزاود بشأن تقييد التجارة الحرة على جري عادة المرشحين للرئاسة في الانتخابات، إذ يستثيرون نزعات وطنية ضد المنتجات الصينية حاليا، واليابانية في الماضي، كما تعمم خطة للتأمين الصحي تَعِدُ أنها تعديل لتلك التي عرفت باسمها كربة بيت أو كـ"سيدة أولى"، وفشلت في حينه فشلا ذريعا. وسوف يواجه أي رئيس منتخب من ضمن المرشحين نفس المعضلات في العراق وإيران وسوف يتعامل معها بنفس الطريقة مع هامش اختلاف غير واسع بين شخوص المرشحين.

أما قضية فلسطين فقد تُرِكت للإجماع الإسرائيلي يبت بالموقف الأميركي الرسمي فيها مقابل تولي الولايات المتحدة الملفات العربية الأخرى وانصياع إسرائيل للقرار الأميركي بشأنها. وليس من داعٍ أن يختص القارئ في شؤون علاقة الحزب الديمقراطي المتينة بحقوق الأقليات سابقا، وبتمويل الجاليات اليهودية المنظمة في أميركا لاحقا ليدرك لماذا تطرفت كلينتون صهيونيا حال اتخاذها قرار أنها سوف تترشح بعد زوجها... وعلى هذا المنوال.

يتوالى على سدة الحكم في الأنظمة الديمقراطية المستقرة حزب بعد الآخر، وتسلم مقاليد الرئاسة من شخص لآخر، في ظل استقرار المبادئ الأساسية التي يقوم عليها النظام. والصراع عليها بين حزبين رئيسيين يقودهما بالضرورة الانتخابية الإحصائية نحو التنافس على وسط ومركز الخارطة السياسية والاقتراب بالتالي من بعضهما في البرنامج والخطاب... ولذلك تفاجئُ كلينتون خلال الحملة مؤيديها اللبراليين بمواقفها المحافظة المفاجئة من رفضها استثناء الاستمرار بالخيار العسكري في العراق، ورفضها التعبير عن ندم على تصويتها إلى جانب شن الحرب على العراق في الكونجرس في حينه، (كما فعل غالبية أعضاء الكونجرس الذين ما كنا لنسمعهم يعترضون حاليا لو نجحت هذه الحرب)، ورفضها استبعاد الحرب على إيران، وحتى تملقها الخطاب الديني المحافظ بطرح حق الإجهاض كـ"خيار مأساوي" عند المرأة، وهو خطاب غريب على اللبراليين.

أما الدول التي لم تستقر على طريق اختارته بعد، فما زالت الانتخابات فيها تعني خيارا بين عالمين مختلفين. ونتائج الانتخاب فيها قد تقود إلى تغيير جذري في السياسة الخارجية والداخلية: إما... أو...كما في أوكرانيا أو لبنان مثلا. هذه دول لم ينضج ولم يستقر نظامها الديمقراطي بعد.

ليس تداول السلطة فيما يعتبر ديمقراطيات مستقرة عموما عملية اختيارٍ لخط ومنهج ومبدأ من بين سياسات متنافسة مختلفة جذريا. وحتى لو وجدت أحزاب إيديولوجية منظمة ذات وجهات نظر متباينة جوهريا فإنها ليست القوى المتنافسة على السلطة عادة، وقد تتنظم (كما فعل اليمين الديني الأميركي مؤخرا) وتدور في فلك الأحزاب المتنافسة فتشد بها من المركز نحو الهوامش السياسية الإيديولوجية.

