صحافيّون في غزّة يروون يوميّات الموت المحيط بهم

في ظلّ هذه الظروف، يشعر الصحافيّون أنّهم محاصرون. ورغم كلّ الجهود الّتي تبذلها الوكالة مع كلّ السلطات والدول المعنيّة، لم تسمح السلطات الإسرائيليّة حتّى الآن لأيّ صحافيّ من فرانس برس بمغادرة غزّة...

صحافيّون في غزّة يروون يوميّات الموت المحيط بهم

آثار الدمار في قطاع غزّة إثر القصف الإسرائيليّ المتواصل (Getty)

يروي صحافيو وكالة فرانس برس في قطاع غزّة، يوميّات الخطر والخوف والموت الذي يحيط بهم في كلّ مكان تحت القصف، وتحدّثوا أيضًا عن تصميمهم على مواصلة توثيق الحرب الإسرائيليّة المتواصلة على قطاع غزّة، والتي تحاكم فيها إسرائيل في محكمة العدل الدوليّة بتهمة الإبادة الجماعيّة.

وقبل 7 تشرين الأوّل/أكتوبر، غطّى صحافيّو وكالة فرانس برس في غزّة ستّ حروب. كان الحصار جزءًا من حياتهم اليوميّة منذ نحو 17 عامًا، وقد "اعتادوا" على قيود التنقّل والحرمان والمشارح والجنازات. ويروي عادل الزعنون الّذي يعمل صحافيًّا في غزّة منذ 30 عامًا "قرابة الساعة السادسة صباحًا، كنت في الخارج وسمعت أصوات قصف بدت كأنّها تأتي من كلّ مكان. بدأنا نتساءل ما إذا كان ذلك قصفًا إسرائيليًّا أو إطلاق صواريخ من جانب حماس".

وبعد أربعة أشهر من بدء العدوان الإسرائيليّ على غزّة، عمّ الدمار القطاع البالغة مساحته 365 كيلومترًا مربّعًا وأصبح الوضع الإنسانيّ فيه كارثيًّا. حيث تنفّذ إسرائيل قصفًا مدمّرًا وإبادة جماعيّة راح ضحيّتها حتّى الآن 28 ألف شهيد، وفق وزارة الصحّة الفلسطينيّة.

ولا يتردّد الصحافيّون في التوجّه إلى مواقع القصف. في كلّ مرّة، يواجهون الألم والمعاناة، وفي بعض الأحيان غضب الناجين. وفي كلّ مرّة، يشعرون بالرعب إزاء الجثث المشوّهة الّتي غالبًا ما تكون عائدة لأطفال، والّتي يفترض أن يصوّروها أو يصفوها بالكلمات.

ويروي محمّد عبد، وهو مصوّر في وكالة فرانس برس في غزّة منذ 24 عامًا، "عندما يكون الاتّصال بالإنترنت متوافرًا، نتحدّث عبر مجموعات صحافيّين على واتساب لنخبر بعضنا عن موقع القصف. عندما يكون مقطوعًا، نحاول أن نجد طريقنا من خلال ملاحقة الضجّة والناس".

وأصبح الذهاب في سيّارة لإعداد التقارير تحدّيًا حقيقيًّا. مع وجود أكثر من مليوني نازح، معظمهم اليوم في رفح في جنوب قطاع غزّة، "هناك زحمة سير في كلّ مكان، ونحتاج إلى التسلّل بين أفواج النازحين والخيام الّتي نصبت في وسط الشوارع والأكشاك المنتشرة في كلّ مكان والأحياء الّتي أصبحت ركامًا".

ويوضّح عادل الزعنون "قد يصل سعر لتر البنزين إلى 45 دولارًا. لذلك نفضّل في بعض الأحيان أن نمشي ساعة بدلًا من استخدام السيّارة لأنّنا لا نعرف ما إذا كنّا سنجد الوقود في اليوم التالي، وقد تكون أمامنا رحلة أهمّ للقيام بها".

في بداية الحرب، ظلّت فرانس برس لفترة طويلة تؤمّن بثًّا مباشرًا من داخل مدينة غزّة. وكان ذلك ليكون مستحيلًا لو لم يعمل أحمد عيسى، التقنيّ في مكتب وكالة فرانس برس في غزّة، رغم الخطر والفوضى، على تركيب ألواح شمسيّة لتزويد المكتب بالكهرباء على مدار ساعات اليوم بعد انقطاع التيّار في القطاع.

