بين مناهج النكبة ونكبة المناهج../ د.إلياس عطاالله

-

بين مناهج النكبة ونكبة المناهج../ د.إلياس عطاالله
سأتناول قسمَي عنوان مداخلتي رزمة واحدة كي لا أبعثر الوقت، تاركا التأريخ لأهله وخبرائه، واقفا عند نكبة المناهج، ومشيرا إلى أمرين؛
الأوّل: لم يعرف الفلسطينيّ عبر تاريخه منهج تعليم فلسطينيّا خالصا لوجه الله والوطن.
الثاني: أبتعد عمدا عن تقسيمات محايدة يلجأ إليها الكاتب أو المتحدّث بتقسيم ما سيأتي به إلى محاور، تسهيلا عليه وعلى المتلقّي، ولذا، ولأنّنا نعيش النكبة منذ أرّخوا لها، ونعيش عقابيلها، سأقسم كلامي إلى ثلاثِ أتافيّ/ أثافٍ، لأنّ الدست لا يقعد إلا على ثلاث؛ فالأُثْفِيَّةُ كما يورد الفيروزاباديّ: " الحَجَرُ تُوضَعُ عليه القِدْرُ. - ج: أثَافِيُّ وأثافٍ، ورَماهُ اللُّه بِثالِثَةِ الأَثافِي، أي: بالجبلِ، والمُرادُ: بداهِيَةٍ، وذلك أَنَّهُمْ إذا لم يَجِدُوا ثالِثَةَ الأَثافي أَسْنَدُوا القِدْرَ إلى الجبلِ"( القاموس المحيط). أمّا أنا الفلسطينيّ فقد رُمِيتُ، وتركتُ الأثافيّ، والقِدر، والحطب، والطبخة، والبيت وعفش البيت، وكيزان الرمان، وحبّات التين، والمساكب، والصّيرَة والمِعزى... للحرام المشرعن فكرا صهيونيّا ودينا يهوديّا وبغيًا أمميّا وتخاذلا عربيّا.

" ينسجم الحديث عن مقوّمات الدّولة اليهوديّة والفكرةَ الصّهيونيّة، بانبنائهما على وجود ثلاثة مركّبات أساسيّة وهي: الأرض، اللّغة، والسّيادة أو الاستقلال، ولا تتحقّق الفكرة إلا بتضافر العناصر الثّلاثة معا، فالأرض وعد إلهيّ في معتقدهم الدّينيّ، واللّغة هي التي تحدّث بها الخالق إليهم وبها خلق لهم أرضا واصطفاهم( الشّعب المختار)، والسّيادة لا تتأتّى إلا بوجود وطن قوميّ، فيه يحافَظ على المقدّسَين الآخرين، ولتأكيد المحافظة قد ينصبّ إحياء العبريّة الحديثة و " حروب إسرائيل" في إطار واحد، ومقارنة بعلاقة العرب بفصحاهم ودعوات عاميّاتهم، نشير إلى أنّ دولة إسرائيل أفلحت في جعل العبريّة لغة اليهود فيها بعد أن كانوا يتحدّثون زهاء سبعين لغة ولغيّة جاءوا بها من أصقاع الأرض، ولهذا النجاح قيمة قد " تضاهي إقامة الدولة نفسها "( عطاالله، إ. ( 2004). واقع اللغة العربيّة وتحدّياتها، في: أعمال المؤتمر الأوّل لمجمع اللغة العربيّة، ص 97، الحاشية 10).

وإن كانت الأمور قد انتظمت ونضجت جميعا لتحقيق الصهيونيّة لفكرها الثلاثيّ هذا، فإنّ القضيّة عند أصحاب هذا الفكر لم تنته، وحيث إنّهم مدركون أنّ الأمور لن تستقيم لهم إن وقفوا عند تحقيق الوعد الإلهيّ أو التصريح البريطانيّ، عملوا على نزع النظريّة ومكوّناتها من الأغيار الفلسطينيّين والعرب، وذلك بطريق:

أ- الزعزعة، والإقلاق المتواصل، وتسليط سيف ديموقليس فوق عنق العيش الفلسطينيّ والعربيّ بحيث يظلان فاقدين للاستقرار والأمن؛ فالعدوانُ المتواصل المسمّى حروبا استباقيّة أو دفاعيّة أو أمنيّة أو اضطراريّة، يُسقط من الأغيار الاستقرارَ والسيادة، ويهدر كلّ ما هو سويّ في حياتهم، وينهب مزيدا من الأرض تُستثمَر استيطانا وتوسّعا، أو أوراقا للمساومة على قبول الأغيار لأثافي الفكر الصهيونيّ؛

ب- احتلالُ الأرض نهبا وشراء واستيلاءً، الذي تبعته المصادرات في عهد الدولة، إلغاءٌ للمركّب الأول في كينونة الأغيار؛

ج- وزعزعةُ اللغة بتهميشها وإسقاط رسميّتها وعَبْرَنة من تبقّى، أو تركهم للتعَبْرُن طوعا، إلغاءٌ للمركّب الثاني في كينونة الأغيار.

