14/09/2023 - 23:25

العلاج بالعاثيات: الفيروسات في مواجهة الفيروسات

خلال أوائل القرن العشرين وحتّى منتصفه، اكتسب العلاج بالعاثية شعبيّة، خاصّة في أوروبا الشرقيّة، حيث تمّ بحثه على نطاق واسع واستخدامه كخيار علاجيّ، ومع ذلك، فإنّ ظهور المضادّات الحيويّة في منتصف القرن العشرين قد طغى إلى حدّ كبير على العلاج

العلاج بالعاثيات: الفيروسات في مواجهة الفيروسات

(Getty)

طوال العقود الماضية، في المعركة ضدّ الالتهابات الفيروسيّة، سعى العلماء منذ فترة طويلة إلى اتّباع أساليب مبتكرة لمواجهة هذه الفيروسات، وإحدى هذه الاستراتيجيّات المثيرة للاهتمام كانت استخدام الفيروسات لمكافحة فيروسات أخرى، وهو مفهوم يعرف باسم العلاج بالعاثيات، حيث يستخدم العلاج بالعاثية قوّة العاثيات، وهي فيروسات تستهدف البكتيريا وتصيبها على وجه التحديد، ممّا يوفّر وسيلة واعدة لعلاج الالتهابات البكتيريّة الّتي غالبًا ما تصاحب الأمراض الفيروسيّة.

وقد يبدو العلاج بالعاثيات وكأنّه تطوّر حديث في عالم الطبّ، ولكن يمكن إرجاع جذوره إلى ما يقرب من قرن من الزمان، حيث تبدأ القصّة باكتشاف العاثيات، أو ببساطة "العاثيات"، بواسطة فريدريك دبليو تورت في عام 1915، وبشكل مستقلّ بواسطة فيليكس دي هيريل في عام 1917، حيث لاحظ هؤلاء الباحثون أنّ بعض الفيروسات لديها قدرة ملحوظة على إصابة البكتيريا وتدميرها، وأثار هذا الاكتشاف الاهتمام باستكشاف العاثيات كأدوات محتملة ضدّ الالتهابات البكتيريّة.

وخلال أوائل القرن العشرين وحتّى منتصفه، اكتسب العلاج بالعاثية شعبيّة، خاصّة في أوروبا الشرقيّة، حيث تمّ بحثه على نطاق واسع واستخدامه كخيار علاجيّ، ومع ذلك، فإنّ ظهور المضادّات الحيويّة في منتصف القرن العشرين قد طغى إلى حدّ كبير على العلاج بالعاثيات، حيث قدّمت هذه الأدوية وسيلة أكثر ملاءمة وفعاليّة لعلاج الالتهابات البكتيريّة.

وفي العقود الأخيرة، أصبحت القيود المفروضة على المضادّات الحيويّة واضحة بشكل متزايد، وقد ارتفعت مقاومة المضادّات الحيويّة، ممّا جعل الأدوية الّتي كانت فعّالة في السابق غير فعّالة ضدّ عدد متزايد من السلالات البكتيريّة، وقد أعادت هذه الأزمة إشعال الاهتمام بالعلاجات البديلة، بما في ذلك العلاج بالعاثيات، كحلّ محتمل.

ويقدّم العلاج بالعاثية العديد من المزايا مقارنة بالمضادّات الحيويّة، أوّلًا وقبل كلّ شيء، تكون العاثيات محدّدة للغاية في استهدافها؛ فهي تصيب وتتكاثر داخل نوع أو سلالة بكتيريّة معيّنة فقط، وتعني هذه الخصوصيّة أنّ العاثيات يمكنها استهداف البكتيريا المسبّبة للأمراض وتدميرها مع ترك الميكروبات المفيدة دون أن تصاب بأذى، ممّا يقلّل من الأضرار الجانبيّة المرتبطة غالبًا بالمضادّات الحيويّة واسعة النطاق.

والعاثيات هي فيروسات تتكوّن من مادّة وراثيّة (إمّا DNA أو RNA) محاطة بغلاف بروتينيّ، فهي تصيب البكتيريا عن طريق الارتباط بمستقبلات محدّدة على سطح الخليّة البكتيريّة، وحقن مادّتها الوراثيّة في البكتيريا، واختطاف الآليّة الخلويّة للمضيف لتكرار نفسها، وتؤدّي هذه العمليّة في النهاية إلى تحلّل الخليّة البكتيريّة أو انفجارها وإطلاق العاثيات المتكوّنة حديثًا، والّتي يمكن أن تصيب البكتيريا الأخرى بعد ذلك.