سمح ذلك بتشغيل كاميرا للنقل المباشر على مدى أسابيع طويلة، حتّى بعد مغادرة الصحافيّين. وسمح لهم أيضًا بشحن بطّاريّات كاميراتهم وهواتفهم.

وأحمد عيسى هو العنصر الوحيد في الفريق الّذي تمكّن من مغادرة غزّة في نهاية كانون الثاني/يناير.

"غزّة تختفي أمام أعيننا"

مصوّر وكالة فرانس برس محمد عبد في موقع تعرّض لقصف إسرائيلي في رفح (غيتي)

يقول الزعنون "نحن نعمل منذ أربعة أشهر 24 ساعة في اليوم، لكن علينا القيام بذلك لأنّنا نشاهد غزّة تختفي أمام أعيننا".

ويضيف "المنازل والتراث التاريخيّ يدمّران، الضحايا يسقطون، كلّ شيء يختفي تحت القصف الإسرائيليّ. لا يوجد مكان آمن (...). رأيت أطفالًا يخرجون تحت القصف للبحث في حاويات النفايات عن قطعة خبز ليأكلوا. كانت شفاههم متشقّقة، ويظهر بوضوح أنّهم لم يشربوا الماء منذ فترة طويلة...".

وتقول ياغي "العمل معضلة لأنّنا جزء من الضحايا ومن المعاناة (...). نتظاهر بالقوّة لطمأنة المحيطين بنا والّذين يحبّوننا. وفي الوقت نفسه، نشعر بالمسؤوليّة المترتّبة علينا لنعمل. معاناة الناس تفاقم معاناتي وتشعرني بقهر وعجز".

في البداية، كانوا يأملون بأن تنتهي الحرب سريعًا. لكن بسرعة كبيرة "تغلب الرعب والخطر" على آمالهم، كما يقول الزعنون.

ويروي "تكثّفت عمليّات القصف الجوّيّ والبحريّ والبرّيّ. لم نشهد هذا الأمر من قبل: كان الجيش الإسرائيليّ يستهدف منازل فيما سكّانها داخلها. لم يتوقّف عدد القتلى والجرحى عن الارتفاع".

دعم مستحيل

مصوّر وكالة فرانس برس في غزّة محمود الهمص في مخيّم البريج في وسط قطاع غزّة (غيتي)

وأصبح العمل أكثر صعوبة خصوصًا بعدما دعت القوّات الإسرائيليّة سكّان مدينة غزّة حيث يعيش معظم صحافيّي وكالة فرانس برس، إلى المغادرة نحو الجنوب. في 13 تشرين الأوّل/أكتوبر، اضطرّوا لترك منزلهم ومكتب فرانس برس الّتي كانت حتّى ذلك الحين بين وسائل الإعلام الدوليّة القليلة الّتي احتفظت بمكتب في غزّة.

بعد ثلاثة أسابيع، أصيب مكتب فرانس برس بضربة أحدثت فيه أضرارًا كبيرة، ما شكل ضربة جديدة لأعضاء الفريق الّذين كانوا يعتبرون المكتب بمثابة بيتهم الثاني. وتوقّفت الكاميرا الّتي كانت موضوعة على شرفة في المبنى والّتي سمحت ببثّ مباشر للعالم منذ بداية الحرب، عن العمل بعد أيّام قليلة.

وتساهم العزلة في زيادة الإرهاق. منذ أخضعت إسرائيل قطاع غزّة لـ"حصار مطبّق" في 9 تشرين الأوّل/أكتوبر، أصبح صحافيّو وكالة فرانس برس في غزّة معزولين أكثر من أيّ وقت مضى.

ولم يعد بإمكان أيّ زميل من مكتب القدس أو من أيّ مكتب آخر تابع لوكالة فرانس برس في العالم أن يصل إلى غزّة لمساعدتهم، كما كانت الحال خلال الحروب السابقة. حتّى الاتّصالات الهاتفيّة مع زملائهم في القدس والّتي كانت يوميّة، أصبحت غير ممكنة إلّا بشكل متقطّع جدًّا وقليل.

وفي ظلّ هذه الظروف، يشعر الصحافيّون أنّهم محاصرون. ورغم كلّ الجهود الّتي تبذلها الوكالة مع كلّ السلطات والدول المعنيّة، لم تسمح السلطات الإسرائيليّة حتّى الآن لأيّ صحافيّ من فرانس برس بمغادرة غزّة.