أفترض طامحا إلى أن تكون اللغة العربيّة الفصيحة هي لغة التدريس، في موضوعة العربيّة، وفي كلّ مقرّر دراسيّ تكون العربيّة وعاءه، كتابة وحديثا. إن ما نشهده اليوم هو، بمصطلح النحو العربيّ في باب الأفعال، الفرق بين التعدّي المباشر، والتعدّي بواسطة؛ فثمة فرق في التأثير والصوت والسمع والمحاكاة، وفي " تنمية الحسّ الجمالي والذوق اللغويّ" بين: التعليم بالعربيّة، والتعليم عن العربيّة، وتعليم العربيّة... وما يجب أن يكون: تعليم العربيّة بالعربيّة الفصيحة.

والأثفية هذه، لنا فيها- نحن العربَ- ذنوب وكبائر، وليس من التذاكي أن أسقط التهم على المؤسّسة العبريّة من باب " وكفى الله المؤمنين القتال"، فهذه( المؤسّسة) لا أنتظر منها خيرا، ولا أنتظر منها إلاّ ما تفعله، بل إنّي أتوجّس شرّا إن فعلَتْ خيرًا، أمّا نحن، في مؤسّساتنا ومدارسنا وأماكن عملنا، ومنتدياتنا، ودردشاتنا، فلننتبه إلى لغتنا، ولنتحدّث بها، فلا شيء يمنعنا، ولا سلطة لأحد على ألسنتنا، وتبقى القضيّة محكومة بفكرنا وموقفنا وانتمائنا إلى هويّتنا العربيّة بكلّ مقوّماتها.


" رسميّة اللغة العربيّة في إسرائيل والمنصوص عليها بحكم قوانين عام 1922 ، وبحكم البند 82 المصحّح عام 1939، رسميّة مع وقف التنفيذ ومع سبق الإصرار".( ن. م. ص 96).

إنّ زيف رسميّة العربيّة فاضح في كلّ مكان، بدءا بالشارع، مرورا بلافتات وإعلانات المؤسّسات العبريّة التي من المفترض أنّها تخدم كلّ المواطنين( ففي صندوق المرضى- لئوميت- في عكا مثلا، كلّ شيء ممّا علّق للإرشاد والتوجيه على الجدران مكتوب بالعبريّة... عدا " منع التدخين"! فإنّه مكتوب بالعربيّة أيضا، لا لأنّ أصحاب المكان كتبوه، بل لأنّه تحذير عامّ في كل المؤسّسات)، وانتهاء بالحملة الهاجعة التي يعلو نباحها بين الفينة والأخرى من كلّ من هو صهيونيّ، أو يهوديّ يكره العربيّة وأهلها، منذ " عشقيّات" جابوتنسكي وبن غوريون للعربيّة، إلى فحيح اليمين الذي يعمل على نزع رسميّة العربيّة( اقتراح إلداد في الكنيست 4/ 1/ 2005)، والاكتفاء- كما يرى غيره- بكونها لغة " لها مكانة خاصّة"! ولا أعرف معنى هذه الخصوصيّة.

