شاهدة على النكبة: الحاجة "أم أحمد" من كوكب أبو الهيجا

بعض الكبار منهم ما زالوا بيننا، ذاكرة حية تتعزز بين الأجيال لتفند مقولة "الكبار يموتون والصغار ينسون"، قلائل هم الشاهدون الأحياء على النكبة بفصولها المأساوية التي لم تنته بعد، الحاجة أمينة عبد الفتاح 86 عاما لا زالت تحمل جرحها العميق والأسى المجبول بالحسرة الذي يحمل في طياته هواجس الاقتلاع والسلب والتشريد والترهيب، وأكثرها حكاية استشهاد شقيقها محمد "أبو خالد" وتلك المشاهد التي لاحقتها كوابيس لاتنتهي على مر السنوات ال65 منذ ريعان صباها.❝

شاهدة على النكبة: الحاجة

بعض الكبار منهم ما زالوا بيننا، ذاكرة حية تتعزز بين الأجيال لتفند مقولة "الكبار يموتون والصغار ينسون"، قلائل هم  الشاهدون  الأحياء على النكبة بفصولها المأساوية التي لم تنته بعد، الحاجة أمينة عبد الفتاح 86 عاما لا زالت تحمل جرحها العميق والأسى المجبول بالحسرة  الذي يحمل في طياته هواجس الاقتلاع والسلب والتشريد والترهيب، وأكثرها حكاية استشهاد شقيقها محمد "أبو خالد" وتلك المشاهد التي لاحقتها كوابيس لاتنتهي على مر السنوات الـ65 منذ ريعان صباها.

 

 

التقيناها  بمنزلها في كوكب أبو الهيجاء وقد حفرت سنين الأسى خارطة الوطن جراحًا عميقة على وجنتيها كما في صدرها، لكنها لا تخلو من السكينة وملامح الرضى عن النفس والوقار بصمود بلدتها ومقاومة شبابها ونسائها لمنع الاقتلاع والتهجير.

سردت الحاجة "أم أحمد" ما أسعفت بها ذاكرتها مشاهد من التنكيل والعدوان والاستشهاد والمقاومة وتقول:"عندما أتذكر العام ال48، سنة النكبة، أول ما يظهر من هذا الشريط هي صورة شقيقي الشهيد "محمد" أبو خالد" الذي أحببناه وتعلقنا به جميعا، ولا تفارقني صورته حتى هذه اللحظة. صحيح أنه مفخرة بشجاعته ودفاعه هو والشباب عن البلدة لكنه ترك حسرة  وغصة خصوصًا أنني تابعت نزفه من أرض المعركة الى كوكب ومنها إلى سخنين ومن ثم إلى ترشيحا ومنها الى لبنان حيث استشهد هناك.

سألناها عن المقاومة وعن إدراك الناس لما دار في حينه وحدث من حولهم،  تنهدت الحاجة "أم أحمد" تنهيدة عميقة وتعثرت الحروف على لسانها وكأنها تعيش الآن لحظات المشهد الحي، واستذكرت مشاهد من الاقتحام والمقاومة بالأدوات البدائية مقابل ترسانات متطورة، وسقوط بلدات وتهجير أهاليها الى بلدات مجاورة وخارج فلسطين.

وتابعت: "بداية لم يكن إلا القلائل يدركون ما يحدث، إلا أننا علمنا أن  جيش اليهود يقتحم البلدات العربية ويقوم بالاعتداء وقتل الشبان وسمعنا عن المذابح التي يرتكبونها بحق العرب مما أثار الخوف والرعب في نفوس الناس، وكنا نعلم أن ترويع الناس حمل الكثيرين على مغادرة  قراهم والهروب الى لبنان أملا بالعودة بعد أن تستقر الأوضاع، دون أن يعوا ماالذي يدور تماما بأن هناك تخطيطا للسيطرة على فلسطين وإقامة دولة لليهود، وأن التهجير والترهيب والمذابح كانت مخططة لإخلاء البلاد من سكانها الاصليين".

وحول اقتحام بلدتها كوكب وصمودها قالت: "ربما سقطت كوكب آخر البلدات لأنها كانت عصية على العسكر أولا بسبب موقعها الجبلي وانعدام الطرق اليها وكذلك لجوء ثوار مقاومين من قرى مجاورة إليها وشبانها الذين عرفوا بشجاعتهم ووحدتهم، وأذكر جيدا أن اقتحام البلدة من قبل جيش اليهود جاء بعد أن سقطت ميعار وطمرة والرويس والدامون وغيرها من القرى المحيطة، حيث اقتحم اليهود البلدة من الجهة الشمالية الغربية وواجههم المقاومون من أجل منعهم من دخول البلدة، واستعدوا لهم  في جبل "الصنيبعة" وهي تلة تقع بين طمرة وكوكب ابو الهيجاء، وهناك دارت معارك شرسة عرفت بمعارك "الصنيبعة" سقط فيها أخي شهيدا مع آخرين.

