من ذاكرة لا تشيخ: أنا..لاجئ من قرية سمخ../ إبراهيم مالك

-

من ذاكرة لا تشيخ: أنا..لاجئ  من قرية سمخ../ إبراهيم مالك


لا أقول ذلك مفاخرة، انطلاقا من عصبويّة قرويّة ضيقة، تحبس عقل المرء وما يمثّله من وعي ٍ خلفَ سِياجات متحجرة، بل لتسجيل حقيقة انتماء،انتماء الى مكان، له مكانة قدسية في نفسي، وإن حرمت دفء سمائه وعبق ترابه وعذوبة ماء بحيرته وكنت لا أزال، يومها،غض الإهاب، لا أعي الكثير مما يدور حولي من طوفان طاغٍ وعاصفة هوجاء.
ففيها، في قرية سمخ، وُلِدْتُ.

أتيت إلى الحياة، سنوات قليلة، قبل الهجيج، عشت فيها مع أهلي في حيفا، حيث كان أبي، حسين ابراهيم مالك، يعمل موظفا في سكة الحديد البريطانية.
كبُرْتُ في كفرياسيف وكبُرَتْ معي النكبة وتدافعَتْ، تطِلُّ برؤوسها، خيبات الأمل المتكررة، أو ما أسماه بعضنا، خيانات هذا الزمن، وعنى خيانات بعض ناسه.

.....

كنا، أبي وزوجتاه شقيقتي، أخواي وأنا، نسكن،هانئين، حينها، في بيت مستأجر يقع قريبا من درج رئيس البلدية الأسبق، حسن شكري، في موقع يتوسّط حيّ المحطّة العربي وحيّ الهدار اليهودي في وسط الكرمل، في مدينة حيفا.

فأنا ولدتُ يوم 26 أيار1942في سمخ، إحدى قرى غور الأردن المطلة على الشاطىء الجنوبي لبحيرة طبريا، لكن طفولتي المبكرة قضيتها في حيفا.

وقد شاءت الأحداث الدموية في عام 1948 أن تسقط سمخ في أيدي القوّات اليهودية المهاجمة أياما قليلة قبل سقوط حيفا. فهُجّرنا من حيفا، عبر البحر، إلى عكا، شمالا، ومن ثم إلى الجليل، شرقا، مرورا بالمكر فالبعنة ويركا، وصولا إلى كفرياسيف، حيثُ قرّر والدي البقاء قريبا من أصدقاء، يعرفهم من العمل في حيفا، مثل طيب الذكر، المرحوم أبي خالد–حنا دلّي.

لم نعد من يومها إلى قريتنا وبيتنا في سمخ ولم نبقَ في حيفا، مُنِعْنا من العودة بالقوة وبالإخافة المُميتة، بمختلف القوانين والوسائل، أبسطها الحكم العسكري. بقينا لاجئين وغرباء في كفرياسيف، يعيش والدي حلمين ومأساتين في آن، غرسهما فينا، نحن أولاده. كان موزع المشاعر بينهما، فلم يكن قادرا على حسم ما يريد ويطمح، فكلاهما حلو وموجع، حلم الحنين إلى ما كان وطنه، الجزائر، (الذي بقي يعيش مأساة الرحيل عنها بعد الاحتلال الفرنسي الإستعماري لها)وحلم العودة إلى ما صارت وطنه، مسقط رأس زوجته الثانية، التي هي أمّي، حلم قضاء أيامه الأخيرة المتبقّية من حياته، أيام الشيخوخة، بين أهلها وقريبا من شقيقته الثانية، أم محمّد خديجة مالك مغربي، التي كانت زوّجت إلى عم أمي (أبو محمّد صالح حُسين مغربي) في قرية سمخ.

.....

في طرقات سمخ المتربة درجتُ طفلا صغيرا، طفلا راح يحبو ويتعلّم خطواته الأولى.
سمخ مسقط رأسي، وان أكن عرفت في طفولتي الواعية، قليلا، مدينة حيفا. كبرت وأتممت دراستي الابتدائية والثانوية فيما صار وطني الثاني:
كفرياسيف، التي أحسنت تربيتي، كما أظن، ورعت شبابي، وأسهم مناخ ناسها التنويري العلماني والتقدمي في بلورة بدايات وعيي الاجتماعي والإنساني، لكنها لم تنسني حبّي وحنيني إلى وطني الأول، الوطن الأصغر:
سمخ، بل زادتني تعلّقا بهذا الانتماء وألهبت مشاعري الوطنية، منذ الطفولة، فكان العيش فيها، رغم جماليّاته واقعا "قسريا" فرضه الهجيج والترحيل القسري عن الوطن. ولكن مكنني البقاء فيها من البقاء في وطني الأكبر، كانت لي، لأهلي ولكثيرين غيري، ملاذا آمنا في السنوات الأولى للعاصفة القاتلة، التي انتابت الوطن الأكبر، فلسطين، فيغمرني شعور قوي، حتّى يومنا، أنني سأظلّ مدينا لكفرياسيف وناسها كثيرا.
لكن حقيقة ً، بقيت فيها غريبا أحن إلى سمخ، رغم احترامي الشديد وكبير تقديري للكثيرين من أهلها الطيّبين.

