كيف عاشت غزّة 40 ساعة من دون اتّصالات؟

دخل السكّان في موجة من الذعر، فهم يعلمون من تجربة سابقة في حرب العام 2009 أنّ هذه العزلة تعني تخطيط الجيش الإسرائيليّ لعمليّات عسكريّة واسعة ضدّهم، ويريد أن لا تصل أصواتهم وصورهم إلى العالم...

كيف عاشت غزّة 40 ساعة من دون اتّصالات؟

دمار إثر قصف الاحتلال مربّعًا سكنيًّا في غزّة (Getty)

نيران القصف الإسرائيليّ الّذي دمّر مدنًا ومناطق سكنيّة كاملة، وقتل وأصاب عشرات الآلاف وانقطاع المياه والكهرباء ونقص الغذاء والدواء، كلّها ظروف مأساويّة ربّما تشهدها غزّة للمرّة الأولى بتاريخها، لكنّ انقطاع الاتّصالات والإنترنت كان مرحلة مفصليّة في مجريات الحرب المتواصلة منذ 23 يومًا.

الحكاية بدأت في الساعة 18:30 بالتوقيت المحلّيّ في غزّة، من مساء الجمعة الماضية، بعد نحو ساعتين من مزاعم أطلقها الجيش الإسرائيليّ باتّخاذ حركة "حماس" لمستشفى الشفاء بغزّة مقرًّا لقيادتها.

كان المتحدّث باسم الجيش الإسرائيليّ دانيال هاغاري، وجه عدّة اتّهامات، خلال مؤتمر صحفيّ، لـ"حماس" من بينها أنّ القيادة المركزيّة للحركة موجودة أسفل مستشفى الشفاء في غزّة، وأنّ هناك وقودًا في المستشفيات في غزّة، وحماس تستخدمه لبناها التحتيّة.

هذه الاتّهامات، نفاها رئيس المكتب الإعلاميّ الحكوميّ سلامة معروف ومدير مجمّع الشفاء الطبّيّ محمّد أبو سلميّة في مؤتمر صحفيّ، عقداه من داخل المستشفى بحضور وسائل إعلام عربيّة ودوليّة.

في تلك الساعة تفاجأ الفلسطينيّون في غزّة بتوقّف شبكات الهاتف المحمول وانقطاع الإنترنت بشكل كامل، عن جميع مناطق القطاع.

دخل السكّان في موجة من الذعر، فهم يعلمون من تجربة سابقة في حرب العام 2009 أنّ هذه العزلة تعني تخطيط الجيش الإسرائيليّ لعمليّات عسكريّة واسعة ضدّهم، ويريد أن لا تصل أصواتهم وصورهم إلى العالم.

ولعلّ ما عزّز هذه المخاوف، الحديث الواسع للجيش الإسرائيليّ عن اتّخاذ "حماس" لمجمع الشفاء مركّزًا لعمليّاتها، فهذه المستشفى يتّخذها نحو 50 ألف نازح فلسطينيّ ملجأ لهم بعد قصف منازلهم أو تهديدها بالقصف، واستهدافها سيعني "مذبحة جديدة".

وقالت وزارة الاتّصالات وتكنولوجيا المعلومات الفلسطينيّة، السبت، إنّ إسرائيل نفّذت "عمدًا" قطع خدمات الاتّصالات والإنترنت عن غزّة، من خارج القطاع.

وذكرت الوزارة في بيان: "الانقطاع الكامل للاتّصال مع غزّة، ناتج عن الأفعال المتعمّدة الّتي قامت بها سلطات الاحتلال من خارج حدود القطاع خلال العدوان المستمرّ".

وتقصد الوزارة أنّ قطع الخدمات ليس ناتجًا عن عمليّات القصف المستمرّة، بل قطع متعمّد للخدمة من خلال فصل مقاسم الخدمة الدوليّة، والّتي تسيطر عليها إسرائيل أيضًا، لكنّها لم تشر لذلك صراحة.

وتسيطر إسرائيل على شبكات الاتّصالات في فلسطين، خاصّة تلك الّتي تربط الضفّة الغربيّة بقطاع غزّة، أو الّتي تربط الأراضي الفلسطينيّة بالعالم.

