الثقوب السوداء: من الفرضية إلى الفهم الحديث

يمكن إرجاع فكرة الثقوب السوداء إلى الحضارات القديمة، حيث تشبه الحكايات الأسطورية للمخلوقات التي تلتهم كل شيء في طريقها بشكل فضفاض هذه الكيانات الغامضة، ومع ذلك، لم يبدأ هذا المفهوم في اتخاذ شكلا أكثر علمية حتى القرن الثامن عشر

الثقوب السوداء: من الفرضية إلى الفهم الحديث

(Getty)

فتن مفهوم الثقوب السوداء والأجرام السماوية الغامضة العلماء لقرون طويلة، ولمفهوم الثقوب السوداء، على الرغم من شعبيته في الخيال العلمي الحديث، تاريخ طويل ومثير للاهتمام متجذر في البحث العلمي، حيث تمثل الثقوب السوداء مناطق من الفضاء تصبح فيها الجاذبية شديدة جدا بحيث لا يمكن لأي شيء، ولا حتى الضوء، الهروب.

يمكن إرجاع فكرة الثقوب السوداء إلى الحضارات القديمة، حيث تشبه الحكايات الأسطورية للمخلوقات التي تلتهم كل شيء في طريقها بشكل فضفاض هذه الكيانات الغامضة، ومع ذلك، لم يبدأ هذا المفهوم في اتخاذ شكلا أكثر علمية حتى القرن الثامن عشر، حيث أول نذير علمي معروف لنظرية الثقب الأسود يمكن أن ينسب إلى جون ميشيل، الفيلسوف الطبيعي الإنجليزي، ففي عام 1783، اقترح ميشيل مفهوم "النجوم المظلمة" التي تمتلك قوة جاذبية قوية بحيث لا يمكن حتى للضوء الهروب من أسطحها، إذ وضع عمل ميشيل الأساس للتطور اللاحق لنظرية الثقب الأسود، وبعد قيادة ميشيل، استكشف عالم الرياضيات والفلك الفرنسي الشهير بيير سيمون لابلاس فكرة النجوم المظلمة. في عمله، "Exposition du système du Monde"، الذي نُشر عام 1796، فكر لابلاس في تكوين هذه الأجرام السماوية من خلال الانهيار الثقالي، مما يمثل خطوة أساسية نحو نظرية أكثر قوة للثقوب السوداء.

ويمكن أن تُعزى ولادة نظرية الثقب الأسود الحديثة إلى نظرية ألبرت أينشتاين الرائدة في النسبية العامة، والتي نُشرت في عام 1915، حيث قدمت النسبية العامة فهما أكثر تعقيدا للجاذبية، مما أدى إلى تكوين الثقوب السوداء كنتيجة طبيعية من هذه النظرية.

وفي عام 1916، وجد الفيزيائي الألماني كارل شفارتزكايند، الذي خدم في الحرب العالمية الأولى، حلا لمعادلات أينشتاين الميدانية التي وصفت انحناء الزمكان حول كتلة غير دوارة متناظرة كرويا، هذا الحل، المعروف الآن باسم مقياس شوارزشيلد، تنبأ بوجود ما يعرف بثقب شوارزشيلد الأسود - ثقب أسود غير دوار مع أفق حدث، حد لا يمكن أن يعود أي شيء بعده.

وأخذ مفهوم الثقب الأسود قفزة أخرى للأمام في الثلاثينيات عندما استكشف عالم الفيزياء الفلكية الهندي Subrahmanyan Chandrasekhar إمكانية انهيار النجوم الضخمة تحت تأثير قوة جاذبيتها، وهي الكتلة الحرجة التي سيتعرض بعدها القزم الأبيض لمزيد من الانهيار الجاذبي، وعلى الرغم من أن هذا العمل لا يرتبط ارتباطا مباشرا بالثقوب السوداء، إلا أن هذا العمل أظهر إمكانية أن تصبح البقايا النجمية أكثر إحكاما، وفي عام 1939، طور جي روبرت أوبنهايمر وهارتلاند سنايدر فكرة انهيار الجاذبية وتشكيل الثقوب السوداء، حيث أجروا حسابات عددية أشارت إلى أن النجوم الضخمة يمكن أن تنهار بالفعل لتشكل فرادات - مناطق ذات كثافة لانهائية - مخبأة خلف أفق الحدث.

وتمت صياغة مصطلح "الثقب الأسود" في وقت لاحق، في الستينيات، مما يمثل نقطة تحول في تعميم المفهوم وإضفاء الطابع الرسمي على الاعتراف به كموضوع علمي شرعي، حيث لعب الفيزيائي الأمريكي جون أرشيبالد ويلر دورا حاسما في الترويج لمصطلح "الثقب الأسود" ووضعه كمصطلح شائع، كما أكد على أهمية الثقوب السوداء كأجسام أساسية في النسبية العامة والفيزياء الفلكية، وفي عام 1965، قدم عالم الرياضيات البريطاني روجر بنروز مزيدا من الدعم لنظرية الثقب الأسود من خلال نظرياته الشهيرة في التفرد، حيث أظهرت هذه النظريات أنه في ظل ظروف معينة، كانت التفردات - النقاط المركزية للثقوب السوداء - نتيجة حتمية للنسبية العامة.

وبينما ظلت الثقوب السوداء في الغالب كيانات نظرية في معظم القرن العشرين، قدمت التطورات في علم الفلك الرصدي في النهاية دليلا ملموسا على وجودها ووسع فهمنا لخصائصها، واكتسب مفهوم الثقوب السوداء الهائلة، بكتل تفوق كتلة شمسنا ملايين إلى مليارات المرات، مكانة بارزة في النصف الأخير من القرن العشرين، وتم الاستدلال على وجودهم من خلال ملاحظة ظواهر نشطة للغاية في مراكز المجرات، مثل نوى المجرات النشطة (AGNs) والكوازارات.

في عام 2019، أصدر تعاون Event Horizon Telescope إعلانا، وكشف عن أول صورة مباشرة على الإطلاق لأفق حدث ثقب أسود فائق الضخامة في المجرة M87، حيث قدم هذا الإنجاز تأكيدا مذهلا لوجود الثقوب السوداء وقدم لمحة مثيرة عن طبيعتها الغامضة، واستمرت التطورات النظرية في فهم الثقوب السوداء على أنها ليست مجرد أجسام سوداء، بل كيانات لها صلة بالديناميكا الحرارية وميكانيكا الكم، وفي عام 1974، أحدث ستيفن هوكينج ثورة في فيزياء الثقوب السوداء من خلال اقتراح أن الثقوب السوداء ليست سوداء بالكامل ولكنها تصدر إشعاعات حرارية بسبب التأثيرات الكمومية بالقرب من أفق الحدث، هذه الظاهرة، المعروفة الآن بإشعاع هوكينغ، تشير إلى أن الثقوب السوداء يمكن أن تفقد كتلتها ببطء وتتبخر في النهاية.

وأثار إشعاع هوكينغ لغزا عميقا يُعرف باسم مفارقة معلومات الثقب الأسود، حيث إذا كان من الممكن أن تتبخر الثقوب السوداء وتختفي، فقد يبدو أنها تنتهك المبدأ الأساسي لميكانيكا الكم التي تقضي بضرورة حفظ المعلومات، ويظل حل هذه المفارقة مجالا نشطا للبحث في الفيزياء النظرية حتّى اليوم.

التعليقات