.....

وكم يبدو هزيلا، ضالا" ومحزنا"، بل مكلفا الاعتقاد بأن الزمن كفيل بأن يُنسي الناس أوطانهم الصغيرة أو الكبيرة، وأنّ دورة الحياة القاسية بخاتمتها، الموت الجسدي، كفيلة بتحقيق النسيان وتحقيق ما لم تفعله القوّة المنفلتة.

فانتمائي إلى مسقط رأسي ليس مكتسبا بفعل منطق القوة أو الشراء المخادع أو السلب القسري، بشرعة القانون، الذي سنّ خصيصا لشرعنة السلب، أو حكايا عن وعد هي أقرب إلى الأساطير، لأنسى، إنمما اكتسبته بفعل هذه الصلة، عبر حبل السرّة، التي تربطني برحمها.
حقّي في سمخ لا يبطله تقادم الزمن ولا حتّى موتي ولا هرب العاجز باسم العقلانية.

***

فإسرائيل لم تصر، يوما، وطني الذي أشعر بالانتماء العفوي أو الواعي له، بل الواقع السياسي، الذي قبلت به واعيا ومهزوما، انطلاقا من القبول بالواقع المفروض، فلم تكن خياري الواعي، بل المفروض قسرا.

واقعيتي السياسية هي التي حكمت ولا تزال تحكم تصرفي وتفرض اعترافي بالمواطنة المفروضة علي.
إسرائيل هي الدولة، بالمفهوم السياسي المتغيّر، التي فرضت نفسها علي. أصبحتُ مُواطنها رغما عنّي، فلم تكن وليدة طموحي الإنساني، الثقافي والسياسي، لم تكن وليدة تطوّري التاريخي.

أحاول اغتصاب عقلي، فأتصوّرها وطنا، فهي تقوم على أرض أعتبرها وطني، لكن ممارساتها اليومية التمييزيّة، ذات النزعة العدوانيّة على كل ما أمثّله من حلم وطموحات، شخصيّة وإنسانيّة عامة، تجعل ذلك مستحيلا. فكيف يمكن لعقلي أن ينتمي، طوعا وخيارا، لدولة يعلن قادتها، ليل نهار، أنّ همهم وغاية عملهم هو ضمان نزع أكثر ما يمكن من أرض عربية وبقاء أقلّ ما يمكن من ناسها فوقها، وهم يعملون بكل وسيلة متوفّرة لتكريس واقع يعتبر شعبي، أفرادا ومجتمعين، غير موجودين.

وما يفرحني حقيقة، رغم الانكسارات المتتالية والمريرة، أنني حين انظر إلى ستين عاما من الهجيج القسري، أرى الشيء الأساس والثابت في منطقتنا، وهو أنّ إسرائيل – وان كسبت ظاهريا بعض النخب الحاكمة في منطقتنا ومنها فلسطينية – وهو ما تسعى إليه اليوم لاهثة ومحاولة فرض الاعتراف بها- بدولتها العدوانية والمتغطرسة- بضغط من حكام الولايات المتحدة وتخاذل مذل من بعض القادة العرب– لكنها لم ولن تنجح في إيجاد أي مرتكز، ثابت ذي مصداقية وله صفة البقاء، يعترف بوجودها وبغطرستها.

والمفرح: لم تقم ولا أحسب أنها ستقوم في المنطقة شريحة اجتماعية، ذات وزن ومصداقية اجتماعية وشعبية، تعترف طوعا وقناعة بشرعيّة هذا الوجود.