"تخيّلوا زملاءكم يموتون أمام أعينكم"

ويزداد الشعور بالخطر يومًا بعد يوم، خصوصًا مع ارتفاع عدد الصحافيّين الّذين قتلوا بالقصف.

وبحسب الأرقام الصادرة عن لجنة حماية الصحافيّين في 2 شباط/فبراير، قتل 85 صحافيًّا وعاملًا في مجال الإعلام في قطاع غزّة منذ 7 تشرين الأوّل/أكتوبر.

ويقول عادل الزعنون "في أحد الأيّام، أدّت ضربة إلى مقتل عدد من زملائي، على مقربة منّي. تخيّلوا: أصدقاؤكم وزملاؤكم يموتون أمام أعينكم. تخيّلوا أن تستيقظوا على صوت قصف شديد وأن تروا أشلاء بشريّة تتطاير في كلّ الاتّجاهات وأن تقع الخيمة على رؤوسكم ويتساقط عليكم طنّ من الرمال والغبار".

ويضيف "نعلم جميعنا أنّه في أيّ لحظة قد يأتي دورنا (...). عائلاتنا تعرف ذلك أيضًا، وتشعر بالهلع. عندما تكون هناك اتّصالات، يتّصل بنا أطفالنا وزوجاتنا طوال الوقت لمعرفة مكاننا وماذا نفعل. يطلبون منّا ألّا نبقى بعيدين عنهم لفترة طويلة وأن نكون حذرين لأنّهم يعلمون أنّنا نذهب إلى كلّ مكان وسط الموت مع أمل أن ننجو منه".

ومنذ أبلغ الجيش الإسرائيليّ وكالة فرانس برس بأنّه لا يستطيع "ضمان سلامة" صحافيّي الوكالة في قطاع غزّة، شعر الجميع بالخطر لمجرّد كونهم صحافيّين.

ويقول محمّد عبد "إنّ ارتداء سترة صحافة المضادّة للرصاص لا يحمينا، نحن معرّضون لخطر الموت في أيّ لحظة".

ويروي يحيى حسّونة، المصوّر في وكالة فرانس برس في غزّة منذ العام 2009، أنّه في أحد أيّام تشرين الأوّل/أكتوبر، "أخبرنا سكّان بأنّه تمّ تحذيرهم بأنّ المبنى الّذي يعيشون فيه سيقصف. تمركزنا مع العديد من مصوّري الفيديو الصحافيّين تحت شرفة المبنى المقابل. وبما أنّ القصف لم يحدث غادرت. لكن بعد دقائق، استهدف المبنى الّذي كان يتمركز فيه الصحافيّون. قتل ثلاثة زملاء".

ويقول عبد "يتّهموننا بالتحيّز لكنّنا نبقى مهنيّين. نحن على اتّصال دائم بمكتب الوكالة في القدس، ونبقى صحافيّين، حتّى عندما يكون جيراننا وأصدقاؤنا وأقاربنا تحت القصف".

ومنذ 7 تشرين الأوّل/أكتوبر، قدّمت منظّمة "مراسلون بلا حدود" شكويّين بشأن جرائم حرب ارتكبها، بحسب قولها، الجيش الإسرائيليّ ضدّ صحافيّين فلسطينيّين. وندّدت لجنة حماية الصحافيّين في تقرير نشر قبل مقتل صحافيّين من شبكة "الجزيرة" القطريّة بضربة إسرائيليّة في 7 كانون الثاني/يناير، "بميل واضح لدى الجيش الإسرائيليّ لاستهداف الصحافيّين وعائلاتهم".

في 1 شباط/فبراير، ندّد خمسة خبراء مستقلّين منتدبون من الأمم المتّحدة في جنيف، بـ"هجمات" ضدّ وسائل الإعلام في غزّة وبـ"استراتيجيّة متعمّدة" تتبعها إسرائيل لإسكات الصحافيّين.

ومن الأمور الّذي تثبت ذلك، رفض معظم أصحاب الشقق تأجيرها لصحافيّين خوفًا من استهداف المبنى الّتي تقع فيه. وبالتّالي، يدفع الصحافيّون في بعض الأحيان إيجارات أعلى بخمس مرّات من غيرهم لإسكان عائلاتهم.

ويبدو في بعض الأحيان أنّ الشكوك تنشأ من حقيقة بسيطة هي أنّ الصحافيّين في غزّة على اتّصال منتظم مع مسؤولي حماس.