ولا شك أن المنعطفات السياسة الكبرى واردة في عملية تداول السلطة بشكل سلمي. ولا يمكن فهم صعود لنكولن وروزفلت وتاتشر وريجان مثلا إلا كتغيرات جذرية في السياسات الداخلية أو الخارجية أسفرت عنها انتخابات. ولكن حتى في هذه الحالات بإمكان المتمسك بالنظرية أعلاه الادعاء أن التغيير كان انعكاسا ضروريا لتغير في الاقتصاد والسياسة والحقبة وطبيعة قوى الإنتاج، وليس تغيرا في الأشخاص والشخوص. فلم تكن مواجهة تاتشر مع نقابات العمال مجرد خيار شخصي، بل شكل انعكاسا لاتساع الطبقات الوسطى وتقلص عدد ونفوذ الطبقة العاملة وتغير الثقافة السياسية وتغير بنية الاقتصاد البريطاني والعالمي. لا بأس، المهم أن تغييرات جذرية قد تحصل كنتيجة للانتخابات. ولكنها من ناحية أخرى لا تفوق عدد التغيرات الجوهرية التي تحصل أيضا في الأنظمة الديكتاتورية على شكل إصلاحات سلمية أو انقلابات وثورات يتم فيها تداول السلطة بشكل غير سلمي.

ليس الفرق بين المواطن في النظام الديمقراطي وغير الديمقراطي أن الأول يختار سياسة بلاده في انتخابات أما الثاني فلا، بل في حقوق ونوع مواطنة كل منهما.

لا يكمن الفرق الجوهري الملموس بين النظام الديمقراطي وغير الديمقراطي في حدوث تغير جوهري وطرح خيارات مختلفة في الانتخابات أو عند تداول السلطة. ولكن الفروق في نوعية ونمط الحياة بينهما تكمن في مفاهيم سيادة القانون، وممارسة الحقوق السياسية والاجتماعية ومفهوم المواطنة والفصل بين الحيز الخاص والعام وأنظمة الرقابة والمحاسبة المانعة لعشوائية السلطة والاستبداد وغيرها. هذا فرق جوهري بين نظامين... وإن تفضيل فكرة تداول السلطة في بلادنا على الدعوة للمبادئ الحقوقية الديمقراطية يكاد يعني دائما صراعا على السلطة دون ديمقراطيين.

هذا الإقرار لا يعفينا من السؤال: وهل يمكن اشتراع هذه الحقوق المواطنية المدنية (الوصفان رديفان) والحفاظ عليها لولا هذه "اللعبة" الانتخابية، حتى لو جرت بين أحزاب وأشخاص لا يصنع الحسم الانتخابي بينهم فرقا فعليا في السياسة؟

حسنا، ربما تشكل الانتخابات مهما دارت بين فروق سياسية صغيرة وطموحات كبيرة ضمانا ضد نشوء الاستبداد يضمن هذه الحريات لأنها تجعل منظومة من قواعد الرقابة والتوازن بين سلطتين على الأقل أو ثلاثة، ولأن الانتخابات عملية تمكين للمواطن والمواطنين.

ولكن من ناحية أخرى، في حالة وجود فوارق صغيرة من هذا النوع، تدور الانتخابات حول القوة والنفوذ من أجل القوى السياسية ومقربيها وشركات صناعة الرأي العام التي تبيع للرأي العام رأيه بعد صناعته في الاستطلاع، وبعد تحديد الأسئلة التي ينبغي أن ينقسم الرأي العام عليها وليس على غيرها، وتفتعل فيها الدراما والخرافة والأسطورة والكذب، ويتم تحليل حتى ضحكة المرشحين، (فقهقهة السيدة كلينتون بمناسبة وبدون مناسبة هي بحسب "خبراء" هذه الحملة مجرد تعويض عن انعدام روح الفكاهة لديها). وتتحول الانتخابات إلى صناعة تضاف لصناعات قائمة، فلا يرجى منها توعية وتمكين بل تجهيل وتعجيز للمواطن المنكفئ عن السياسة وعن ممارسة حقه الانتخابي.

ولكنه إذ ينكفئ ربما يعتمد أن تحافظ الانتخابات على نفسها، وذلك ليس لأن نتائجها مهمة بذاتها، بل لأشياء أخرى، ربما غير مهمة للعراق وفلسطين، ولكن يهمه هو الحفاظ عليها مثل نمط حياته كمواطن له حقوق. يمكن أن نتابع هنا مرة أخرى بــ"ولكن من جهة أخرى!!"، ولكننا من جهة أخرى نكتفي بهذا القدر.

التعليقات