أدرك أنّ إسرائيل، كدولة، هي التي تتنكّر لوجودي فوق أرضي. وحتى لو قبلتُ التعايش المسؤول والقبول بوجودها، فانّها ستعمل جاهدة للحيلولة دون ذلك.
وأعجب من كلّ أولئك، الذين يصرّون على قلب المعادلة في التعامل معي، فيريدونني الاعتراف بنكران وجودي ويتجاهلون، بغباء قاتل، أن إسرائيل هي التي تتنكّر لحقيقة وجودي الجمعي، لثقافتي، حقوقي الإنسانية ولتاريخي.
فأنا لا أرى الحكمة والواقعية والمرونة في التسليم باغتصابي، ماضيا وحاضرا ومستقبلا.

أفهم من يطلبون مني بحرص ومسؤولية وغيرة صادقة أن أبحث، بجدّية، عن فرصة تمكنني والإنسان اليهودي في هذه البلاد من العيش الكريم والمحترم، لكنّ هذه الدولة تمنع عني وعن الإنسان، الذي تدّعي تمثيله، كل فرصة للعيش المشترك، القائم على الندِّية والمواطنة الحقة والقبول بالآخر وبحقوقه.

وأنا لا أستطيع القبول بالفصل الموهوم بين الدولة كمؤسسات وبين النظام الحاكم. فقد علمتني التجربة أنّ هذه المؤسسات، كالكنيست والشرطة والقضاء، تضفي، تشرْعِنُ وتحرس ما هو في الواقع "شرعية" أمر اغتصابي. وقد أسقطت نفسها في كل امتحان تعاملت معي من خلاله. ولا يغيّر في هذه الحقيقة أن أكثريّة الناس اليهود العاديين، الذين قبلتُ بالتفاهم والتعايش النديّ والمحترم معهم، يؤيّدون بغباء قاتل ممارسات هذه الدولة!
فكيف أعترف طوعا بدولة ترى فيّ عائقا بشريا لامتداداتها التوسعية وسعادتها.

ما من مصلحة إنسانية، حقيقية وكريمة تربطني بهذه الدولة وإن كنت بقيت مواطنا فيها، فلأنَّ هنا بيتي، هنا ولدت وهنا كبرت وهنا كانت مراحات صباي وشقونتي وعشقي الأول، وهنا أرضي وناسي وحلمي بعالم آخر أطمح أن أعيش فيه وهنا أحب أن أموت وأن أدفن.

ولأجل كلِّ ما ذكرت رضيت البقاء، تحملت الألم والمهانة، صبرت وصابرت، لأن بقائي (أعني بقاء هذا الجزء من شعبي) خير دليل على عمق جذور من أبعدوا من هنا قسرا ليبدأوا حياة الشتات وشرط عودة المهجرين من الأبناء والأحفاد في غد ٍقريب.

لا أستبعد احتمال أن يصير الدمج بين اليهود والعرب في المستقبل غير المرئي حلاّ للمشكلة، لكن مثل هذا الدمج، كيلا يصير هزيمة، إلحاقا وإذابة، يفترض أن تتوفر فيه الندية الحقيقية والاحترام المتبادل، احترام الآخر والذات.

.....

قد تفرض إسرائيل نفسها، وبدعم العالم "المتحضر" أو لامبالاته، على النخب الحاكمة وغير الحاكمة، فلسطينيّة وعربيّة، لبعض الوقت، لكنّها لن تحظى بقبول الأكثرية، أكثريّة شعوب المنطقة ومن ضمنها الشعب العربي الفلسطيني، على المدى البعيد.

فالدول، علمت التجربة الحياتية، تدول وتزول، ولن يبقى إلاّ الناس، من يحسن التفاهم مع جيرانه. ولن يفلح طويلا من يحسب أنه يستطيع العيش على حراب.

من الواضح أنّ إسرائيل اليوم تحاول تكريس تفوّقها النوعي على ما حولها من كم، لكن هذا الكم، رغم حقيقة خموله ومحاولات تمزيقه وبعثرته، وهو ما نشهده اليوم في سوريا ولبنان وقبلها في العراق وفي فلسطين، سيتغيّر وضعه ذات يوم، آت لا محالة، ويتغيّر واقع منطقتنا، سيتبد ّل وعي ناسه، كل ناسه من مختلف الأعراق والألوان، وان يكن بعد آلام معاناة وجراحات موجعة لطرفي الصراع، كنت كم أتمنّى لو أن شعوبنا، عربا وآخرين، تستطيع تفاديها.

ولكن كم يخطئ الإسرائيليون كثيرا، حين يندفعون تجاوبا وانسياقا مع من يريدون دفعهم واندفاعهم المميت، متناسين حكمة الحياة: "أن الجزيرة تخطئ كثيرا، حين تناصب المحيط العداء".

