عن "ذي جارديان": ما الهدف من جمع المعلومات المخابراتيّة إذا قام قياديونا بتجاهلها عمدًا؟/جوناثان فريدلاند

عن
وقد تمّ عرض هذه الأدلّة مجدّدًا يوم أمس. فمذكّرة كامبل التي تحتوي على 15 نقطة والموجّهة إلى سكارليت، والتي أرفقت بلائحة ملاحظات من بلير نفسه، والتي احتوت أيضًا على اقتراحات لتعديلات على الملف الأصلي من أيلول 2002، هي إثبات بأنّ المستشارين السياسيين في داونينغ ستريت اتّكلوا على الجواسيس لكي يعزّزوا تقرير اللجنة المخابراتيّة المشتركة. فنرى أنّ كامبل شدّد مرارًا على استبدال الإفادات الضّعيفة بأخرى أقوى منها، كتحويل التعابير مثل "قد" و"من المحتمل أن" إلى تعابير مثل "إنّ" و"سيقوم بـ". وحتّى عندما دعا إلى تخفيف اللغة في بعض الأجزاء، كان هذا لأغراض أسلوبيّة لا غير، لأنّه عرف أنّ لتقرير مخابراتي رزين قوة أكثر من خطاب بلاغي مزيّن. فماذا يدعى هذا إن لم يكن ضغطًا سياسيًا لتعزيز الملف؟

ولكن ال_____ قبل حجّة سكارليت بأنّ هذه كانت مجرّد شؤون "استعراضيّة" والتي كان من اللائق جدًّا أن يعلّق عليها خبير بالإتّصالات ككامبيل. ولكن حين يتعلّق الأمر بالمخابرات يكون هذا التّفريق ما بين اللغة والفحوى زائفًا. فمثلما أخبر بريان جونز، الرّئيس المتقاعد لفرع طاقم تحليل إستخبارات الدّفاع، لجنة التّحقيق، فإنّ التغييرات التي أراد كامبل إجرائها "كانت تغييرات باللغة، ولكن بما أنّ اللغة هي الوسيلة التي فيها ننقل تقييمًا إلى طرف آخر، فكان التغيير أيضًا بهذا المعنى في التّقييم نفسه". بعبارة أخرى، لا يحتوي الملف على شيءٍ عدا الكلمات: فإذا ما تمّ تغيير الكلمات، يتغيّر أيضًا التّقدير نفسه. وهذا بالضبط ما قام كامبل بفعله.

وهناك أيضًا نقطة أكثر رئيسة. فحتّى قضيّة كيلي، اعتقد غالبيّة الناس أنّ قرارات الحكومة الأمنيّة مؤسّسة على الإستخبارات. ولكن أظهر تحقيق هوتون أنّه، بما يخصّ قضيّة العراق، كان الأمر تمامًا على العكس من هذا.
في البدء، كان القرار بشن الحرب على العراق، وتلت هذا القرار عمليّة البحث عن الأدلّة. فليس هناك أي سبب آخر يأمر من أجله رؤساء سكارليت إيّاه أن يوقف كل التّحقيقات حول كوريا الشّماليّة وإيران وأن يركّز تحقيقاته على بغداد فقط. فإذا كانوا حقًا مهتمّين بمعرفة ما هو الخطر الأعظم للأمن، لكانوا انتظروا نتائج التّحقيقات لمعرفة أي دولة تشكّل تهديدًا أكبر. ولكن الحكومة كانت قد بتّت في الموضوع مسبقًا.

إنّ أسلوب العمل هذا لم يكن حكرًا على بريطانيا فحسب، بل قام شركاؤنا بالائتلاف بنفس الخدعة. ففي الولايات المتّحدة أيضًا كانت طريقة العمل مبنيّة على أساس: الإستنتاج أوّلاً، وبعدها البحث عن الأدلّة. وأخبر مرّشح الحزب الدّيمقراطي للرّئاسة والجّنرال السّابق، ويسلي كلارك، أنّ "أشخاصًا من كل أنحاء البيت الأبيض" اتّصلوا به في 11 أيلول يحثّونه عليه بأن يتّهم صدّام حسين بالهجومات في ذلك اليوم. فالمهم هو الهدف النّهائي، دون أي اعتبار للنّقص بالأدلّة.