إنّ هجمة الدولة العبريّة على اللغة العربيّة هي استمرار لهجمتها على الأرض العربيّة والإنسان العربيّ، بل إن العربيّة عندهم شيء من أملاكهم، فلا يكفي أنهم بنوا قواعد لغتهم في القرون الوسطى نسخا ونقلا وتبويبا ومباحث- وباعترافهم- على قواعد العربيّة ( ينظر مثلا: كتاب اللمع، لأبي الوليد مروان بن جناح القرطبي( اسمه العبريّ יונה، وهو من مواليد قرطبة في أواخر القرن العاشر م.، بين 985- 993، ومتوفّى في النصف الأول من القرن الحادي عشر)= بالعربيّة اليهوديّة: כתאב אללמע, והו אלג'ז אלאול מן כתאב אלתנקיח- תאליף אלנחוי אלמשהור אבי אלוליד מרואן אבן ג'נאח אלקרטבי, אלמנבוז בר' יונה המדקדק)،( لم يكن ابن جناح استثناء في الاعتماد على العربيّة، إذ اعتمد غيره من اليهود على معرفتهم بالعربيّة في وضع مصنّفاتهم في قواعد العبريّة وشرح نصوصهم المقدّسة تقليدا لشروح القرآن الكريم، ومن أشهر هؤلاء الرابي سعاديه جَؤُون ( متوفّى عام 942 م.)، ومناحم بن سروق( 970)، ويهودا حيوج( 1012)، ويوسف قمحي( 1170)...)، ثمّ جاء إليعيزر بن يهودا( 1922) لينهب العربيّة وبِناها الصرفيّة وثروتها اللغويّة لبناء العبريّة الإسرائيليّة، بعد أن كانت العبريّة لغة طقسيّة(liturgical language)، وليكوّن معجمها الموحّد لتشكيل أمّة ذات لغة وسيادة في فلسطين، وما زالت عمليّة النهب، لا الاقتراض، مستمرة.

ليس بالغريب أن يحاول دعاة الفكر الصهيونيّ وبقيّة كارهي كلّ ما هو عربيّ تشليح اللغة العربيّة من الأسمال الرسميّة الخادعة المسدلة عليها، فاللسانُ العربيّ مثلُ صاحبه من الأغيار! والأغيار هذه التي يروج استعمالها مقابلا لمصطلح الجوييم العبريّ الذي تفوح منه رائحة تفرض الإقصاء والدفن، وهذان " المفروضان" مندرجان في عمليّة التطهير العرقيّ التي قد يتناولها المؤرخون وصفا لما حدث في النكبة وبعدها للفلسطينيين( ينظر إيلان بابِه نموذجا)، فالـ גוי التي يردّها جيزينيوس إلى الأثل العبريّ גוה تحمل معنى التجمّع والجمهرة والسيل، وتعني أيضا الجسد الميت، ويقابلها باللاتينيّة عنده corpus، ومنها أخذت كلمة corps/e، ومن معانيها الجثّة أو الجسد، ولقد تعرّضت هذه المفردة إلى التضييق الدلاليّ، أو الانحطاط الدلاليّ( semantic deterioration) بحيث صارت تعني الجثّة أو الجثمان أو الجيفة( قابل المفردة ودلالاتها كما ترد في قاموس المورد- إنجليزي عربي- لمنير البعلبكي، بـ The Lexical Webster Dictionary و World Book Dictionary)، ولا أعرف إن كان لي- اعتمادا على ما أوردته معاجم التأثيل الإنجليزيّة- أن أتوسّع في التوظيف البلاغيّ للدلالة، حقيقةً أو مجازًا، رابطا بين الـ גּוֹי والـ גְּוִיָה والـ גּוּפָה لأصلَ إلى الجثّة الهامدة أو الجيفة( أشير إلى أنّ المصطلحات "العنصريّة" الأولى التي استعملتها الشعوب في وصف الآخر، بنيت على عدم إجادته للغتها( كما هي الحال في بعض معاني الـ גּוֹי)، ومنها انطلقوا إلى تشبيه الآخر بالحيوانات... وهذا موروث عام وارد في اليونانيّة والفارسيّة والعربيّة والعبريّة والإنجليزيّة...).

أدع التأثيل العبريّ والإنجليزيّ جانبا، وأدع ما يخطّطون، لأبقى أمام مسألة اللغة المبطوحة المطروحة المسطوحة؛

ولأنّ حالتنا مع المؤسّسة وسياستها كما وصفت، فِئْتُ إلى مؤسّسات تربويّة وأكاديميّة، فيها أقسام للعربيّة، أو هي قيّمة على هذه الأجسام جميعا، وقمت برحلة مضنية من البحث في المواقع، وكتب الإرشاد، الخاصّة بهذه المؤسّسات، ووجدت كلّ شيء بالعبريّة أو بها وبالإنجليزيّة، وهذا ينسحب على كلّ الجامعات في إسرائيل، ولأنّني لا أحلّق في الخيال ولا في الوهم أعرف أن العربيّة ليست رسميّة حتى في أقسام تدريسها، وما زالت ماثلة أمامي حقيقة تقديمي طلبا خطيّا لقسم الأبحاث في الجامعة العبريّة، مستأذنا لكتابة رسالة الدكتوراة باللغة العربيّة، وأنا طالب في قسم اللغة العربيّة، ولو اخترت أن أكتب بحثي بالعبريّة أو الإنجليزيّة لكان الأمر سويّا غير محتاج إلى استئذان!

