"تقلّصت الكيلومترات يا حلو"

.

قال يتسحاق رابين في حينه، إنه لا يوجد أي احتمال لأن نستفيق ذات صباح فنجد غزة غارقة في البحر.

وإذ أقرّت الحكومة عملية "الرصاص الصلب" في غزة فإنها لم تحدّد أيضا ما هي أهدافها بالتفصيل. أن تطيح بنظام حماس في غزة؟ هذا ليس هدفا واقعيا. إعادة احتلال مناطق في القطاع؟ ليس هدفا واقعيا أيضا. ألهدف، كما أفهمه، هو خلق ظروف من شأنها أن تؤكّد لحماس بأن الأفضل لها أن لا تطلق النار على إسرائيل.

لقد اعتبرت إطلاق القسامات الأول على إسرائيل كأمر مستهجن وغريب. وكانت القسامات بدائية انفجرت في الغالب في مناطق مفتوحة. وكان خطأنا حينها أننا لم ندرك أن هذا الصغير سيكبر. فقط هذه الأيام اكتشفنا أنهم أنشأوا في ظل ضبط النفس واللامبالاة اللذين أبديناهما إمبراطورية من عشرات آلاف الصواريخ تحت الأرض ومن جميع الأصناف. ولو أن جهاز الأمن لم ينطلق الآن في عملية شاملة، لكنا استفقنا في يوم ما على صفارات إنذار في تل أبيب.

بدء العملية، ألتي هي ثمرة ذهن براك الخلاق، كانت باهرة، فقد فاجأت زعامة حماس الذين لم يتهيّأوا لها. بعكس الطيبين في صفوفنا، الذين يرون إلى القصف على أنه إبادة شعب – فإن الخمسمائة طلعة التي نفّذتها الطائرات الحربية حتى لحظة كتابة هذه السطور تركّزت على أهداف عسكرية فقط. من ضرب الأنفاق ومخازن الصواريخ وحتى مراكز القيادة ورموز الحكم. لم تنفّذ "مذبحة" ضد المواطنين – بعكس ما قامت به حماس على مدى سنين، حيث أطلقت صواريخها على المدنيين، من أطفال ونساء. لا جرم أكبر من هذا، إذ يوجد في صفوفنا أشخاص يصنّفون أفراد جيش الدفاع على أنهم قتلة. فماذا يفكّر الطيار الشاب المنطلق في مهمة أمنية، عندما يقرأ أنهم يكتبون بأنه مجرم حرب؟

ربما يكون تركيز القوات على مشارف غزة خدعة هدفها تخويف حماس، حتى تظن أن في نية إسرائيل أن تدخل إلى غزة وتقطيعها إلى أجزاء، أو قد يكون الهدف أن يؤدّي الأمر إلى تدخل دولي لتحديد الشروط النهائية للهجوم. إن براك، بعقله المرن الحاذق، محقّ في عكسه أن هنالك نيّة لإدخال الجيش إلى غزة، ليس كخدعة لإنهاء الهجوم فقط، بل حتى يدرك الجنود أنه بذلت كل الجهود للحيلولة دون اضطرارهم لذلك. لا توجد لدى إسرائيل، في الجوهر، أية نيّة للسيطرة على أية مساحة في القطاع. غني عن القول إن حماس مهيأة لهذا أكثر مما كانت متهيئة للهجوم الجوي.

مع كل حربائية براك، إلا أنه على صواب في استعداده لدراسة إمكانية تسوية برعاية دولية، قبل أن يضرب الضربة البرية. ألضرر الذي قد يسبّبه تأخير وتيرة الهجوم هو هامشي. ومن الأفضل اقتناص جميع الأوراق مجددا مع تحقيق وقف للنار تحت غطاء دولي، من أن ندخل بقوات برية.

أنظروا ماذا حصل في الشمال أثناء قصفنا لغزة. فقد ألقى حسن نصر الله خطابا عنيفا، لكنه لم ينطلق حتى الراهن لمساعدة اشقائه في غزة بإطلاق الصواريخ إلى العمق الإسرائيلي. حيث أن العبر من تدمير جنوب بيروت بواسطة سلاح الجو قد استوعبت جيدا. لن يطلق حزب الله صواريخه إلى عمقنا هكذا بشكل طائش.

هذا الوضع من الردع يجب أن يسود في غزة أيضا، وإذا كان هذا التوجه مقبولا على الرباعية وعلى الأمريكيين، فلسنا نحن من يرفضه. وحتى معرفة موقف حماس، سيستمر سلاح الجو في عمله بكل قوته.

مهما كان شكل النهاية لعملية "الرصاص الصلب"، فإن العبرة لدى الطرفين من هذه العملية أن موضوع مناطق النفوذ قد أضحى أقل أهمية كشرط أساس للتسوية. فاليوم، إذ يمكن للصواريخ ان تصل إلى الأهداف ذاتها من الشمال ومن الجنوب، وعن بعد عشرات الكيلومترات، فإن الخطر في التنازل عن تلة هنا وأخرى هناك بسبب قربها إلى المطار، على سبيل المثال، لم يعد كبيرا.

فقد موضوع الحدود ومناطق النفوذ أهميته، وموضوع السيطرة على مناطق – وتأثيرها على التسوية السياسية – أصبح شأنا من الماضي. كيلومتر هنا وكيلومتر هناك – أصبح تابعا للقرن الماضي فجأة في عصر الصواريخ. وعلى وزن الفيلم الأمريكي الرائج "ألأولاد تقلّصوا يا حلو"، ممكن القول : "الكيلومترات تقلّصت، يا حلو".

التعليقات