قامت إسرائيل في غفلة من الزمن وتوطدت قوتها العسكرية والاقتصادية في زمن كان حكام البلدان العربية،ِ كما هو أكثرهم اليوم، ناسا عاجزين، أشغلتهم عما ينبني أمام أعينهم الغافلة تبعيتهم المذلة للأجنبي الطامع بما في بطن أرضهم وكانوا ناسا بسطاء مثل شعوبهم. ولم تختلف أكثريّة القيادات الفلسطينية المختلفة عن الحكام العرب، من حيث التخلف والتبعية والعجز وضعف الرؤية.

ولكن سينشأ جيل يعي حقيقة ما حدث وحقيقة ما هو حاصل من غبن تاريخي ويتعامل مع هذا الواقع، مدركا لضرورة تغييره أو رفع بعض مظالمه، إن صحَّ اعتبار ما حدث مظالم فقط.

لئن كان أبي مثّل جيل الهزيمة، أو ما وصفناه بالنكبة والهجيج، ومثلتُ جيلا لم يحسن إدارة الصراع، رفضتُ نتائج الهزيمة، لكنني لم أفلح في إيجاد حل معقول وممكن لواقعي، يأخذ في الحسبان المصالح الحياتية للإنسان العربي–الضحية- والإنسان العادي اليهودي المغرّر به، فانّ جيلا سيولد لن يقبل بالغبن الحالي.

.....

إسرائيل، كدولة، هي في الحقيقة أكبر عملية سطو، استهدفت الإنسان وما يملك واستهدفت الأرض في العصر الحديث. وقد تمّت بتواطؤ عالمي وعربي ومستفيدة من تخلف مريع للإنسان الفلسطيني ذاته. فلم يكن هذا الإنسان قادرا ومهيّا، من حيث الوعي أو إمكانيّات الاستيعاب الاقتصاديّة، ولم تتوفّر له القيادات السياسية المهيأة لدرء مثل هذا السطو العنيف وتقديم خيار وبديل مقنع وآمن لمن اقتيد، بحكم الظروف وغيرها، وجيء به، بمختلف الوسائل والتبريرات إلى البلاد، التي كان ناسي تسكنها. فلم يكن الفلسطينيون مجتمعا متكاملا، متلاحما وموحّدا، يمكّنه وضعه من الدفاع عن نفسه.

وكان فوق كل هذا شعبا مستعمرا، تحكمه قوى أجنبيّة، طامعة ومتغطرسة، كل همّها نهب ما كان لديه والاستفادة من بلاده كمنصّة انطلاق لمزيد من التوسّع والهيمنة، وخلق المقدّمات الكفيلة بنشوء حكم مرتبط بها، من ناس غير ناسه وغير ناسي.

لكنني، وأنا أعصر ذاكرتي وعقلي لأفهم حقيقة ما حدث وما زال يحدث، أجد نفسي مسائلة نفسي: هل يسوّغ التخلّف قتل المتخلف أو نهبه؟ وأيّ منطق هو هذا الذي يسوّغ ويُجيز معاقبة الأبناء بجريرة أخطاء، يُزعَمُ وقوعُها، ارتكبها الآباء والأجداد؟ أو بسبب "عاهة" اجتماعية كانت فيهم؟

.....

أحاول جاهدا فهم ما حدث في عام 1948، فلا يستطيع عقلي الصغير تسويغ ما جرى. حقيقة، انتصر الجيش اليهودي المعد جيدا لتلك الحرب، وانهزم الناس البسطاء والفقراء، فيما كان سيصبح مدنا وفي الريف، وصدرت أوامر الانسحاب والتسليم لمن قيل إنه جاء يدافع عن البلاد، فأتقن تسليمها. وأسفرت "الحرب"، أو الأصح القول حرب الترحيل المخطط والقسري، عن هجيج فظيع لناس كثيرين من ناسي، وهدمت أبنية كثيرة. وهو ما يرافق، عادة وللأسف، الحروب التي عرفها التاريخ الإنساني المكتوب، لكن ما أسفر عنه انتصار القوات اليهودية الغازية أمر فظيع، مريع وفريد في التاريخ الإنساني، القديم والحديث. فقد جرت العادة في الحروب أن يُجلى ناس كثيرون هرباً وطلبا للنجاة من أوارها ومن بريق أسلحتها، لكن حين تهدأ الحرب ويستقر السلم، يعود من يرغب إلى بيوته وأراضيه في ظل الواقع الجديد الذي فرضته الحرب.

