"موائد الرحمن" والتكافل الاجتماعي في رمضان

"موائد الرحمن" والتكافل الاجتماعي في رمضان

تعج شوارع القاهرة خلال شهر رمضان الفضيل بموائد الرحمن، والتي تُعتبر أحد أبرز مظاهر التكافل الاجتماعي التي يتميّز بها الشهر الكريم، فمن خلالها تُقدّم أطباق الإفطار التي تتنوّع ما بين مائدة وأخرى بحسب الأحياء التي تُقام فيها سواء راقية أو شعبية، والأشخاص الذين ينفقون عليها، لكن في مجملها تقدّم الإفطار الذي يكفي الصائمين من الفقراء والمحتاجين وعابري السبيل.

موائد الرحمن لا تُقدّم الطعام فقط، بل هذا الجو الرمضاني الذي يسوده الروحانيات والحميمية، والذي يشكّل مناخاً طيباً لاكتساب المودة والمحبة من أناس قد لا تعرفهم، لكنك تستأنس بهم، وتسعد بمجاورتهم على تلك الموائد خلال الشهر الفضيل.

وجاءت تسمية تلك الموائد بـ”الرحمن” من سورة المائدة، حيث أنزل الله على سيدنا عيسى بن مريم –عليه السلام- مائدة طعام من السماء لتكون آية للعالمين، كذلك فإن اسم “الرحمن” يحثّ على التراحم والمودة بين المسلمين، حيث إن المودة تُعتبر الهدف الرئيسي لتلك الموائد، وقد انتشرت موائد الرحمن بكثرة في مصر خلال السنوات الخمسة عشر الأخيرة، وصارت متنفّساً للفقراء يتناولون فيها الطعام، وساحة تنافس بين الأغنياء لتقديم ما لذّ وطاب في موائدهم، ومن أشهر موائد الرحمن التي تُقام في مصر: مائدة الأزهر، والتي يفطر عليها ما يقرب من أربعة آلاف صائم يومياً، ومائدة الحسين، ومائدة السيدة زينب، ومائدة ميدان رمسيس التي يقيمها مسجد الفتح، وتظل مفتوحة طوال العام.

وتقول الروايات: إن أول مَنْ أقام مائدة الرحمن في مصر هو الأمير أحمد بن طولون -مؤسس الدولة الطولونية- في السنة الرابعة لولايته، حيث جمع القادة والوزراء والتجار والأعيان على مائدة حافلة في أول أيام رمضان، وخطب فيهم: “إنني لم أجمعكم حول هذه الأسمطة إلا لأعلمكم طريق البر بالناس، وأنا أعلم أنكم لستم في حاجة إلى ما أعدّه لكم من طعام وشراب، ولكنني وجدتكم قد أغفلتم ما أحببت أن تفهموه من واجب البر عليكم في رمضان، ولذلك فإنني آمركم أن تفتحوا بيوتكم، وتمدّوا موائدكم، ليأكل الفقير المحروم”.

بينما تذهب روايات أخرى، إلى أن الخليفة المعز لدين الله الفاطمي كان أول مَنْ أقام مائدة في شهر رمضان يفطر عليها أهل جامع “عمرو بن العاص”، وهو مَنْ وضع تقليد الإكثار من المآدب الخيرية في عهد الدولة الفاطمية.

وكانت الموائد تُعدّ في عهد الفاطميين تحت اسم “دار الفطرة”، وتُقام بطول 175 متراً وأربعة أمتار، ومن أشهر أصحاب الموائد في تلك الفترة “الأمير بن الضرات” المولود بحي شبرا بالقاهرة، حيث كان ينفق على موائده ما يقرب من مليوني دينار سنوياً، والتي كانت بطول خمسمائة متر، ويجلس على رأسها، وأمامه ثلاثون ملعقة من البلور، يأكل بكل ملعقة مرة واحدة ثم يلقي بها ويستخدم غيرها.

وفي العصر الحديث ومنذ عام 1967، تولى بنك ناصر الاجتماعي الإشراف على موائد الرحمن بشكلها الحالي، والتي ينفق عليها من أموال الزكاة، هذا بجانب الموائد التي تقيمها الجمعيات الخيرية والإسلامية، ويشرف عليها رجال الدين.

وقد تطوّرت مائدة الرحمن في العصر الحديث لتتواكب مع متغيّرات العصر، وتحوّلت من مائدة يوضع عليها الطعام ويأتي إليها الصائمون لتناوله، إلى وجبات تُعدّ وتُرسل إلى الفقراء في البيوت، أو تُوزع على المستشفيات ودور الأيتام والمسنين، وأيضاً تُقدّم للمارة في الشوارع في وقت الإفطار.

وأفادت دراسة أجرتها جامعة الأزهر، أن موائد الرحمن في القاهرة وحدها تتكلف ما يزيد على مليار جنيه، وهذا ما يساوي ما تنفقه المحافظات الأخرى، مجتمعة على تلك الموائد في شهر رمضان.

وأشارت الدراسة إلى أن عدد المواطنين الذين يستفيدون من موائد الرحمن يبلغ ثلاثة ملايين شخص يومياً، مع العلم بأن الجهات أو الأشخاص الذين يقومون على تنظيم تلك الموائد يصل إلى عشرة آلاف جهة أو طرف.

ويجتذب شهر رمضان الفضيل بروحانياته وطقوسه الخاصة، ومنها موائد الرحمن السائحين الأجانب، فكان التجهيز لإعداد موائد الإفطار الرمضانية أكثر الأشياء التي تجذب أنظار الأجانب، حتى إن البعض منهم يقبل على الجلوس إلى موائد الرحمن، وتناول الطعام مع الصائمين، للاستمتاع بهذا الجو الذي يسوده التراحم والمودة والإخاء.

الحاج محمود رمضان، صاحب إحدى موائد الرحمن، يقول: إن موائد الرحمن عادة رمضانية تعوّد على إعدادها كل عام خلال شهر رمضان، ليأكل الفقراء وحارسي العقارات والعاملين والمارة، ويحرص على تقديم وجبات متنوّعة، ويقوم بالإشراف عليها بنفسه، ويتعاون معه أولاده وعائلته في إعدادها.

ويشير د. يسري عبد الحي، الأستاذ بجامعة الأزهر، إلى أن شهر رمضان هو شهر الرحمة والمودة والتعاون بين المسلمين، موضحاً أن إقامة موائد الرحمن هو باب من أبواب الخير الذي يسعى المسلمون من خلاله لكسب الأجر والثواب، حيث يوجه المال إلى إطعام الفقراء والمحتاجين والتسابق في عمل الخيرات، وهو سمة الصالحين، ومن أعلى درجات الجنة.

وأضاف عبد الحي: الإسلام يعظّم ثواب إفطار الصائم، فمَنْ أفطر صائماً كان له من الأجر مثل الصائم لا ينقص من أجره شيء، لافتاً إلى أن موائد الرحمن نوع من أنواع التضامن والتكافل بين المسلمين، كذلك شكل من أشكال التآخي الذي حثّ عليه وأمر به الإسلام.

اقرأ/ي أيضًا| البطيخ لصحة أفضل في رمضان

 

 

 

التعليقات