أعنف ليلة

(Getty)

وبعد 3 ساعات من انقطاع الاتّصالات والإنترنت، بدأت أعنّف ليلة تشهدها مدينة غزّة منذ بداية الحرب الإسرائيليّة على القطاع بل منذ عقود.

الطائرات الحربيّة والمدفعيّة والبوارج، شاركت جميعها في قصف شماليّ القطاع ومدينة غزّة في تلك الليلة، الّتي لم تنطفئ نيرانها حتّى ساعات الفجر الأولى ليتمّ تدمير عشرات الطرق الرئيسيّة والمباني السكنيّة والمؤسّسات الحكوميّة.

واستمرّ تصاعد ألسنة اللهب وأعمدة الدخان السوداء، جرّاء القصف العنيف حتّى ساعات عصر اليوم التالي بصورة لم تشهدها غزّة من قبل.

وقال الجيش الإسرائيليّ في بيان، إنّ 100 طائرة مقاتلة تابعة لسلاح الجوّ، شاركت في قصف أهداف بقطاع غزّة خلال ليل الجمعة السبت.

وأضاف الجيش: "خلال الليل ضربت الطائرات المقاتلة 150 هدفًا تحت الأرض في شمال قطاع غزّة من بينها أنفاق يستخدمها الإرهابيّون، ومواقع قتال تحت الأرض ومنشآت أخرى.. وقد قتل عدّة إرهابيّين من حماس".

تعطّل عمليّات الإنقاذ

(Getty)

وفي تلك الليلة، أوّل مشكلة واجهها الفلسطينيّون بسبب انقطاع الاتّصالات والإنترنت، عدم قدرة أطقم الإسعاف والدفاع المدنيّ على تحديد المناطق المستهدفة بدقّة والتوجّه إليها لانتشال القتلى والجرحى.

ويقول الناطق باسم وزارة الصحّة الفلسطينيّة بغزّة أشرف القدرة، إنّ انقطاع الاتّصالات أثّر إلى حد بعيد على عمل أطقم الإسعاف وقدرتها على الوصول السريع إلى المناطق المستهدفة.

ويضيف القدرة، فرق الإنقاذ كانت تواجه مشكلة في تحديد المناطق المستهدفة بدقّة وفي بعض الأحيان كانت تنتظر السيّارات المدنيّة لتصل إلى المستشفى لتبلّغ عن مواقع القصف لتقوم بدورها بالتوجّه إليها.

ورصد مراسل الأناضول، عددًا كبيرًا من السيّارات المدنيّة تصل إلى مستشفى الشفاء في مدينة غزّة، وهي تنقل جرحى من مواقع قصف مختلفة، وتبلغ أطقم الإسعاف والدفاع المدنيّ عن المنطقة المستهدفة لتتوجّه إليها وتكمل عمليّات الإنقاذ والإسعاف.

ويتابع القدرة: "المنظومة الصحّيّة في القطاع تعمّق انهيارها، بسبب انقطاع الاتّصالات وعدم توفّر المستلزمات الطبّيّة والوقود".

ويقول: "نحن وصلنا إلى مرحلة تعطّل فيها تقدّم الخدمة الصحّيّة ذات القيمة المطلوبة للجرحى بسبب انعدام الإمكانيّات".

توقّف التغطية الصحفيّة

(Getty)

الصحفيّون كان لديهم مشاكلهم أيضًا، فتغطية أحداث تلك الليلة المشتعلة توقّفت بشكل شبه كلّيّ فلا يوجد إنترنت لإرسال الأخبار والصور إلى وسائل الإعلام المختلفة.

وكالة الأناضول كانت من بين عدد قليل من وسائل الإعلام، تمكّنت من تغطية الحدث بعد أن لجأ مراسلوها إلى شبكات اتّصال وإنترنت إسرائيليّة، ظلّت تعمل في مناطق محدّدة بمدينة غزّة، وبسرعات بطيئة للغاية كون أبراج إرسالها بعيدة نسبيًّا عن القطاع.

ونقلت عبر العشرات من الصور، مشاهد القصف الإسرائيليّ العنيف الّذي شهدته مدينة غزّة وشماليّ القطاع، والّذي حوّل ليلها إلى نهار غلب عليه لون الدم والنار.

