من ذاكرة الأسر (12)../ راسم عبيدات

-

من ذاكرة الأسر (12)../ راسم عبيدات
المناضل أحمد عميرة، كان شعلة عطاء ونشاط قبل اعتقاله، وكان لا يترك فعالية جماهيرية إلا ويشارك بها، أو كان داعية لها. وعندما اندلعت الإنتفاضة المجيدة الأولى في كانون أول 1987، لم يتوان عن المشاركة بها بفاعلية.

وفي خضم العمل والنشاط الانتفاضي، كان أحمد يعتقد أن بشائر النصر قد لاحت، وأن هذه الإنتفاضة يعول عليها كثيراً في إمكانية تحقيق الحرية والإستقلال، في ظل الشعار الناظم لهذه الإنتفاضة المجيدة "شعار لا صوت يعلو فوق صوت الإنتفاضة".

ويعتقل أحمد كغيره من أبناء الشعب الفلسطيني، والانتفاضة متوهجة في عنفوانها وأوجها، وفي السجن يزداد أحمد إصراراً وقناعة بأن فجر الحرية آت لا محالة. وتتوالى سنوات السجن عاماً بعد عام، دون أن تلوح بشائر النصر أو تحقيق الأهداف التي من أجلها اندلعت الانتفاضة.

وتجري في النهر مياه كثيرة، وتتعمق أزمة الجبهة الديمقراطية التي انتمى أحمد إليها، ويعتقد أحمد وعدد آخر من رفاقه في الجبهة الديمقراطية، أن القوى اليسارية هي تنظيمات "ستالينية" وتفتقر إلى الديمقراطية في حياتها الداخلية، وإحدى هذه التنظيمات هي الجبهة الديمقراطية التي ينتمون إليها.

وبغض النظر عن عدم صحة وزيف الإدعاءات والمبررات التي صاغها وطرحها، بل وخدع بها الكثيرين، ياسر عبد ربه، منظر ومهندس الانشقاق، والذي كان يتبوأ منصب نائب الأمين العام للجبهة الديمقراطية، لتبرير انشقاقه عن الجبهة الديمقراطية، والذي أثبت الواقع أن تلك المبررات لم تكن إلا حججا وذرائع واهية، لتبرير سلوكه السياسي الانهزامي لاحقاً والحفاظ على منجزات ومكتسبات شخصية، وتنفيذاً لرغبات وأجندات غير فلسطينية، وأن هذا الإنشقاق لم يضف أي شيء نوعي للساحة الفلسطينية، لا على صعيد البرامج الإجتماعية الديمقراطية ولا على صعيد البرنامج الوطني التحرري، بل على العكس من ذلك، فقد ساهم في إضعاف اليسار وتفتيته.

المهم أن أحمد وعدد من رفاقه اختاروا أن يكونوا أعضاء في هذا المولود الجديد الإتحاد الديمقراطي الفلسطيني"فدا"، لتأتي التطورات اللاحقة لتكشف لهم أنه شتان بين ما آمنوا به وبين ما يطرح ويترجم هذا المولود الجديد على الأرض، وأن الشعارات والبرامج المطروحة، لم تكن أكثر من فرقعات "وهوبرات" إعلامية.

وأضيف لخيبة أمل أحمد هذه ورفاقه خيبة أخرى، ألا وهي ما جلبه أوسلو على الحركة الأسيرة، من حالة واسعة من الإحباط واليأس وفقدان الثقة، حيث أن القيادة التي كان يراهنون عليها، تركتهم فريسة وتحت رحمة الشروط والإملاءات الإسرائيلية للإفراج عنهم، بل والأخطر من ذلك وزيادة وإمعاناً في إذلال المناضلين الأسرى، وكسر إرادتهم وتحطيم معنوياتهم، فإن من يفرج عنه من الأسرى وفق هذه الاتفاقيات، يلزم بالتوقيع على وثيقة يلتزم فيها بما يسمى عملية السلام، وأن لا يعود لممارسة "الإرهاب"، أي التخلي عن المقاومة والنضال، بل ووصف ذلك بالإرهاب.

والخيبات المتتالية والمتوالية تركت آثارها ليس عند أحمد فقط، بل عند الكثيرين من الأسرى، وأحمد أصبح غير مكترث بالعمل السياسي والتنظيمي، وتراه يقضي معظم وقته في كتابة الرسائل للأهل والأصدقاء، حتى أنني اعتقد أن أحمد، ربما يكون أكثر من يكتب ويتسلم رسائل..

والشيء المهم جداً أن أحمد يحتفظ بكل الرسائل التي ترد إليه، وكذلك الرسائل التي يرسلها، وهذه بحد ذاتها ثروة، يمكن لنا أن نستثمرها بعمل دراسات أو كتيبات أو كراسات حول رسائل الأسرى وعلاقاتهم الأسرية والإجتماعية.

وأحمد يقول إنه يحرص على التواصل مع الأهل والأصدقاء من أجل أن يشعر انه يعيش خارج المعتقل، وهو تربطه علاقات مميزه مع الأسرى من رفاق الجولان. ودفعته شدة وقوة هذه العلاقة إلى أن يقدم طلباً للانتقال من سجن عسقلان إلى سجن شطة، حيث يتواجد ويعتقل الرفاق الجولانيون.

