"ذي غارديان": حكام مصر الجدد يكتشفون ان المصريين ما عادوا مستعدين لقبول القوانين القديمة

محمد مرسي، على خلاف سابقيه، انتخب ديمقراطيا عبر صناديق الاقتراع، لكن مثل من سبقوه فإن نظرته للحكومة ضيقة ومحافظة وغير ديمقراطية. وعلى الرغم من خطاباته عن شهداء الثورة، فإن الأجهزة الأمنية التي قتلتهم تبقى كما هي تقريبا تحت حكم الاخوان.

نشرت صحيفة "ذي غارديان" البريطانية اليوم الجمعة تحقيقاً من مراسلها جاك شنكر يقول فيه انه شاهد عند القصر الجمهوري معارضةً متجددة النشاط وهي تقاوم محاولات لفرض تسلط النخبة المنتمية الى الماضي.

"نشأت مريم في مصر الجديدة قرب القصر الرئاسي المصري، وهي تذكر كيف كان الشارع الذي يمر بالبوابة الرئيسية للقصر مليئا بالحواجز الامنية. وكطالبة في الأيام الأخيرة من عهد مبارك لم تستطع أن تمر عبره إلا بإظهار بطاقتها الشخصية وتفحصها من قبل رجال الامن المسلحين.

وتتباهى كل مؤسسة حكومية في العالم بالدرجات العالية من الأمن، لكن هنا كان الإحساس بكونك مقتحما غير مرحب به في منطقة السلطة يضرب وتراً أكثر عمقاً.

لقد تم إخبارغالبية المصريين خلال التاريخ أن هناك مجموعات من المدعين في غرف مغلقة يتخذون القرارات بشأن حياتهم، ومجتمعهم وبيئتهم، إنها أمة اعتبرت فيها النخبة السكان قطعا جمادية، لا حول لها وبحاجة لأن يتم التحكم بها وتهدئتها من خلال شبكة من الإحسان الطبقي والقمع الوحشي.

وبقي المفهوم الاستبدادي للدولة متجذرا بغض النظر عن الإيديولوجيات والدوافع المختلفة لدى أولئك الذين حكموا، من مسؤولين استعماريين إلى ديكتاتورية ما بعد 1952 العسكرية، ومن السارقين في عهد مبارك إلى المجلس العسكري الذي أدار ما سمي المرحلة "الانتقالية" إلى الديمقراطية.

ويستمر ذلك حتى اليوم، تحت حكم الإخوان المسلمين الذين يرون أن مشاكل مصر أخلاقية وليست بنيوية، ونظرتهم إلى السلطة إقصائية وليست تعددية.

كل تلك الأنظمة وضعت غطاء الشرعية الثورية وحاولت السيطرة على حكاية التغيير التقدمي. وكلها استخدمت الرموز الأساسية – وطنيا ودينيا – لتحويل المصري ضد المصري في محاولة لتقوية سلطتها والحفاظ على الوضع القائم، وكلها لجأت إلى العنف الخام حين واجهتها المقاومة.

إنها هذه الدولة الاستبدادية التي انطلقت ضدها الثورة في مصر منذ كانون الثاني (يناير) 2011. يتحسر بعض المعلقين أصحاب النية الحسنة على المدينة الفاضلة في الأيام الثمانية عشرة في ميدان التحرير، وعلى الوحدة بين الكثير من المصريين في رفض مبارك والتي تفرقت إلى صراع ضروس.

لكنهم ينسون انها لم تكن، ولن تكون ثورة سلمية: أكثر من 100 مركز للشرطة أحرقت في الثامن والعشرين من كانون الثاني 2011 حين لاقى الثوار عنف الدولة بمقاومة من جانبهم وسعوا لإبعاد الأجهزة الأمنية للنظام عن الشوارع. وعلى الرغم من أن "الإسلاميين ضد العلمانيين" هو خط ذو صلة ما، إلا أنه ليس العدسة الأولية التي نفهم من خلالها الاحداث الاخيرة.

ولم يكن هناك ابداً صراع ذهبي انتهى بالمجد حين خرج مبارك من السلطة، لتترك الحرب المدنية آثارها في صفحات "مصر الجديدة". هناك صراع واحد مستمر، ضد دولة تحاول حرمان المصريين من أي تمكين حقيقي وصوت لمستقبلهم، وآخر تجليات ذلك يحدث في شوارع مصر الجديدة هذا الاسبوع.

محمد مرسي، على خلاف سابقيه، انتخب ديمقراطيا عبر صناديق الاقتراع، لكن مثل من سبقوه فإن نظرته للحكومة ضيقة ومحافظة وغير ديمقراطية. وعلى الرغم من خطاباته عن شهداء الثورة، فإن الأجهزة الأمنية التي قتلتهم تبقى كما هي تقريبا تحت حكم الاخوان.

في الايام المائة الاولى من رئاسة مرسي، سجلت هيئات حقوق الانسان 88 حالة من حالات التعذيب في الشرطة، ادت الى 34 حالة وفاة. ويُنظر الى المعارضة، سواء منها المسؤولون او من يتجمهرون في الطرقات، على انها عدو متآمر يجب ازالته وليس عنصرا مشروعا في الحياة السياسية.

والدليل على ذلك ما جاء في مسودة الدستور، ليس من حيث المضمون (وان كان هذا يثير القلق بحد ذاته) وانما من حيث المسيرة. فهو بعد ان صاغه اسلاميون من كبار السن على وجه التحديد تقريبا، اصبح ضحية تذبح عن طريق ابعاد الاصوات المعارضة، ثم ان المرسوم الدستوري الاحادي الذي اصدره مرسي سدد البندقية مجازا نحو رؤوس الناخبين: اما ان تصوتوا بـ نعم لدستوري، او تقروا بدكتاتوريتي التي تتخطى حدود القضاء.

