رمضان في العراق 2024

رمضان في العراق 2024

بتاريخٍ عريقٍ وحضارةٍ متجذرة يستقبل العراق شهر رمضان 2024، لتتراقص الذكريات في أروقة العقول، وتستحضر بهجة الطفولة ودفئ تجمع العائلة في منازل الأجداد.

في هذا الشهر يجتمع الماضي والحاضر في كل شارعٍ وزاوية، مع كل فانوس يُعلق وكل تهنئة تُنطق وكل دعوة تُطلق إلى السماء، فتتجلى عادات وتقاليد تعكس أصالة وتلاحم المجتمع العراقي.

السطور التالية تأخذنا في رحلةٍ ساحرة بين تقاليد الاحتفال وعادات الصيام وفنون الطهى الراسخة في التراث العراقي، فاستمتع معنا بالتعرف عليها!

أسواق مزدحمة بالباعة والمشترين

أسواق مزدحمة بالباعة والمشترين

قبل بدايته بأيام وربما أسابيع، تزدحم الأسواق وتنشط بالمتسوقين الذين يستعدون ببهجة وحماس لاستقبال الشهر الكريم، فيُعدون العدة لشراء المواد الغذائية ولوازم إعداد الأطباق الشهية، بينما تعلو أصوات بائعي الحلويات الرمضانية التي تعلو رائحتها فوق أصواتهم.

أما عن سوق "الشورجة"، فهو بمثابة ساحة احتفال خاصة، ومكانته محفوظة في قلوب المتحمسين لاستقبال رمضان، وفي قلب بغداد العاصمة، ولم لا؟ وهو رمز اقتصادها المتين، ومقصد المشترين من العراقيين الذين يعرفون حق المعرفة أنهم سيجدون في أسواقه الفرعية كل ما يحتاجونه من خضار وبهارات وحلويات بأسعارٍ تناسب الجميع!

"زينة ولمة العيلة".. عادات متوارثة تحييها العراق رمضان تلو الآخر

زينة رمضان في العراق

شوارع العاصمة والمدن العراقية المضاءة بالأنوار والمُزينة باللافتات والفوانيس، هي مرآة تعكس عادات متوارثة تحييها الأجيال رمضان تلو الآخر.

كذلك الأمر بالنسبة للتجمعات العائلية التي تبدأ مع أول أيام الصيام ولا تنتهي حتى آخر يوم في عيد الفطر. فـ منازل الأجداد تُدفئها الألفة والمحبة مع كل زيارة للأبناء والأحفاد، ولا تكتمل موائد الإفطار والسحور إلا باكتمال جميع أفراد العائلة حولها.

المائدة العراقية .. تنوع يُدرس في فنون الطهي

المائدة العراقية .. تنوع يُدرس في فنون الطهي

صوت انطلاق المدفع يليه أذان المغرب هو الأكثر إثارة للذكريات والمشاعر في نفوس الصائمين، حيث ينتظر الجميع لحظة الإفطار بفارغ الصبر بعد أن امتلأت المائدة بأصناف وأنواع من المأكولات العراقية التقليدية التي يأتي على رأسها حساء العدس والتشريب والشنينة وبالطبع المقلوبة والكبة الحلبية أو الموصلية، إضافة إلى البرياني والسراي، وغيرها الكثير من الأكلات الشرقية التي تدرس في فنون الطهي.

ولكن لا يصح أن تُذكر مائدة رمضان إلا بذكر الدولمة التي لا تنافسها أكلة أخرى في محافل الضيافة العراقية، وتختلف في تفاصيلها عن أي نوع آخر من المحاشي، ففي قدر واحد، تُجمع أنواع الخضار كورق العنب والكوسا والطماطم والبصل وقد تم حشوها بالأرز واللحم المفروم والبصل، ويوضع أسفله لحم ضلوع الغنم ثم يطيب بالمطيبات والبهارات.

أما القوزي، طبق اللحم مع الأرز، فهو من التراث العربي وتجتمع عليه العديد من البلدان ولكن لكل منها طريقتها في إعداده، ويتميز العراق بإعداده من لحم الخروف المشوي الذي يتم طهيه ببطء، ثم يُحشى بالأرز المتبل والمُطيب بورق الغار والقرفة، ويقدم مزينًا بالصنوبر والمكسرات.

بينما تتفرد محافظة الأنبار بطبقها الخاص الذي سُمي نسبة إلى قبائل دليم باسم "الدليمية"، حيث يوضع في قاع القدر خبز مغمور بمرق اللحم، ثم يُغطى بكمية وفيرة من أرز العنبر المخلوط بالمكسرات، وينتهي بقطع لحم الغنم الشهية.

وعندما نصل إلى الحلويات، نجد المائدة العراقية مزينة بالبقلاوة والزلابية، والكليتشة الشبيهة بمعمول التمر، ولكن الأبرز بينهم هي حلوى "منّ السما" التي قد لا تراها سوى في العراق، حيث يتم إعدادها من مادة المنّ الخام التي يتم جمعها من أشجار جبال بنجوين في السليمانية شمال العراق، ثم تُذاب في الماء المغلي ويُضاف إليها بعض المكسرات والفستق والهيل.