وأحمد ليس بالإنسان المغلق، أو الذي يتحرج من مشاهدة مسلسلات أو برامج إجتماعية، يعتبرها المعتقلون تافهة أو سطحية، والتي يشاهدها العديد منهم سرا، مثل برنامج ستار أكاديمي، الذي كان أحمد حريصا على مشاهدته والتفاعل معه. وأذكر جيداً أنه كان من المتحمسين إلى درجة كبيرة لفتاة لبنانيه مشاركه في البرنامج اسمها مايا، للفوز بلقب ستار.. وكلما شاهد البرنامج، فإنه يقول لي "يا أبو شادي عشرين سنة ألا تكفي.. الله يحرم إللي حرمنا من الصبايا والحياة"، وهو من المواظبين على الرياضة في المعتقل، ولا يأبه في علاقاته الإعتقالية والحزبية للفئوية، حيث يحتفظ بأوسع العلاقات مع مختلف ألوان الطيف السياسي الفلسطيني الإعتقالي.

أما العفو شقير، فهو يقول كنا شعلة نضال، وكنا مستعدين أن ندفع أرواحنا في سبيل الحرية والإستقلال، وكنا ندفع ونعطي للثورة، وكان هناك طعم للكفاح والنضال، حيث لم يكن النضال مأجوراً..

وعندما دخل المال على النضال، خرب النضال والمناضلين، وعندما حاولت روابط القرى المرتبطة بالاحتلال عام 1979، أن تقوم بتنفيذ أعمال خدماتية في البلدة، والمقصود بالبلدة هنا، بلدة الزاوية مسقط رأس العفو، إحدى قرى محافظة سلفيت في الشمال الفلسطيني، من شق طرق وتزويد البلدة بشبكة مياه، فإنه قد جرى التصدي لهذه الروابط المأجورة والعميلة، من قبل الحركة الوطنية في البلدة ومن الأهالي.

والعفو يقول دخلنا السجن ونحن مشبعون بالتفاؤل ومتسلحون بالإرادة ومؤمنون بأن الثورة لن تترك أو تعدم أي وسيلة، من أجل تحريرنا من المعتقلات، ولن نمكث في المعتقل أكثر من خمس سنوات.. ولنكتشف لاحقاً أننا كنا نحلم فالمشوار طويل طويل، والخمسة أضحت خمسات، فها قد مضى على وجودنا في المعتقل ربع قرن، وها هي قضيتنا رهن للإملاءات والاشتراطات الإسرائيلية..

والعفو من خلال تفاعلاتي معه، صب جام غضبه على القيادات المنتفعة والمتسلقة في فتح، والتي كانت سبباً في هزيمتها وخسارتها الثقيلة في الإنتخابات التشريعية الأخيرة. ويضيف العفو أن القيادات الإعتقالية، لم تعمل بما فيه الكفاية من أجل أن يكون الأسرى جزءا من القرار السياسي الفلسطيني، والقيادة لا تهتم بملاحقة ومتابعة قضايا الأسرى واحتياجاتهم، وأنت ترى حجيج المحامين للمعتقلات، فقط عندما تتواجد فيه قيادات معتقلة، وكأن البقية من الأسرى المناضلين، مجرد كم لا قيمة له، رغم أن الكثيرين منهم ضحوا وناضلوا وقدموا أكثر من الكثير من هذه القيادات..

والعفو على الصعيد الإجتماعي، يفخر انه ترك خلفه زوجة مناضلة، استطاعت بكدها وتعبها أن تقيم مشغلاً للخياطة، مكنها من أن تعلم أبناءها في الجامعة، عدا عن أنه يعتاش منه عدد من عائلات البلدة، من خلال توفير فرص عمل لعدد من بنات ونساء القرية..

والعفو في إطار افتخاره واعتزازه بزوجته وأبنائه، فهو يحمل صوراً للبيت الذي بنته زوجته، ويقوم بعرض هذه الصور علينا، نحن أصدقاءه المقربين من المعتقلين، هذا البيت الذي يحلم العفو، أن يتحرر من الأسر، ويشاهده على أرض الواقع، وليس من خلال الصور..

والعفو كان يبدي تذمراً وامتعاضا، هو والعديد من الأسرى من تلفزيون فلسطين، ويرى أن من الواجب على التلفزيون أن يلتقي أهالي الأسرى ويجري مقابلات معهم، كي يشاهدوهم الأسرى على الشاشة، وخصوصاً الأسرى الممنوعين من الزيارة. وحتى هذا الجانب الإنساني، فإن المسألة تجري في الإطار الانتقائي، والعفو الذي يحن للأسرة والأولاد كثيراً، كان يحدثنا مطولاً عن أبنائه، مصباح الذي يدرس في جامعة النجاح والثاني الذي عمل داخل الخط الأخضر ليدير المشغل لاحقاً مع والدته. وليعذرني العفو، فأنا لا أتذكر الأسماء جيداً.

والعفو يعتب كثيراً على رفاق "البرش" والذين تحرروا من الأسر ولا يزورون عائلات رفاقهم وإخوانهم المعتقلين.

عميرة والعفو كانوا مناضلين أشداء ويتوقدون حماساً ونشاطاً وعطاء في مقتبل عمرهم. وفي السنوات العشر الأولى من اعتقالهم، لم تضعف هممهم وعزائمهم، ولم يندموا على ما قدموه من نضال وتضحيات، ولكنهم أصبحوا الآن يتحدثون بالكثير من الحزن والأسى والسخط، عما آل إليه الوضع الداخلي الفلسطيني، وهل من أجل المصالح الفئوية والمراكز والامتيازات لعلان أو فلان ضحوا وناضلوا؟ ولماذا تستغل قضيتهم فقط في القضايا الشعاراتية والخطب والمهرجانات"والهوبرات" الإعلامية والدعايات الإنتخابية، دون أن يترافق ذلك مع ترجمات حقيقية على الأرض؟..

التعليقات