ويقوم العلماء باختيار أو هندسة العاثيات الّتي تستهدف على وجه التحديد البكتيريا المسبّبة للأمراض المسبّبة للعدوى، حيث يتمّ إعطاؤها للمريض، إمّا عن طريق الفم أو موضعيًّا أو عن طريق الوريد، اعتمادًا على موقع العدوى وشدّتها، وبمجرّد دخولها إلى جسم المريض، تبحث العاثيات عن البكتيريا المستهدفة وتصيبها، وعندما تتكاثر داخل الخلايا البكتيريّة، فإنّها تتسبّب في النهاية في انفجار الخلايا البكتيريّة، ممّا يؤدّي إلى قتل العامل الممرّض بشكل فعّال.

أدّى تجدّد الاهتمام بهذا النوع من العلاج، إلى زيادة في الأبحاث ودراسات الحالة الّتي تستكشف فعّاليّته، وفي حين أنّ الكثير من هذه الأبحاث ركّزت على الالتهابات البكتيريّة، فقد درست بعض الدراسات إمكانيّة استخدام هذه التقنيات لعلاج الالتهابات الفيروسيّة أو التخفيف من مضاعفاتها.

وفي دراسة نشرت عام 2020 في مجلّة Cell، قام الباحثون بالتحقيق في استخدام العاثيات لعلاج الالتهابات البكتيريّة الثانويّة المرتبطة بفيروسات الجهاز التنفّسيّ، مثل الأنفلونزا، ووجدوا أنّ إعطاء العاثيات الّتي تستهدف مسبّبات الأمراض البكتيريّة مثل العقديّة الرئويّة يقلّل من الأحمال البكتيريّة في الجهاز التنفّسيّ، ويخفّف من المضاعفات ويحسن معدّلات البقاء على قيد الحياة في النماذج الحيوانيّة.

واستكشفت دراسة أجريت عام 2018 ونشرت في مجلّة Frontiers in Microbiology إمكانيّة استخدام العاثيات لاستهداف البكتيريا الموجودة في ميكروبات الأمعاء لتقليل الالتهاب لدى الأفراد المصابين بفيروس نقص المناعة البشريّة، وعلى الرغم من أنّ هذا النهج لا يعدّ علاجًا مباشرًا للفيروس نفسه، إلّا أنّه يهدف إلى تحسين الصحّة العامّة وتقليل خطر حدوث مضاعفات مرتبطة بفيروس نقص المناعة البشريّة.

وفي أعقاب جائحة كوفيد-19، قام بعض الباحثين بالتحقيق في استخدام العاثيات لاستهداف الالتهابات البكتيريّة الّتي غالبًا ما تصاحب الحالات الشديدة من كوفيد-19، وعلى الرغم من أنّ الهدف الأساسيّ في علاج كوفيد-19 هو فيروس SARS-CoV-2، إلّا أنّ العدوى البكتيريّة الثانويّة يمكن أن تشكّل تحدّيات كبيرة، وقد يقدّم العلاج بالعاثية نهجًا تكميليًّا لمعالجة هذه الالتهابات البكتيريّة.

وفي حين أنّ العلاج بالعاثية يظهر نتائج واعدة في علاج الالتهابات البكتيريّة، بما في ذلك تلك المرتبطة بالأمراض الفيروسيّة، إلّا أنّه يجب معالجة العديد من التحدّيات، مثل أن يستغرق تحديد أو هندسة العاثيات الّتي تستهدف السلالة البكتيريّة المطلوبة على وجه التحديد وقتًا طويلًا وصعبًا، وتتطلّب هذه العمليّة فهمًا شاملًا لخصائص العدوى البكتيريّة والعاثيات المتوفّرة، ومثلما يمكن للبكتيريا أن تطوّر مقاومة للمضادّات الحيويّة، فإنّها يمكن أن تصبح أيضًا مقاومة للعاثيات. وهذا يتطلّب البحث المستمرّ للبقاء في صدارة التكيّفات البكتيريّة.

يمثّل العلاج بالعاثية وسيلة واعدة لعلاج الالتهابات البكتيريّة، كما أنّ تطبيقاته المحتملة في معالجة المضاعفات المرتبطة بالأمراض الفيروسيّة مثيرة للاهتمام. ومع استمرار الباحثين في استكشاف هذا المجال، تظهر عدّة آفاق مستقبليّة، حيث قد يؤدّي التقدّم في علم الجينوم والبيولوجيا الجزيئيّة إلى تمكين تطوير علاجات العاثيات الشخصيّة المصمّمة خصّيصًا للمرضى الأفراد وحالات العدوى الخاصّة بهم، كما يمكن الجمع بين العلاج بالعاثية وعلاجات أخرى، مثل المضادّات الحيويّة أو الأدوية المضادّة للفيروسات، لتعزيز فعّاليّتها وتقليل خطر المقاومة.

التعليقات