من دفاتر النكبة (25): جيش الجهاد المقدس واستقلالية القرار الفلسطيني (3)../ د. مصطفى كبها

-

من دفاتر النكبة (25): جيش الجهاد المقدس واستقلالية القرار الفلسطيني (3)../ د. مصطفى كبها
بعد اشتداد معارك الأحياء في القدس، انتقلت شعلة الصدامات لتشمل قرى محيط القدس ومداخلها الجنوبية والغربية. وفي شهر آذار 1948، على وجه لتحديد، اشتدت المساعي للسيطرة على النقاط الإستراتيجية المؤدية إلى مدينة القدس من منطقة اللطرون وباب الواد وكذلك على طريق القدس – بيت لحم –الخليل.

معركة الدهيشة: كانت معركة الدهيشة من أكبر الانجازات العسكرية لجيش الجهاد المقدس في قطاع القدس. حصلت هذه المعركة يومي السابع والعشرين والثامن والعشرين من شهر آذار، وذلك على أثر نجاح قافلة يهودية كبيرة مكونة من 58 مركبة موزعة بين مصفحات وحافلات وشاحنات، خرجت من القدس إلى "كفار عتسيون" تحت جنح الظلام، ودون أن يتمكن المقاتلون العرب من اعتراضها.

ولكن القادة الميدانيين قدّروا، وكان تقديرهم في محله، على أن القافلة ستعود من نفس الطريق بعد إفراغها لحمولتها وهذا ما كان في الفعل. ففي الصباح الباكر ليوم السابع والعشرين من آذار عادت سيارات القافلة أدراجها إلى القدس، وكان كمين عربي كبير بانتظارها في موقع الدهيشة المجاور لمدينة بيت لحم.

قام المقاتلون العرب، ومن ساعدهم من قوات الفزعة القادمة من القرى المحيطة، بإغلاق الطريق بحواجز من الحجارة وحاجز من الألغام. توقفت القافلة تحت وطأة رصاص رجال الكمين وقيام المقاتل يوسف الرشماوي بإيقاف المصفحة اليهودية الأولى بعد أن فجر نفسه بحزام ناسف قبالتها فتعطلت وقتل من في داخلها.

قام مقاتلو جيش الجهاد بتشديد الحصار على رجال القافلة اليهودية الذين لجأوا بمعظمهم إلى مبنى مهجور وقع بالقرب من الحاجز، وقد حاولت طائرتان يهوديتان خفيفتان التدخل لكسر الحصار عن رجال القافلة، ولكن مهمتهما كانت مستحيلة لالتحام القوتين وعدم قدرة الطيارين على التفريق بين المقاتلين من الطرفين.

استمر القتال بشدة حتى المساء، في حين طالب الطرف اليهودي المندوب السامي والصليب الأحمر بالتدخل، حيث بدأت عملية مفاوضات مكثفة بين قائد جيش الجهاد في الموقع، كامل عريقات، وبين ضباط بريطانيين وممثلي الصليب الأحمر يرافقهم وسيطان فلسطينيان هما عارف العارف وعيسى البندك. وقد أصرّ عريقات، بعد مشاورات تلفونية أجراها مع الحاج أمين الحسيني (المقيم في حينه في القاهرة ) على ضرورة استسلام رجال القافلة وتسليمهم العتاد والمركبات بكاملها.

وهذا ما حصل في نهاية الأمر حيث قام رجال القافلة بتسليم ما لديهم من عتاد صالح لقوات الجهاد، في حين قام الانجليز بنقل جثث القتلى والجرحى وتسليمها إلى ممثلي القوات اليهودية في القدس.

بلغت غنائم جيش الجهاد من المركبات والعتاد 3 من المصفحات، و8 من الحافلات المصفحة، و30 شاحنة، وطنا ونصف من المواد المتفجرة، ومئات البنادق، وبعض المدافع الرشاشة من طراز "ستين" و"برين" و"براوننغ".

خسر اليهود في هذه المعركة 15 قتيلاً، ووقعت في صفوف مقاتليهم 50 إصابة، في حين بلغت خسائر جيش الجهاد 12 شهيداً و3 من الجرحى.