غير ان الديمقراطية أهم من مجرد ورقة استفتاء كل اربع سنوات، والثورة المصرية قامت لاكثر من مجرد ديمقراطية مؤسساتية صورية. واذا غُض النظر عن (ميدان) التحرير، فان الجم اهير من قرى دلتا النيل الى اراضي القبائل البدوية والاحياء الفقيرة الحضرية، يطيحون بالملامح الخانقة المهترئة التي ترسم حدودا لمن لهم الحق في ابداء الرأي، ومن لهم ان يختاروا بحرية في ما يتعلق بالعالم من حولهم.

ان خيار النخبة القديمة في اتخاذ القرارات في القمة وعدم السماح بالوصول الى ثروات الدولة الا عن طريق شبكة مهيمنة واسعة، الطرف لاخر منها هو الكبت العنيف، لم يعد ممكنا. والمشكلة الوحيدة تكمن في انه يبدو ان اولئك الذين اعتنقوا رؤيا عفا عليها الزمن للدولة الاستبدادية، بما فيها الاخوان، لم تلحظ ذلك بعد.

وقد قارن احد معارفي من المصريين بين صعود الاخوان الى قمة السيطرة السياسية وبين بذل رجل مجهودا كبيرا نزف فيه الدماء واصيب بالرضوض للوصول الى جسر ممر البحارة وقبض بيديه على دفة السفينة "تايتانيك"، في اللحظة ذاتها التي بدأ فيها جسم السفينة باكمله في الغرق.

اذ لم تعد السفينة تصلح للابحار في بحار سريعة التقلب، وان رفض الاخوان الاعتراف بان آلآليات السياسية القديمة تكسرت هو الذي اوصلنا الى ما نحن فيه اليوم.

فهذه النخبة السياسية ينقصها القدرة والارادة لمتابعة العدالة الثورية بامانة، وافساح المجال امام آليات السلطة في البلاد، سواء ما كان منها في الداخل أوالخارج، امام الجماهير. وهذا يعني بالنسبة الى كثيرين، ومن بينهم الملايين الذين ادلوا باصواتهم لصالح تولي مرسي الرئاسة، لكنهم لا يوافقون على السلطة الاستبدادية المتصلبة والمعتقد الليبرالي الجديد الحالي للقيادة، اذ ان امالهم لم تتحقق وبقيت النوازع الثورية باقية.

وفي العادة فان اي انتفاضة اجتماعية تشتمل على "لا" واحدة والكثير من نعم، وهذه الكثرة من "نعم" هي سبب جزئي في منع معارضة متماسكة مؤيدة للثورة ومناوئة لمرسي من ارساء وجود لنفسها على المسرح الوطني.

وتساور الكثير من الثوريين على الارض شكوك محقة في ما يتعلق بكبار رجال المعارضة، وبعضهم تلطخت سمعته بالتعاون مع سياسات فترة مبارك، ويقولون ان هؤلاء الاشخاص من العهد الماضي لا يمكنهم الا ان يتسابقوا للحصول على مناصب داخل النظام القائم حاليا، بدلا من المشاركة في اعادة تخيل جديدة لمصر التي يسعى البعض جاهدين الى رؤيتها.

ورغم محدوديتها فان قيام شيء هذا الشهر يماثل منصة موحدة لمعارضة رسمية، يقودها محمد البرادعي، لم تظهر اوضاعها الا بسبب الجرأة التي اتسم بها اولئك الذين يقاتلون من اجل البقاء في الطرقات، يمثل خطوة مهمة الى الامام.

وسيكون من الصعب على نظام مرسي ان يجد من يصدق وصف الاحتجاجات بانها غوغائية ومن اعمال الخيانة، خصوصا مع تشابك ذلك مع ادلة متنامية بالتذمر في صفوف المسؤولين (استقالة مستشاري الرئاسة، ورفض السفراء في الخارج الاشراف على عملية التصويت في سفاراتهم على الاستفتاء الدستوري).

ان تجمع التظاهرات الشعبية وقيام حالات الاضطراب، التي تعاضد بعضها بعضا وتكسب الزخم يوما بعد اخر، تمثل عملية تغيير قوية، وتذكر كيف كانت الاشياء خلال الايام الـ 18 المفزعة. ويبدو ان خيار مرسي في الا يحرك ساكنا وان يجاهد الى ان تمر العاصفة، يصعب كثيرا القبول به.

ويوم الثلاثاء مشيت مع مريم، المرأة التي ترعرعت في مصر الجديدة، وهي تتنقل بحرية على امتداد جدار القصر الجمهوري، في ذات الطريق الذي تتذكره منذ ايام شبابها باعتباره مكان ترهيب من جانب الدولة. وكان المتظاهرون قد اخترقوا خطوط الشرطة قبل ساعة تقريبا. ووقفت مريم الان لالتقاط صورة لها عند البوابة الرئيسية للقصر، تحت شعار نسر ضخم، وهو الشعار العسكري للبلاد، وقد كتب عليه احدهم عليه "ليسقط مرسي" و"كل الشرطة فاسدون".

ولا بد ان الكثير من المصريين يشعرون بالاستياء الشديد من مثل هذه التعبيرات عن المشاعر، غير ان وجودها ذاته يشير الى السبب في ان هذه الثورة لن تختفي في اي وقت قريب. لقد تغير الزمن، سواء من الناحية الرمزية او الفعلية، فالجماهير تقف عند بوابات السلطة. ولا يمكن لاي نخبة تتجاهل هذه الحقيقة ان تتوقع البقاء لفترة طويلة

التعليقات