المسحرجي والقساخون .. فلكلور رمضاني بألوان عراقية

بمجرد إنتهاء تناول الطعام والصلاة، يحين وقت المرح والالتفاف حول الحكواتي (قساخون) في المقاهي الشعبية للاستماع إلى قصص السيرة والفروسية، ويتبادل الشباب والشيوخ أطراف الحديث والضحكات، وتختلط التهاني بالدعوات في مشهد مثالي للترابط الاجتماعي.

أما الفترة التالية من الليلة الرمضانية، فيُحيها "المسحرجي"، وهو شخصية فلكلورية فرضت نفسها في الثقافة الشرقية لتُصبح من العادات الرمضانية التراثية، فيخرج المسحرجي يوميًا حاملًا الطبلة والعصا ليتجول في أحياء المنطقة وشوارعها، مناديًا "سحور.. سحور.. سحور" ليُذكر السكان بتناول وجبة السحور قبل أن يُرفع أذان الفجر.

سهرات رمضانية برعاية "ماجينا" و"المحيبس"

أوقات المرح في ليالي رمضان لا تخلو من الحماس والإثارة مع الألعاب التراثية التي تتفرد بها العراق عن غيرها من الدول العربية والإسلامية، وهي "ماجينا" و"المحيبس".

تنتشر لعبة "المحيبس" بين الشباب وتعلو أصوات المشجعين كما لو أنهم في ماراثون رمضاني، حيث ينقسم اللاعبون إلى فريقين متساويين بغض النظر عن العدد الذي قد يصل إلى مائة شخص. يُخبئ اللاعبون أيديهم بينما يوضع المحيبس أو الخاتم في يد أحد المشاركين ويُطلب من الفريق الآخر أن يخمن من يحتفظ به.

تعتمد اللعبة بالدرجة الأولى على الفراسة، حيث يحاول اللاعبون تخمين من لا يملك الخاتم بالبداية، ليُستبعد أصحاب الأيادي الفارغة وتضيق دائرة الشك حول الشخص الذي يملك الخاتم. أما جزاء الفريق الخاسر، فهو شراء صينية من البقلاوة والزلابية يتقاسمها الجميع بعد انتهاء اللعبة.

ولكن أهالي مدينة كركوك يفضلون أن يلعبونها بطريقتهم الخاصة، حيث يطلقون عليها اسم "الصينية" وهي التي تحمل عدة فناجين نحاسية يتم وضع أسفل أحدهم نرد يبحث عنه اللاعبون الذين انقسموا إلى فريقين كل منهما مكون من ثلاث فقط.

أما في ليلة النصف من شعبان، يستمتع الأطفال بتقليدهم الخاص لـ "ماجينا"، الذي يعود أصله إلى قرن من الزمن، وهو يشبه في طقوسه القرقيعان في الدول الخليجية المجاورة.

يتجول الأطفال في الشوارع والأحياء، مُرددين أهازيج "ما جينا يا ما جينا.. حلي الكيس وانطينا.. تنطونا لو ننطيكم، بيت مكة يوديكم.. ربي العالي يخليكم، تعطونا كل ما جينا". فإذا فتح أصحاب المنازل أبوابهم لمنحهم الحلوى والمال يرددون "الله يخلي راعي البيت، آمين، بجاه الله وإسماعيل، آمين"، أما إذا حصلوا على الخدعة، وهو دلو من الماء يسكب عليهم من أعلى سطح المنزل، فإنهم يهربون متوجهين إلى المنزل التالي.

تضافر نسيج المجتمع العراقي

في شهر رمضان، تبرز العديد من المبادرات الاجتماعية في لوحة فنية من التكافل والعطاء بين أفراد المجتمع العراقي، حيث تبادل الهدايا والتبرع للمحتاجين ومساعدة الفئات الأقل حظًا، بل إن الأسر العراقية باختلافها يحرصون على إعداد وجبات الإفطار للصائمين وتوزيعها في الشوارع والميادين والمساجد.

بينما تتجلى مشاعر الألفة والإخاء بين الأقارب والجيران في الحي الواحد، من خلال الطقس الرمضاني المتوارث بإرسال ربة المنزل أطباق مما طهته من وجبات إلى جيرانها، فتتحول الموائد إلى "بوفيه مفتوح" تملأه أصناف وألوان من الطعام المُعد بحب، ويُفطر الجميع وكأنهم على طاولة واحدة.

رمضان في العراق .. تاريخ يروي قصص الأجداد

رمضان في بلاد الرافدين ليس مجرد شهر بل تاريخ يروي قصص الأجداد ويُحيي تراثهم. يتميز هذا الشهر المبارك في العراق بأجواء مميزة، حيث تتجسد التقاليد والعادات في كل زاوية، من الأسواق الممتلئة بالخيرات والموائد العامرة بالأكلات الشهية، إلى النداءات الصباحية للمسحرجي والمفاجآت الرمضانية بعد الإفطار. تعكس هذه العادات القديمة والتقاليد الجميلة الروح الرمضانية الخاصة في العراق لعام 2024، مما يجعلها فترة استثنائية تترك بصماتها في قلوب الناس وتجمعهم في روح التآخي والتضامن.

التعليقات