رفعت معركة الدهيشة كثيراً من معنويات الطرف الفلسطيني، ولكن هذه الغنائم لم تحول للقيادة المركزية لجيش الجهاد بل تقاسمها رؤساء فصائل القرى التي شاركت في القتال وذلك ليتسنى لها الدفاع عن قراها إذا اقتضت الضرورة ذلك.

معركة المصرارة: رغبة من القوات اليهودية بتخفيف الضغط عن قافلة الدهيشة المحاصرة، قامت بمهاجمة حي المصرارة بشدة مستعملة في قصفها له قنابل المورتر من عيار 2 و3 انتش. وقد أحدث ذلك دماراً هائلاً في المباني والشوارع وهلعاً شديداً في صفوف الأهلين، خاصة عندما امتد القصف ليشمل منطقة باب العمود.

وقد سقط نتيجة للقصف 7 من المدنيين (2 في المصرارة و5 في ساحة باب العمود ) وجرح العشرات. وقد ردت القوات العربية المرابطة في المنطقة بقيادة بهجت أبو غربية بقصف مماثل بقنابل المورتر لحي "ميئة شعاريم"، وأحدثت فيه خسائر جسيمة أدت إلى اشتعال حريقين كبيرين في مراكز للذخيرة تقع في الطرف الجنوبي لـ"ميئة شعاريم"، كما وسبب القصف المركز في المورتر نزوح ما لا يقل عن خمسة آلاف من سكانها إلى مناطق أكثر أمناً في غربي القدس.

معركة القسطل: كانت قرية القسطل وقلعتها الواقعة على الحافة الجنوبية لطريق يافا – القدس (على بعد قرابة 12 كم منها) هي إحدى أهم النقاط الإستراتيجية التي سعى الطرفان للسيطرة عليها. أولاً بحكم ارتفاعها ومناعتها (ترتفع عن مستوى سطح البحر 750 متراً )، وثانياً لكونها تسيطر بإحكام على طريق الإمدادات اليهودية من منطقة الساحل ( تل أبيب على وجه التحديد ) إلى الأحياء اليهودية في القدس.

قامت قوات يهودية كبيرة بمهاجمة قرية القسطل (التي بلغ عدد سكانها قرابة 300 نسمة عام 1948 ) يوم الثالث من نيسان، واحتلتها بعد معركة قصيرة مع حاميتها ضئيلة العدد والمسلحة بعتاد قليل لم يتعد بضعة بنادق وبعض صناديق الذخيرة.

قامت القوات المهاجمة بإجلاء السكان فور احتلالهم للقرية، وشرعت على الفور بتحصينها بالأسلاك الشائكة والسواتر الترابية خاصة في بيت المختار الواقع في القلعة ومنطقة المسجد الملاصق لها في أعلى القمة.

كان عبد القادر الحسيني أثناء الهجوم اليهودي الأول متواجداً في دمشق للاجتماع بأعضاء اللجنة العسكرية للجامعة العربية وسكرتيرها العام عبد الرحمن عزام. ناقش عبد القادر مع من اجتمع به أمور تسليح المقاتلين الفلسطينيين بشكل عام ومنطقة القدس بشكل خاص. كما وناقش معهم قضية التضييقات التي مارستها قوات جيش الإنقاذ ضد المقاتلين الفلسطينيين التابعين لجيش الجهاد والتي وصلت في بعض الحالات إلى الاعتقال وتجريد السلاح.

لم تفلح مفاوضات عبد القادر في دمشق كثيراً، وقد خرج من قاعة الاجتماع معهم، ليلة السادس من نيسان 1947، بعد تبادل الاتهامات والكلمات اللاذعة ضدهم ناعتاً إياهم بالخيانة والتقصير.

عاد عبد القادر من دمشق إلى القدس صباح اليوم السابع من نيسان، عاد حانقاً خالي الوفاض، وقد اتصل برجاله وهو في الطريق أكثر من مرة يحثهم فيها على استعادة القسطل مؤكداً لهم بأن "القسطل هي القدس ". عاد ليخوض معركة استعادة القسطل وليستشهد فيها، وعن ذلك سنفصل في الحلقة القادمة.

التعليقات