ولجت موقع مجلس التعليم العالي، ووجدته بالعبريّة والإنجليزيّة، ووجدت الأيقونة السحريّة للقارئ العربيّ، ولما لجأت إليها قرأت: under construction... وحوّلت وجهي قِبَلَ الكليّات العربيّة الثلاث، ووجدت موقع كليّة القاسميّ في باقة الغربيّة ناطقا بالعربيّة والعبريّة، وموقع الكليّة الأكاديميّة العربيّة في حيفا ناطقا بالعبريّة، مع أسس التصميم بالعربيّة، حيث سيعرّب حتّى مطلع العام التدريسيّ المقبل، أمّا كليّة سخنين، فقد وجدت الموقع بالعبريّة، وبالعربيّة وجدت معلومات عن المكتبة وعن جسم تابع للكليّة هو " مركز البيروني"، وتعريفا بالكليّة، فحمدت الله على كلّ حال.

أمّا الاستحالة والعبثيّة فوجدتها في بعض مواقع الجامعات الفلسطينيّة! فموقع جامعة بيت لحم ناطق بالإنجليزيّة والألمانيّة، وموقع الجامعة العربيّة الأمريكيّة في جنين، الذي وضع كلمة" عربي" أيقونةً على يسار الشاشة، ما استجابت أيقونته لمراودات الفأرة التي عرقت من كبس وضعط عليها، وسدّت أذنيها صادّةً صلواتي، وكان عليّ أن أقرأ ما أريد بالإنجليزيّة، أمّا طلب الالتحاق بالجامعة نفسها فمثبت بالعربيّة والإنجليزيّة، وكانت القصّة في جامعة بير زيت مغايرة كلّيّا، فالموقع بالعربيّة والإنجليزيّة.

أتساءل إن كان ما نشهده في بعض كلّياتنا وجامعاتنا- رغم التمويل غير العربيّ أو الوصاية غير العربيّة- يختلف- مع الفرق في النيّات- عمّا نصرخ منه في الداخل، منذ بدايات الصهيونيّة حتى الآن... فأنا لا أرى فرقا، فالعربيّة هنا وهناك، تمعط شعرها وتلطم...، ولا أعني بهذا أن تمحى الإنجليزيّة الدوليّة أو العبريّة المهيمنة- في الداخل- من مواقع الجامعات وكتبها، فالأمر مشروع على شتّى الأصعدة، ولكنّ تغييب العربيّة عمدا أو تناسيا أو نسيانا، أمرٌ لا مبرّر له، خاصّة في الأجسام العربيّة المذكورة؛ فما معنى أن أجد التعريف بقسم اللغة العربيّة وموادّ التدريس بالعبريّة فقط؟ وما الغاية من إيراد أسماء طاقم التدريس بالعبريّة فقط، في الوقت الذي وردت المعلومات نفسها في قسم اللغة الإنجليزيّة ... بالإنجليزيّة؟!

ليس لنا إلا أن نعود إلى لغتنا، مفيقين من حالة التثاؤب وكبيرة العقوق التي نعيشها في علاقتنا بالعربيّة الفصحى والفصيحة، متحدّين هذا الانفلات العنصريّ بالتركيز على لغتنا حديثا وكتابة وتدريسا وبحثا ونشرا، ما عادت الأمور تحتمل الحياديّة والوسطيّة وزيف التبريرات الأكاديميّة، وعلينا أن نتحرّك أفرادا وأجساما لصدّ هذه النكبة الجديدة، وما نحن بصدده- برأيي- لا يقلّ أهميّة وقدسيّة عن الأرض وما عليها، فهل من سميع؟!
إن الكثيرَ من الثغور والعواصم قد سقط عبر التاريخ العربيّ، والكثيرَ من المدن والقرى الفلسطينيّة قد سقط أو أسقط، ومحي وفرّغ من أهله عبر التاريخ النكبويّ، وبقيت العربيّة آخر معاقل العرب... حفظتكم وحفظت كينونتكم، فلا تستبيحوها، ولا تسمحوا باستباحتها، لكي يبقى لكم شيء من الحضور وسط هذا النـزف غير المنقطع... وكم أخشى أن ننتقل من الخجل المطلّ من الـ under construction إلى الواقع الصلّف الصارخ في under destruction.

التعليقات