أما الدولة الجديدة، إسرائيل، التي قامت في أعقاب هذا القتال، الذي كان في جوهره من طرف واحد، فأخذت ترسم مستقبلها وخططها على منع من كانوا أصحاب الأرض الأصليين، منعهم بالقوة المسلحة من العودة وتدّعي أن احتلالها اكتسب شرعية من بطون أقدام الجنود المندفعين خلف الهاربين من موتهم، "فحيث تصل بطون أقدامكم يكن تخمكم"،كما ورد في الأساطير التوراتية الأقرب إلى الخرافات.

ألقوّة لا تكسب شرعيّة، حتى لو اعترف المهزوم بها. والاحتلال الجديد (حزيران1967) لا يكسب الاحتلال القديم أية شرعية.

وأنا حين أقول ذلك، فإنني أميّز جيّدا بين الدولة، كواقع سياسي، كأداة قهر في الحقيقة، وبين الإنسان اليهودي العادي، الذي كم ترقبتُ أن يفتح عينيه واسعا على حقيقة ما ارتكب هو شخصيا وما ارتكب باسمه وصمته من موبقات وجرائم ونشرع كلانا، هو وأنا، نبحث عن حلّ ممكن، لا أقول حلا عادلا فالعدالة تفترض عدم تواجده في هذا الوطن، حل معقول، عمليّ ومنصف قليلا ونسبيا له ولي، للخروج ممّا نحن فيه، من الواقع اليومي الذي نعيشه، بكل محنه وقساوته. وان كنت أدرك أنّ الكثيرين من ناس الدولة مضلّلون ومسيّرون، إلى ذبحهم وذبح الآخرين معهم، بقناعات دينية، هي أقرب إلى الأساطير وأنّ هذه البلاد تمثل وعدا ربّانيا، أعطي لهم، لأجدادهم قبل آلاف السنين، وأنّها كانت يبابا ولم تكن، ذات يوم مسكونة بأهلها، ناسي.

***

أسائل نفسي أحيانا:
أحقا لا يعي القاطنون في سمخ وغيرها أنّ هذه أرض مسلوبة؟ و أنّ سكانها الأصليين، أولادهم وأحفادهم، يعيشون في الشتات القسري، المذلّ ويحلمون بالعودة والحياة فيما كان يوما مسقط رأسهم ومسقط رأس آبائهم، أمّهاتهم، أجدادهم وجدّاتهم.
أيّة ُأحزان ٍموجعة تملأ وجدانهم وأحاسيسهم وعيشهم اليومي؟

أحقّا لا يحضر في أذهان المستحمّين عند شاطئ البحيرة والمتمتعين بمائها الصافي أنّ ثمّة ناسا، آدميين مثلهم، كانوا يوما هنا وحرموا من متعة الشاطئ وصفاء مائه!

لم أشعر، يوما، بحقد أو كراهية لأي إنسان على خلفية عرقية أو دينية، لكنّي كنت أكره ولا أزال صنيع الدولة، الذي هو معاد، في حقيقته، للناس جميعا، في الدولة، منطقتنا، عالمنا الواسع. ولا أضحك على نفسي فأوهمها أنّ الدولة هي الناس. فالدولة جهاز قمع الأقلية لأكثرية الناس المستضعفين والفقراء، اليهود والعرب، على حدّ سواء.

...

لا يخفى عنّي، أو يغيب عن عقلي ووعيي، واقع أنّ ستين عاما من استمرار الهجيج وغياب تسوية كريمة ومنصفة لمسألة الهجيج القسري، وهو واقع يرتكز على منطق "حق القوة"، لا الحق الإنساني الموروث، هذا الواقع يجعل طريق عودتي المؤمّلة أمرا غير وارد في البعد الزمني المرئي.

وكم يملأني الخوف القاتل، حين أشعر أن ترابا غير تراب سمخ سيضم رفاتي، قبل أن أعود.
فأنا كم يملأني الخوف القاتل، حقّا، حين تدهمني القناعة: تقدّم بي العمر، فهي سنّة الحياة، ومن الطبيعي أن أخليَ المكان للآتين من بعدي، مثل غيري، لكنني آمل أن لم أعد لأعيش وأموت فيها، أن أسهم (فيما تبقى من عمر) أسهم بقسطي مع آخرين كثيرين، يقتلهم عشق أوطانهم الصغيرة والحنين إليها، في أن أبقي شعلة الحنين وأمل الحياة مشتعلة، ولو تحت الرماد، فأسلمها لمن يأتي بعدي، ليواصل الحلم والعمل من أجل العودة المؤمّلة.

