"لا رياضيات في قتل البشر"..

-

أحد تجديدات السنوات الأخيرة، من مدرسة أولئك الذين أطلقوا على أنفسهم في الماضي ليبراليين بل حتى يساريين، هو اعتبار أن قتل مواطنين ليس لهم علاقة بالقتال أثناء الحرب هو ضروري أحيانا، لأنه سيطرح ثمارا إيجابية في المدى البعيد.

وقد برزت هذه الفكرة في أقوال بروفيسور روت غابيزون في لجنة فينوغراد، أثناء تداول مع المستشار القضائي للحكومة والمدعي العام العسكري فيما يتعلق بحرب لبنان 2006: "ألحرب هي محاولة لحل النزاع بالقوة، وأحيانا يكون في مصلحة جميع الأطراف التوصل إلى وضع بأن النزاع لا يستمر عشرات السنين بل يتم حسمه... إذ عندما لا يحدث حسم، فربما يقتل ناس أقل في المدى القريب، لكن لا يمكن التوصل في نهاية الأمر إلى وضع يكون فيه ممكنا ضمان عدة سنوات أخرى من الهدوء". وفي مكان آخر: "هنا يمكن تبرير عمل ما يمس أكثر بالمواطنين، ليس في المستوى البسيط، إنما في المستوى الأعمق لمهمة القضاء الدولي".

ولقد جاء في الرسالة العلنية للأديب أ. ب. يهوشواع إلى الصحفي غدعون ليفي، في الحرب الأخيرة، قوله:" لو أنك اهتممت بالأطفال فعلا، أطفالنا وأطفالهم، لكنت أدركت أن العملية العسكرية الحالية، لم تهدف إلى اجتثاث حماس من غزة، إنما لجعلها تدرك، بالأسلوب الوحيد الذي تفهمه للأسف، والذي يؤثر الآن بها، بأن عليها التوقف تماما عن إطلاق النار ومراكمة الصواريخ، بالاساس كي لا يموت الأطفال الفلسطينيون في مغامرة أخرى لا جدوى منها".

المبدأ متشابه في الحالتين: إن ثمن قتل المواطنين، ولو أنهم أطفال، جدير أن نقيسه إزاء الفائدة التي يحققها هذا القتل، وإذا كانت الفائدة كثيرة ("سنوات من هدوء" أو "لا يموت الأطفال الفلسطينيون") فإن المس بالمواطنين هو أمر مبرّر. أي أن النظرية، التي سنطلق عليها نظرية غابيزون – يهوشواع، تطرح معادلة بسيطة: ألثمن (قتل المواطنين) مقابل الفائدة (هدوء مستقبلي).

سيتوقف بعض القراء عند هذا الحدّ ليقول إن معادلة كهذه ليست أخلاقية في أساسها ولذا فهي لا تستحق البحث. لكن وبما أن الحديث يدور عن محاولة لتعبيد طريق جديد في مجال أخلاق الحرب (تتوسع غابيزون في كلامها عن الحاجة في التغيير) وبما أن المعايير الأخلاقية للمجتمع الإسرائيلي قد تغيرت بشكل دراماتيكي في الشهور الأخيرة، فهناك ضرورة للتمعن في هذه المعادلة ولإدراك معانيها. ليس هنالك شك تقريبا في أن نظرية مشابهة قد شكلت طرحا قضائيا لتبرير عمليات جيش الدفاع الإسرائيلي في عملية "الرصاص المصبوب".

عالمية نظرية غابيزون – يهوشواع، وحيث أن القانون الدولي، وكذلك المبدأ الأخلاقي، يستحقان أن يكونا دوليين، فإن منظمات إرهابية كثيرة في أرجاء العالم ستتبنى بكل سرور النظرية. فكثيرة هي المنظمات التي حفرت على راياتها حلا مستقبليا يجلب الهدوء بشكل أو بآخر إلى مناطقها، حيث أنها (هذه المنظمات الإرهابية) تنظر هي الأخرى إلى قتل المواطنين في المدى القريب ليس هدفا بحد ذاته إنما وسيلة لتحقيق هدف مهم وعادل أكثر. فهي أيضا تؤيد مبدأ أن "الفائدة" من قتل المواطنين هي أقل إزاء الفائدة المستقبلية.

وماذا لو كانت الفائدة قليلة؟ تشترط نظرية غابيزون – يهوشواع تبرير قتل المواطنين بالفائدة العسكرية. وعليه لا يمكن معرفة إذا ما كان قتل المواطنين، مهما بلغ حجمه، مبررا دون انتظار نهاية العملية (العسكرية) وما جنته من ثمار. مثلا، ربما اعتبر قتل نحو ألف من المواطنين في عملية الرصاص المصبوب على أنه يبرر ذاته على مدى أسبوع من انتهاء العملية (فلم يتم إطلاق صواريخ)، لكن ما العمل عند تجدّد إطلاق الصواريخ؟

بحسب غابيزون – يهوشواع، ربما تجدر محاولة رفع جناح المس بالمواطنين في المعادلة قليلا ( مائة أخرى، مائتان، ثلاثمائة طفل؟) بأمل أن هذا سيرفع أيضا جناح الفائدة في المعادلة، وهكذا يأتي تبرير القتل الأولي أيضا.

"لنفحص قتل مواطنين في سياق أوسع". إحدى العبر التي استخلصها المجتمع الدولي بعد الحرب العالمية الثانية قالت بوجوب فصل موضوع المس بالمواطنين الذين لا شأن لهم عن سياق الحرب. أي أنه من خلال إدراك أن من غير الممكن منع الحروب بواسطة قوانين دولية، فقد تمت صياغة قوانين فصلت ما بين أهداف الحرب وبين وسائلها بحيث حظرت المس المقصود أو غير المحدود بالمواطنين، في أية حرب.

تبغي نظرية غابيزون – يهوشواع إعادة العجلة إلى الوراء وفحص قتل الموطنين في سياق أوسع لإنجازات الحرب. وقد قلنا أعلاه إن مخربين انتحاريين ومطلقي الصواريخ على أنواعهم سيتماهون بكل السرور مع هذه النظرية.

في نهاية الأمر، فإنه جدير أيضا بأولئك الذين لا تصدمهم النظرية التي تعتبر قتل المواطنين أداة شرعية لتحقيق السياسة، أن يفكروا بالإستنتاجات النابعة من المبدأ أعلاه وأن يتوقفوا – قبل أن يخطوا إلى قلب هذه الهاوية الأخلاقية.

التعليقات