إذا كانت لندن وواشنطن حقًّا معنيّتان بما تقوله مخابراتهما، لكانوا توصّلوا على الأرجح إلى نتائج مختلفة جدًّا. ففي تشرين الأول 2002، توصّلت السي.آي.إي إلى أن صدّام حسين لا يشكّل إلاّ تهديدًا بسيطًا – وأنّه، على الأرجح، سيقوم بضرب الولايات المتّحدة فقط في حالة الهجوم عليه. في حين حذّر مديرو المخابرات البريطانيّة في شهر شباط هذه السّنة أنّ تنظيم "القاعدة" ما زال يشكّل التّهديد الأكبر للمصالح الغربيّة "وأن هذا التّهديد سيصبح أضخم في حالة حدوث عمليّة عسكريّة ضد العراق". ولكن لم تتناسق أي من هذه التّقديرات مع السّياسة التي كانت الحكومتان قد قرّرتا اتّباعها، ولذا تم تجاهلها.

طريقة الحكومات هذه باتّخاذ القرارات في الشّؤون الأمنيّة هي طريقة فاسدة وخاطئة. وقد يضعها هوتون على هذا النّحو : ما الهدف من وراء وكالات المخابرات المكلفة والمتطوّرة إذا ما قامت الحكومة بتجاهل توصياتها كلّيًا؟ ما هدف وجودها، إذا تمّ استعمالها فقط كجهاز للعلاقات العامّة، ولكي تضفي رونقًا وجدّيّة "الإستخبارات" على القرارات السّياسيّة البحتة؟

لقد اكتشفنا هذا الأسبوع أنّ كولين باول وحتّى كونداليسا رايس كانا يصرّحان بسعادة في ربيع 2001 أنّ العراق لا تشكّل أي خطر كان ولا تملك أي أسلحة دمار شامل. ولكن بعد 11 أيلول، سيطر الصّقور على الوضع واتّخِذ القرار. وكانت إحدى الخطوات في هذا المسار هي فساد أجهزة المخابرات. فإذا ما يريد هوتون أن يسدّد استنتاجًا لاذعًا، فلتكن الضّربة هي ذلك الاستنتاج.
أومأ الجميع، تعبيرًا عن موافقتهم، في إحدى اللحظات، وخلال تحقيق لجنة "هوتون" يوم أمس، أنّ الجمهور بات متعبًا من القصّة التي تعيد على نفسها في كل مرة من جديد، كما قال المتحدّث باسم رئيس الوزراء، غودريك سميث، من على منصّة الشّهود. فكان قد رجع بذاكرته إلى بداية الصّيف عندما كانت قضيّة مقتل كيلي قد "جرجرت" لفترة من الزمن: كان الجميع قلقون وأرادوا تخطّي هذا الوضع.

وقد أدّى هذا الكلام إلى الكثير من دمدمات وهمسات "فعلاً فعلاً"، على الأقل في المساحة المحدّدة للإعلام. فيستطيع الصحفيون الذين كانوا جلسوا على المقاعد المطويّة، وحدّقوا يومًا بعد يوم منذ منتصف شهر آب بالشاشات التي تنقل الأحداث المباشرة من غرفة المحكمة رقم 73، لمح نهاية هذه القضيّة المنهكة. لا مزيد من تشزير النّظر في الوثائق، ولا مزيد من فك رموز الموظّفين المدنيين. هذا وسيلخّص اللورد هوتون مجرى التّحقيق غدًا وسيعتزل ليكتب تقريره الذي سيصدر في تشرين الثاني.