.....

أذكر، لأكثر من مرّة عرض ناس على أبي في الخمسينات، حين كنا فقراء معدمين وفي حالة مالية وسكنية مزرية، مقارنة بواقعنا اليوم الفقير أيضا، أن يقايض ما كان له ولأمي من أرض في سمخ بأرض بديلة أو ببضع قروش، لا تسمن ولا تغني عن جوع، فأذكر أنّه كان يجيب: "لا أرض لنا في سمخ، لنبادل بها، فما نملكه هو وطن".

سمخ هي وطن وليس مجرّد أرض. والناس تنتزع منهم أوطانهم لكنّهم لا يقايضون بها في سوق النخاسة، الوطن لا يباع.

و أذكر، في هذا السياق، ما كتبه هندي أحمر، من سكان الولايات المتحدة الأصليين، إلى رئيس أمريكي يسأله:

لم تورثون الحرب والبغضاء أطفالنا وأطفالكم، فما تريدون منّا أن نتنازل عنه (من أرض) ليس لنا فالأرض هي للآلهة أعطتها أجدادنا وآباءنا،وقد أورثونها، فليس في قدرتنا التنازل عنها، فهي ليست للتنازل.

وكم أشعر أنّ هذا الهندي لا يزال ينطق من حنجرتي، فلبعض الأماكن قدسية وهكذا هي سمخ.
فسمخ هي إنسانيتي، التي كم اشعر وبألم، أنها سلبت مني طيلة عمري، افتقدتها، لكنّني لم أنسها.
إنّها أرض ووطن ومسقط رأس. وهي فوق كل هذا إنسانها وناسها.

وحين أذكر قريتي سمخ وأذكر ناسها وأرضها، تحضرني بحزن، يتعذر وصفه، تلك القصيدة لشاعرة من الأبورجنيز، سكان أستراليا الأصليين، ترجمها في "القدس العربي" أحمد هاشم، وهي تتحدّث فيها عن "عناء الدموع "، تقول القصيدة:


" نحيب خافت في غرفة مظلمة ورطبة،
لا طلاء على الحيطان، هذا ليس سبب البكاء.
ولا لأن الأرضية محطمة،
بلا سجادة.
لا ليس ذلك سبب البكاء.
ليس لأن الأطفال لا يوجد ما يسد رمقهم في العشاء
ليس انعدام السرير والبطانية
ليس لأن زوجك أدمن الكحول. لا.
ليس عدم المساعدة وعدم اهتمام الآخرين.
سبب البكاء: لأنهم أخذوا روحك، طفلك.
سبب البكاء: لأنهم سرقوا أرضك
الأرض التي هي جذورك منذ البدء
هذا هو سبب بكائك، حبيبتي،
انّك تبكين أرضك".

فالأرض، الوطن، هي الروح وهي الطفلة، وهي الجذور. وأنا إذ أذكر ذلك الهندي الأحمر وتحضرني قصيدة الشاعرة الأبورجينيزية، فذلك لأنني أحس بوحدة الألم الإنساني، في عناء الدموع ونبذ الكراهية وجمال الأمل، الذي يجمع بيننا وما آمله ألاّ تتكرر مأساة ومعاناة الإنسان الهندي الأحمر والأبورجينيزي، في أي مكان وأي زمان وفي وطني بالذات.
كانت سمخ مسكونة في القديم. وهو ما تؤكده القبور والآثار الكثيرة المتناثرة والمنتشرة في حواكيرها. لكنها، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كان يسكنها ناس كثيرون، عرب، ذوو أصول بدويّة، ينزلون الأرض الواقعة بين طبريا، غربا، والحمّة السورية، شرقا، وبين البحيرة وملتقى النهرين، الأردن واليرموك، عند جسر المجامع، وينزلون، صيفا، في المرتفعات الواقعة إلى الجنوب الشرقي من طبريا. وكانت أرضها خصبة، غنية بالمياه الجوفية وتكثر في سهولها الغزلان والطيور والخنازير البرّية.

وقد نزل فيها في سبعينيات القرن التاسع عشرأولاد سيدي يخلف الجزائريون واستقروا فيها. وجاء بعدهم اولاد حمولة المهناوي، التونسية–الجزائرية الأصول ( ومنهم أمي ) وشيدوا بيوتهم فيها عند الشاطئ الجنوبي للبحيرة وحيث ينطلق النهر منها جنوبا (الشريعة).