"انقلبت حياتي"

ومنذ تركوا منازلهم في تشرين الأول/أكتوبر، نام الصحافيّون في بعض الأحيان في سيّاراتهم، وفي أحيان أخرى تحت خيام نصبت في باحة مجمّع ناصر الطبّيّ في خان يونس في الجنوب.

واليوم، يتكدّس جميع صحافيّي وكالة فرانس برس في منزل في رفح مع عائلاتهم، ويبلغ عددهم 50 شخصًا في المجموع. يمضون وقتهم خارج ساعات العمل في البحث عن ماء للشرب أو طعام، أو في غسل الملابس القليلة الّتي أخذوها معهم والّتي غالبًا ما تكون مغطّاة بغبار الأنقاض، بأيديهم.

وتقول مي ياغي "انقلبت كلّ حياتي. أصبحت مشرّدة ولا أشعر بالأمان. النوم والأكل والشرب والاستحمام، كلّ ذلك أصبحت له حسابات في الأشهر الأخيرة. حاليًّا، نرضى بالاستحمام بمياه باردة مرّة كلّ أسبوع على الأقلّ رغم برودة الجوّ".

وتضيف "مئة يوم بدون ساعة واحدة من الخصوصيّة على الإطلاق. أقصى أحلامي الآن أن أجلس ساعة واحدة من دون سماع أيّ صوت. ساعة واحدة أشرب فيها القهوة وأدخّن السجائر... لا صوت قصف ولا بشر ولا زنّانة ولا شيء".

فقدت ياغي جيرانًا وأصدقاء وأقارب، لكنّها تقول "حتّى الآن مشاعري مجمّدة. لا وقت للحزن، لو فعلت ذلك سأنهار لأنّهم كثر. يجب أن أبقى قويّة. لديّ مسؤوليّات أخرى. يجب أن أتظاهر بأنّ كلّ شيء على ما يرام حتّى يطمئنّ من حولنا، أكانوا محاصرين في غزّة أو من يحبّوننا في الخارج".

ويقول محمّد عبد "جفّت دموعنا حرفيًّا. الآن أعمل مثل الروبوت: أخرج وأضغط على الزرّ (الكاميرا) وبعدها لا أعود أرى شيئًا بعد كلّ الصدمات والبكاء والحدّاد (...). لكن تكفي لحظة واحدة أجلس فيها أو استلقي لكي يمرّ شريط أحداث اليوم أمام عيني. نحن متوتّرون طوال الوقت لأنّه بالإضافة إلى كلّ ذلك، نأكل القليل ونشرب مياهًا غير صالحة للشرب".

ويقول يحيى حسّونة "جميع الصحافيّين يعانون اضطراب ما بعد الصدمة. في غزّة، إذا قال لكم شخص ما إنّه بخير، كونوا أكيدين أنّه يكذب. كلّ ما رأيناه وكلّ ما صوّرناه سيطبع في ذاكرتنا إلى الأبد، لن ننساه أبدًا".

البحث عن الأقارب

بالنسبة إلى الجميع، فإنّ البعد عن الأقارب والأحبّاء أمر لا يحتمل. عادل الزعنون لا يكفّ عن التفكير بوالدته وأشقّائه الّذين لم يتمكّنوا من مغادرة مدينة غزّة.

أمّا بالنسبة إلى مي ياغي، فكانت "أقسى اللحظات" عندما اضطرّت أن تترك ابنها جاد البالغ 11 عامًا يرحل بمفرده. وكانت ابنتها الكبرى غادرت قبل اندلاع الحرب بفترة وجيزة للدراسة في بريطانيا حيث ما زالت موجودة.

وتقول إنّه على الطريق المؤدّية إلى معبر رفح على الحدود المصريّة، كان "كلّ همّي أن أطمئنه بأنّني سألحق به قريبًا. أخبرته بأنّه بطل، وسيكون بأمان مع موظّفي السفارة وبأنّ والده وخالته بانتظاره في القاهرة".

وتختم قائلة "رفض السفر وتركي في البداية، لكنّني أقنعته بضرورة ذلك. وعدته بأنّني سأكون بخير لكنّه لم يصدّقني. حضنني كأنّها المرّة الأخيرة وطلب منّي أن أقسم بأنّني سألحق به. ليس لديّ أيّ فكرة اليوم متى سأرى ولدي. لا أريد إلّا شيئًا واحدًا: أن أحضنهما مجدّدًا بين ذراعي".

التعليقات