من ذاكرة الأسر (23): الأسرى ومحاكم "ثلث المدة"../ راسم عبيدات

-

من ذاكرة الأسر (23): الأسرى ومحاكم
لعل أدق وصف لجهاز القضاء الإسرائيلي والمحاكم المتفرعة عنه، هو ما وصفها به أحمد سعدات، أمين عام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والذي تستمر مسرحية محاكمته رغم مرور ما يزيد عن عامين، حيث قال في مرافعته أمام تلك المحكمة في سجن "عوفر"إن جهازكم القضائي المتفرعة عنه هذه المحكمة وغيرها، هي أحد أدوات الاحتلال العسكري، وظيفته إضفاء الشرعية القانونية على جرائم الاحتلال وممارساته المتناقضة مع منطق ونصوص القانون الدولي وتشريع الاحتلال وتكريس مفاهيمه وفرضه بالقوة على شعبنا كجزء من فرض الرؤية الإسرائيلية لسبل إدارة الصراع وطبيعته، أو السير بمنطق القانون الدولي على رأسه بدلاً من قدميه لتسويق الشكل الأسوأ لإرهاب الدولة المنظمة كحالة دفاع عن النفس.

إذا هذا هو حال وحقيقة المؤسسة القضائية الإسرائيلية بشكل عام تجاه الشعب الفلسطيني عامة وأسراه خاصة، فالمحاكم في أغلبها هي صورية وشكلية، وتأتي في إطار وسياق توزيع الأدوار المختلفة بين طاقمها من قضاة ونيابة ومخابرات وشرطة، من أجل إضفاء الشرعية والديمقراطية على هذه المحاكم، فالقضاة والنيابة العامة، يحتكمون في أحكامهم ومرافعاتهم وتوجيه التهم، بالنظر لمصلحة دولتهم أولاً وأخيراً، وما تمرره وتحدده لهم المخابرات العامة من معلومات وسقف للأحكام يجب فرضها على الأسرى الفلسطينيين، وكم من أسير فلسطيني وهو في أقبية التحقيق أبلغه المحققون بفترة الحكم التي سيمكثها في السجون الإسرائيلية، وتأتي متطابقة مع ما يصدره القاضي أو القضاة من حكم عليه.

أما في سياق محاكم ثلث المدة ("الشيلش" بالعبرية) فهذا القانون كان خاصا بالمعتقلين اليهود والمدنيين، ولكن في إطار إخراج القانون من سياقه وإطاره العنصري، ولإضفاء الجانب القانوني والديمقراطي عليه، سمح بتطبيقه على الأسرى الفلسطينيين الأمنيين.

والقانون حسب ما ينص عليه، أن المعتقل إذا أمضى فترة ثلثي مدة حكمه، وكان سلوكه في المعتقل جيدا، ولم يرتكب أية مخالفات لها علاقة بخرق القانون أو التعليمات والأوامر المعمول بها في السجن، يتم إطلاق سراحه، مع فرض قيود عليه في الخارج في أغلب الأحيان، والحاسم هنا يكون تقرير إدارة السجن ومديرية السجون.

أما فيما يتعلق بالأسرى الفلسطينيين السياسيين، فعدا أن القانون جاء في إطاره الشكلي والديكوري، فالمعروف أنه منذ بداية الاحتلال وحتى اللحظة الراهنة، دخل فيها السجون الإسرائيلية ما يزيد عن 750 ألف فلسطيني، فعدد الأسرى السياسيين الذين استفادوا من هذا القانون، لم يزيدوا عن 150 أسيرا، والتي تكون التهم المنسوبة لهم وفق المفهوم الإسرائيلي، أقرب الى ما يسمى بالإخلال بالنظام العام، منه الى قضايا لها علاقة بالانتماء لفصائل المقاومة الفلسطينية، والقيام بأنشطة وطنية.

والمضحك المبكي هنا في هذه المحاكم، فبدون شك أن العامل الحاسم والهاجس الأول لإسرائيل هو الأمن، فمحكمة ثلث المدة يتم إبلاغ الأسير الفلسطيني فيها في نفس اليوم، أو في مساء اليوم السابق للمحكمة، ولا يجري فيها طبعاً إعطاء الأسير فرصة لإبلاغ محاميه أو تعيين محام.

وكثير من الأسرى لمعرفتهم المسبقة بأن ذلك عمل روتيني وشكلي، لا يقومون بتوكيل محامين، فيوفرون على أنفسهم الأموال وعناء رحلة"القبر" في سيارات "البوسطة"، والتي يعتبر السفر فيها رحلة عذاب حقيقية وصفتها في مقالة سابقة.