في تلك الأيام لم تختلف سمخ، من حيث كونها قرية صغيرة، فقيرة ومتخلفة، عن أخواتها، قرى غور الأردن اللاهب. وكانت في تلك الأيام "ملطى الحرامية" بين عيدان القصّيب،عند النهر. ففيها كثر قطّاع الطرق من بدو المنطقة، الذين كانوا، بسطوهم وقساوة قلوبهم، يهدّدون كل تجارة بين سوريا وفلسطين، وعلى العكس في ذلك الموقع. وكانت الحكومة العثمانية (السلطنة الاستعمارية في استانبول) من الضّعف الشديد، فلم يكن في وسعها توفيرالحماية في المنطقة. فبوليسها (الجندرمة) كان يتحرك أساسا وفقط لجباية الضريبة وقمع كل حركة قد تهدّد السلطة العثمانية المركزيّة.

ولكن حين كثرسكان القرية قاموا باستصلاح الأرض، التي كان يكثر فيها شجر الرّبيض الشوكي (من عائلة السدر) والقصّيب والحيوانات البرية، وقاموا باقتلاع ظاهرة قطاع الطرق.

لكن واقع سمخ السكاني، الاقتصادي والثقافي، بدأ يتغيّر جذريّا وكليّا بعد الاحتلال البريطاني.

رُسِمَت ِالحُدود ُمن جديد، وبدقّة، بين مناطق نفوذ الانتدابين الاستعماريين: الفرنسي في سوريا ولبنان والبريطاني في فلسطين وفيما صار الأردن والعراق.

تمَّ رسم الحدود بشكل يخدم مصلحة الاستعمارين، البريطاني والفرنسي، وليس مصلحة الأهلين. لكن الأهالي ربحوا ظاهريا ومؤقتا بعض الشيء. إذ طُوّر العمل يومها في سكة الحديد التي كانت تربط بين حيفا ومدينة درعا السورية، مرورا بالعفولة وبيسان وسمخ والحمة السورية.

وشيدت في سمخ محطة للحجرالصحي(الكرانتينا) ومحطة لبوليس الحدود والبوليس العادي. كما استفادت سمخ، كثيرا، من الموقع التجاري ومن الشارع العام، الذي يربطها بالحمة، شرقا، والأراضي السورية وبطبريا والناصرة (غربا) وبجسرالمجامع فبيسان ( جنوبا) والأراضي الواقعة إلى الشرق الجنوبي، والتي خضعت للسلطة البريطانية الاستعمارية وباتت تشكل أساسا للأمارة الهاشمية، شرقي نهر الأردن.

فظهرت في سمخ الأسواق التجارية الكبيرة (الحسب)وشهدت بدايات ظهور برجوازيات تجارية. وقد شيّد فيها مدرسة، جلب لها معلمون من الناصرة وطبريا وكفرياسيف وطرعان وحتى من طولكرم. واستقر فيها عشرات العائلات الطرعانية (من طرعان) والوافدة من لوبية وقرى أخرى. وصارت ملاذ كل وافد اليها، فتوفّر له الأمن الشخصي والاجتماعي وفرص التقدم. وقد أسهم كل هذا في ازدهار العمالة فيها ونشوء أسواق تجارية واتساع السوق المحلي.

وللحقيقة...عاش في سمخ، بحسن جوار وصداقة،سكان البلدة الأقدمون (المهاجرون المغاربة) والوافدون الجدد من أماكن مختلفة. وكان فيها مجلس محلي يديرحياة القرية المتّسعة.

لقد باتت سمخ، التي ازداد كثيرا ونسبيا عدد سكانها في فترة قصيرة زمنيا وبدأ ت تزول الفوارق بينهم، بين فلاح وافد وبين مغربي ذي أصول مهاجرة وبدأت عملية صهرهم في مجتمع قروي متجانس قليلا، ينزع إلى التمدين، في هذا الوقت باتت سمخ تكتسب معالم بلدة، تعيش كل مظاهر التحويل المديني، مثل الناصرة وصفورية المهجرة ومثيلاتها، البصة، طيرة حيفا المهجرتان وطيبة بني صعب في المثلث.

كانت سمخ ستصبح مدينة حدودية مزدهرة لولا الاحتلال الاسرائيلي في ربيع1948، عام النكبة، الذي رحّل سكانها شرقا قريبا، أولا، إلى الحمة السورية، وبعيدا في المرّة الثانية، في حزيران1967، إلى ما صار يعرف بالشتات.