الشهيد ينزف حيا حتى صور وبيروت..
الحاجة "أمينة" تتنهد مرة أخرى وتلملم شظايا قلبها:"يا حسرة ترك وراءه طفلين مثل الصيصان فاطمة وخالد"، وتتابع..استمرت معارك عنيفة "بالصنيبعة" والنسوة كن يمددن الثوار بالماء والطعام، إلا أنه في صباح اليوم التالي أخبرنا جارنا "احمد القاسم" الذي وصل الى البلدة صباح ذاك اليوم بأن أخي محمد قد أصيب برصاص اليهود، عندها وعلى الفور هرعنا أنا وزوجته باتجاه أرض المعركة في "الصنيبعة" التي تبعد قرابة الـ3-4 كم عن البلدة في طرق وعرية، وعند اقترابنا من المكان تعرضنا لإطلاق رصاص كثيف فغيرنا الاتجاه نحو وادي كابول في المنطقة المعروفة بـ "برك عبيد"، وهناك شاهدنا أخي محمد محمولا على أكتاف أربعة رجال مستخدمين حمالة من الخشب، ويسيرون باتجاه كوكب.

وتستذكر الحاجة اللحظات الأكثر حسرة، وتقول: "أذكر، وكأن ذلك يحصل الآن، عندما شاهدنا  محمد وهو محمول على الأكتاف وينزف من آثار الإصابة بالرصاصة التي اخترقت ظهره، ويلوّح لنا بيديه الإثنتين. تابعنا المسير الى بيتنا في كوكب ومن هناك سار به الرجال على الأقدام الى مدرسة سخنين حيث تمركز جيش الإنقاذ، وهناك تم نقله  برفقة والدي عبد الفتاح وأخي أحمد  الى ترشيحا، ونحن بقينا في سخنين. وفي اليوم التالي توجهنا أنا وزوجته وهي في الشهر السادس من حملها الى مجد الكروم سيرا على الأقدام، حيث تواجد تجمع آخر لجيش الإنقاذ وأخبرناهم بأننا نريد اللحاق بأخي المصاب إلى ترشيحا، فقاموا بنقلنا بسيارة "المؤن" حتى قرية الرامة وسلمونا هناك لأحد الضباط العرب، وطلبنا منه أن ينقلنا الى ترشيحا بعدما أخبرناه بحكاية أخي الجريح، إلا أنه أجابنا بأنه شاهد محمد ورفاقه حين مروا من القرية، وصعقنا حين أخبرنا أن محمد استشهد 

وقال لنا إنه ليس لديه وسيلة لنقلنا إلى ترشيحا. عدنا أدراجنا ونحن ننتحب ونندب نحو وادي سلامة وعلمنا لاحقا انه تم نقل محمد من ترشيحا الى صور في لبنان ثم الى مستشفى في بيروت حيث أعلن عن استشهاده وهوينزف. كما استشهد بعد أسبوع وفي نفس الموقع "الصنيبعة" كل من صالح عبيد،   ومحمد محمود خلف، ومحمود ابو العدس، وبعد عملية الاستشهاد ترك البعض القليل البلدة الى لبنان لكن البلد صمدت.


الشيخ علي بعد الصمود  يفاوض من اجل البقاء..الشيخ علي يشهد له جيله بمرونته وحضوره وأسلوبه المتميز بالحديث كما شهد له الكثيرون بدوره في بقاء الأهالي وصمودهم،  ود أب على حث الأهالي على عدم الخروج وترك البلد. الحاجة "أمينة" تؤكد، وتقول: "تقدّم جيش اليهود من الجهة الغربية للبلدة واقتحموها وتحدّث أحد الضباط مع الشيخ علي وقال  له نحن نعلم أن جيش الانقاذ والمقاومين كانوا في البلد، وطالبه بجمع السلاح بالقول، سلموا تسلموا ، وعندما أخبره الشيخ علي بانه لا يوجد سلاح بدأوا يختارون خيرة الشباب والرجال  في طابور بساحة بيتنا ويدخلوهم الى غرفة ويستجوبونهم ونحن نرتعد خوف لأننا أول مرة نشاهد اليهود وكنا متاكدين بأنهم سيقومون بقتلهم. أذكرصراخ حسن الشيخ عبد، وصالح أحمد الصالح الذين تعرضوا للضرب ويبثون الخوف والرعب بين الصغار والكبار و يشتمون النبي محمد، وكذلك أذكر أن أحدهم أمسك حسن العلي من لحيته وقال له نريد من لحيتك السلاح، إلا أن الشيخ علي صرخ وقال للضابط أمهلني "يا مستر" ساعة واحدة، إلا أن الضابط رفض طلبه، ثم طالبه بمهلة نصف ساعة ورفض إلى حين توصلوا لاتفاق معين، في تلك الأثناء لم أعد أتحمل المشهد فطلبت من أمي ان تخرجني من البيت وخرجنا من الباب الخلفي لبيت "نايف لحسين" المجاور فوجدنا هناك تجمع للناس بعدها جاء الشيخ علي وأخبرنا بان الجيش انسحب من البلد مقابل اتفاق، حيث قام الشيخ علي بجمع تسع قطع سلاح ونقلها على "البغل" الى مركز الجيش في طمرة ، وهكذا قاومت البلدة وصمدت وذلك بفضل لله والمقاومين وتؤكد الحاجة أن كوكب بغالبية رجالها ونسائها قاومت وساهمت في البقاء والصمود وعلى الجيل أن يعرف ويفهم الحكاية.

التعليقات