وبعض الأسرى يأخذون الأمور من "قصيرها "، فيرفضون الذهاب الى هذه المحاكم، لكون النتيجة معروفة سلفاً، وفقط تضفي نوعا من الشرعية والديمقراطية على هذه المحاكم. والأسرى السياسيون الذين يذهبون الى هذه المحاكم، يجدون أنفسهم أمام لجنة تسمى لجنة الثلث تمثل فيها مختلف الأجهزة، من أمن وسجون ومخابرات وممثل الجمهور، والعامل الحاسم هنا هو ممثل المخابرات الإسرائيلية"الشاباك" فهناك نص جاهز وموجود على جهاز الكمبيوتر، يقوم بقراءته يسرد فيه التهم التي حكم عليها الأسير الفلسطيني، مع مثال موجود في كل البروتكولات التي تسلم للمعتقين الأمنيين، عقب انتهاء الجلسة الصورية والتي لا تتجاوز عشر دقائق في حدها الأعلى، وينص بأن "الشاباك يرفض إطلاق سراحك، لأن في إطلاق سراحك، خطرا على الجمهور العام وامن دولة إسرائيل"، وأية تقارير فيما يتعلق بوجودك في السجن، ليست ذات قيمة أو معنى، مع إعطاء مثال دائم لمناضل أطلق سراحه ضمن ثلث المدة، وعاد لمزاولة نشاطه.

وفي العادة لا تكون لغة مشتركة بين المتهم واللجنة، حيث أن المحكمة لا تحضر مترجما بين الطرفين، وتريد انجاز أكبر عدد من الملفات، والتي جميعها مرفوضة أو يتم تأجيل البت فيها إذا ما أراد الأسير تعيين محام للترافع عنه، مع إعطاء وقت أكبر لملفات المعتقلين الجنائيين، كون تقرير إدارة السجن عاملا ذا قيمة في القرار.

إذا والقول لسعدات هنا، والذي أدرك ويدرك بخبرته ومعرفته الطويلة حقيقة هذا الجهاز، بالقول إن وظيفته إضفاء الشرعية القانونية على جرائم الاحتلال وممارساته المتناقضة مع منطق ونصوص القانون الدولي، وضمن هذه الرؤيا والفهم، فإنه رفض التعاطي بأي شكل من الأشكال مع المحكمة الإسرائيلية المستمرة مهزلة انعقادها لمحاكمته حتى الآن، من حيث الجوانب والشكلية والإجرائية والعملية، برفض الوقوف للقضاة، أو الرد على أسئلة القضاة والادعاء العام وما يقوله الشهود، وبالتالي فإنني أرى أيضاً من تجاربي وكذلك من تجارب غيري من المعتقلين،ا نه وعلى ضوء طبيعة هذه المحاكم ودورها، وعنصريتها والمعرفة المسبقة بنتائجها، والتي لن تخرج عن إطار توصية المخابرات الإسرائيلية، وفقط حضورها يضفي عليها الشرعية والديمقراطية، وفي ضوء الرقم الذي طرحته من عدد الأسرى الذين استفادوا من هذه المحاكم، محاكم ثلث المدة على مدار أربعين عاما لم يتجاوز 150 شخصا، فإنني أرى أنه يتوجب على الأسرى الفلسطينيين الأمنيين،أن يأخذوا موقفاً جماعياً بمقاطعة هذه المحاكم، وبما يفضح ويعري الدور الذي تقوم به، بالإضافة الى أن هذه المحاكم، فقط تضيف معاناة إضافية الى معاناة الأسير الفلسطيني، والذي سيضطر لتحمل رحلة العذاب في "البوسطة" وما يرافق ذلك من إذلال ومهانة من طاقم "البوسطة" المربى والمتمرس على الحقد والعنصرية وإذلال وقمع الأسرى الفلسطينيين.

وفي إطار تجربتي الشخصية، وإزاء إصرار إدارة السجن على أن أذهب لمحكمة ثلث المدة في مدينة بئر السبع من سجن عسقلان، رغم رفضي واستعدادي للتنازل عن المحكمة، وأذكر أن المحكمة كانت في شهر تموز، حيث الحر القائظ، وتصادف ذلك اليوم مع أسر حزب الله للجنديين الإسرائيليين، فعدا عن نظرات الحقد وعبارات المهانة التي كانت تفوح من طاقم "البوسطة"، فقد تم حشرنا مع أسرى جنائيين يهود في نفس سيارة "البوسطة"، ولكن في قفص يتسع لأربعة أسرى، واستمر وجودنا في هذا القفص لمدة زادت عن ساعة "والبوسطة"، متوقفة أمام سجن السبع، وكاد أن يصبح مصيرنا كمصير جماعة الشهيد غسان كنفاني في رائعته رجال في الشمس، لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟ ورغم دقنا الشديد والمتواصل، إلا أن من تربوا وتمرسوا على الحقد والعنصرية، كانوا يتلذذون بصراخنا، ناهيك عن شتائمهم وحقدهم العنصري. ومن هنا فإنه للأسباب التي ذكرت وما طرح من حجج ومبررات، يتوجب على الحركة الأسيرة أن تفكر جدياً بمقاطعة هذه المحاكم.

التعليقات