حال السطو الصهيوني في فلسطين، الذي باركته الدول العظمى المهيمنة على مصائر الشعوب المستضعفة، دون ازدهار سمخ ونموها الطبيعي: السكاني، الثقافي، الإجتماعي والإقتصادي.

حين تعود بي الذاكرة إلى سمخ، أذكر بيت جدي المبني من طين، لكن الرحب، المضياف والمطل على البحيرة شمالا ُوجنوبا ًعلى الشارع الرئيسي الواصل بين الحمة السورية وبين طبريا، أذكر بيت أبي الذي شيده على مقربة من بيت جدّي، ليسكنه في الشيخوخة ولم نهنأ لحظة بسكناه، فكان أبي يسكن في حيفا حيث مكان عمله، ولم نستطع العودة إليه بعد عام النكبة وكان من حجر أسود، ولا أزال أحتفظ بترخيص بنائه. وتحضرني صورة البيادر وأذكر حديث أمي عن بعض أرض جدي واسمها أرض الدوير وكانت تمتد من الماء (نهر اليرموك) حتى الماء (بحيرة طبريا).

في خريف السنة الماضية زارني ولدي الآصغر بلال وصدف أن كنت مدعوا من جمعية "السبيل" لأتحدث عن سمخ، فرافقني في الرحلة.
كنت في أقصى السعادة إذ عُدنا يومها، بلال وأنا، إلى تراب سمخ، سمائها وعبق فضائها، لكن يا لحزننا: لم يبقوا فيها حجرا على حجر يشهد على ما كان.

هدموا القرية وحولوها منتزها وقام على مقربة من أنقاضها المُهَدَّمَة كبوتس "تصيمح" وَوَزِّعَتْ أراضيها الخصبة والرحبة على القرى التعاونية "بيت زيرع" و"هأون" و"تصيمح".

مصير سمخ لم يختلف عن مصير أخواتها، بيسان، جسر المجامع، ناصر الدين، القرى الأخرى المنتشرة جنوبا حتى كوكب الهوا وبيسان وغيرها من قرى فلسطين.

وحين نقلت وسائل الإعلام المرئية والمقروءة صور الموت، الدمار والتدمير المُتعمَّد في قطاع غزة، كثيرا ما تذكرت ما أصاب سمخ وأخواتها: عقلية واحدة، آنذاك واليوم، تقف وراء هذا الفعل الفظيع، الغرض واحد، والهدف واحد، المتواطئون والصامتون على جريمة ما كان وما حدث قبل أكثر من ستين سنة وجريمة ما يحدث اليوم هم ذلك الواحد وإن تبدَّلتِ السِّحَن وتبدَّلَ الشخوص.

وكثيرا ما سألت نفسي في السنوات الأخيرة ولا أزال أسألها عن السر والسبب في عدم تحويل مطلب العودة، هذا الحق الإنساني، إلى مطلب ونهج عمل نحققه بوسائل كفاحية مدنية، مثابرة، جريئة، لا موسمية ولا فئوية، مستعدة للتضحية. وكم كنت أتمنى لو يغدو مطلب العودة مطلبا رئيسيا، يتبناه الفلسطينيون وغيرهم في عالمنا الصغير والكبير.

فمطلب حق العودة هو مطلب إنساني قبل السياسة وفوقها. فما أفظع أن يحرم المرء عنوة من حقه في الحياة في مسقط رأسه. هذا الحق ثابت ودائم، أما الدول فمؤسَّسات عابرة ومتغيرة. هذا ما يجمل بنا أن نعيه جيدا وعميقا.

كانت تربط سكّان البلدة علاقا ت جوارحسنة وعادية مع السكان اليهود في الكبوتسات المجاورة، بيت زيرع ودغانيا(أ) ودغانيا(بيت) وسكان طبريا، اليهود والعرب. لكن أهالي سمخ لم يتصوروا، لطيبتهم وبساطتهم، أن أهالي هذه المستوطنات، الذين أحسنوا معاملتهم، كانوا يتوقعون اللحظة المناسبة لترحيلهم والحلول هم أو آخرون في بيوتهم وفوق أراضيهم ويحولون دون عودتهم. وكأن سعادة الوافدين الجدد، بقوة السلاح لا الحق المتوارث، سعادتهم ومستقبلهم لا يكونان إلاّ فوق خرائب وجثث الآخرين.


التعليقات