انقطاع التواصل

(Getty)

في جانب آخر من هذه المشكلة، فقد الفلسطينيّون التواصل فيما بينهم فالعائلات في غزّة خاصّة النازحين وزّعت أفرادها على عدّة منازل بعد تدمير بيوتها.

القلق حينها ملأ بيوت وقلوب الجميع، فالجميع كان يغلبه الظنّ أنّ القصف استهدف منزل يقيم فيه أفراد من عائلته بالنيران الّتي كانت تنزل من السماء كالحمم ولا أحد يعرف أين تسقط.

في الصباح، كان على الجميع التنقّل بحذر للاطمئنان على بعضهم البعض، ولكن لم ينجح كثيرون في ذلك فالمواصلات مقطوعة أيضًا منذ عدّة أيّام، بسبب نفاد الوقود باستثناء بعض المركبات الّتي تعمل على الغاز الطبيعيّ وعددها قليل للغاية.

وعدد كبير ممّن نجح بالوصول لمنازل يقيم فيها أفراد من عائلاتهم، خاصّة في مخيّم الشاطئ للّاجئين الفلسطينيّين، اكتشف الكارثة فجميعهم أو غالبيّتهم أصيبوا أو قتلوا بفعل القصف الإسرائيليّ.

وحسب بيانات وزارة الصحّة الفلسطينيّة، فقد استشهد 40 فلسطينيًّا وأصيب عشرات آخرون جرّاء قصف إسرائيليّ استهدف مربّعًا سكنيًّا في مخيّم الشاطئ ليلة الجمعة / السبت.

الفلسطينيّ مصعب الغول يقول إنّه اضطرّ للمشي لمدّة ساعتين قبل أن يصل لمنزل يقيم به أفراد من عائلته بحيّ الشجاعيّة شرقيّ مدينة غزّة.

ويضيف الغول: "الحمد للّه تمكّنت من الاطمئنان على أفراد عائلتي هناك… جميعهم بخير لكنّ منزل لجيرانهم تمّ قصفه وسقط عدد كبير من الشهداء والجرحى".

عودة تدريجيّة للاتّصالات

(Getty)

وبعد 40 ساعة من الانقطاع عادت الاتّصالات والإنترنت تدريجيًّا فجر اليوم الأحد، إلى معظم مناطق قطاع غزّة.

وأعلنت شركة "الاتّصالات الفلسطينيّة وجوّال"، الأحد، عودة خدمات الاتّصال والإنترنت للعمل بشكل تدريجيّ في قطاع غزّة.

وقالت الشركة في منشور على منصّة "إكس": تعلن عن عودة خدمات الاتّصال "الثابت والخلويّ والإنترنت" للعمل بشكل تدريجيّ، والّتي تمّ فصلها عن قطاع غزّة نتيجة للعدوان يوم الجمعة 27/10/2023".

وأضافت "أمّا بخصوص الشبكة الداخليّة في القطاع، وبالرغم من خطورة الوضع الميدانيّ، فإنّ طواقمها الفنّيّة كانت وما زالت تعمل كلّ ما بوسعها لإصلاح ما أمكن من الأضرار الّتي حلّت بالشبكة، قدر المستطاع وضمن ما هو متوفّر من إمكانيّات".

وتشنّ إسرائيل منذ 23 يومًا عمليّة عسكريّة في قطاع غزّة أطلقت عليها اسم "السيوف الحديديّة"، دمّرت أحياء بكاملها، وأوقعت 7703 شهداء، بينهم 3195 طفلًا، و1863 سيّدة، إلى جانب 19743 أصيبوا بجراح مختلفة.

وخلال الفترة ذاتها قتلت حركة حماس أكثر من 1400 إسرائيليّ وأصابت 5132، وفق وزارة الصحّة الإسرائيليّة، كما أسرت ما يزيد على 230 إسرائيليًّا، بينهم عسكريّون برتب رفيعة، ترغب في مبادلتهم بأكثر من 6 آلاف أسير فلسطينيّ، بينهم أطفال ونساء.

التعليقات