وبلا شك، سيتعدّى التّقرير النّهائي في حجمه عدّة مجلدات، وسيكون من أحد الكتابات الذي يستطيع روبين كوك أن يقرأها في خلال ساعة ونصف، ولكنها ستكون أيضًا من أحد الأمور التي يعجز الإنسان العادي عن حملها. فسيتوجّه هذا الإنسان إلى الأوراق الأيسر للقراءة، ألا وهي الملخّص التّنفيذي. وعن ماذا سنقرأ هناك؟ سنقرأ على الأرجح توبيخًا ملطّفًا لكل من الBBC والحكومة لأنّهم سمحوا لمعركتهم الجبارة بالتمحور حول إنسان واحد والذي لم يستطع تحمّل العبئ الشديد.

وقد يوبّخ هوتون كذلك الحكومة بسبب تسريب أسم دافيد كيلي، وقد تدين لجنة هوتون الBBC بسبب ممارساتها الداخلية الموحلة. وسيتقدّم الطّرفان، عاضّان شفاههما، ومصرّان على أنّهما قد تعلّما درسهما: سيعدان بتصحيح شامل للطريقة التي يديران بها أعمالهما كما وسيتعهّدان بالاستماع إلى نقّادهم. كما وسيقدّما كبشي المحرقة: على الأغلب سيكونان جيف هون من الطّرف الأوّل وأندرو جيليغان من الطّرف الثاني.

ولكن ماذا قد يقول تقرير أكثر مباشرة وأكثر تحيّزًا؟ قد يبدأ مثل هذا التّقرير بتذمّر حول حدوده. فقد اقتصر تحقيق اللجنة على "الظروف المحيطة بموت الدكتور كيلي"، مّما جعلها مجبرة، بحسب المنطق، بتحقيق الطّريقة التي دُفع بها خبير الأسلحة من الظّلال ومباشرة تحت أعين الجماهير. فكان على هوتون وملازميه بموجب القانون أن يمضوا ساعات طويلة وعديدة على تفكيك "استراتيجيّة تسريب الأسماء"، لأنّه يبدو أنّ أكثر ما وضع الدكتور كيلي تحت الضّغط النّفسي هو عرضه والكشف عنه أمام الجمهور.

كل هذا أدّى، بطبيعة الحال، إلى انحراف الاهتمام والطّاقة عن الأمر المهم فعلاً، أقلّه بالنسبة لهؤلاء الذين ليسوا أقارب لكيلي: الاتّهام الأصلي بالمناورة السياسية لأجهزة المخابرات . يتوقّع غالبية الناس أن هوتون سيخلي سبيل الحكومة من أغلب المسؤوليّة في هذا الأمر. إنّ القول الشائع هو أنه لا توجد أيّة أدلّة، بين آلاف الوثائق، تبرّئ جيليغان من تقريره الأوّل في برنامج "تو- داي". ولكن تكمن المشكلة هنا، وجيليغان هو المسؤول، جزئيًّا، عن حدوثها، في أنّه تمّ نصب معايير عالية: فمع أنّه لم تكن هناك أي رسالة إلكترونيّة أمر فيها ألاستير كامبيل جون سكارليت بوضوح أن "تخترع" اللجنة المخابراتيّة المشتركة إدّعاءات حول قدرة العراق بارسال صواريخها خلال 45 دقيقة. ولكن هذا لا يعني أنّ جيليغان كان يتوهّم الأمور، بل على العكس من هذا. وجدت لجنة هوتون العديد من الأدلّة، مع أن بعض تفاصيلها لم تكن لها بالضرورة صلة مباشرة بالموضوع ، تشير إلى أنّ مراسل برنامج "تو- داي" توصّل إلى أمر مهم جدًّا: أنّه، وتحت إدارة هذه الحكومة، وصل الحد في تسييس المخابرات إلى درجة جديدة.

التعليقات