أداء وأولويات الدبلوماسية الفلسطينية بعد اتفاق أوسلو../ معتصم عوض*

-

أداء وأولويات الدبلوماسية الفلسطينية بعد اتفاق أوسلو../ معتصم عوض*

في كتابة "الدبلوماسية والبروتوكول" عرف د. سموحي فوق العادة الدبلوماسية على أنها "فن تمثيل الحكومة، ورعاية مصالح البلاد لدى الحكومات الأجنبية، والسهر على أن تكون حقوق البلاد مصونة وكرامتها محترمة في الخارج، وإدارة الأعمال الدولية بتوجيه المفاوضات السياسية، ومتابعة مراحلها وفقاً للتعليمات المرسومة، والسعي لتطبيق القانون في العلاقات الدولية كيما تصبح المبادئ القانونية أساس التعامل مع الشعوب".

وفي كتاب آخر عرفها على أنها " مجموعة القواعد والأعراف والمبادئ الدولية التي تهتم بتنظيم العلاقات القائمة بين الدول والمنظمات الدولية، والأصول الواجب إتباعها في تطبيق أحكام القانون الدولي، والتوفيق بين مصالح الدول المتباينة، وفن إجراء المفاوضات الاجتماعات والمؤتمرات الدولية، وعقد الاتفاقيات والمعاهدات"

ومن خلال تحليلي لتعريفات الدبلوماسية، وقراءتي، للعديد من القراءات الفلسطينية والعربية والأجنبية التي تناولت موضوع العمل الدبلوماسي الفلسطيني، تبين لي أن معظم هذه القراءات تناولت هذا العمل من زاوية المفاوضات الثنائية الإسرائيلية الفلسطينية، وكأن مفهوم العمل الدبلوماسي الفلسطيني قد تم إختزالة في عملية المفاوضات لا غير. وقد زاد عندي هذا الشعور بعد المؤتمر الدولي الثاني عشر الذي نظمه معهد أبو اللغد للدراسات الدولية في جامعة بير زيت، في الفترة من 17 – 18 أيار 2007، بعنوان "مفهوم وممارسة الدبلوماسية: تجارب دولية وفلسطينية"، حيث تم التركيز في معظم جلساتة ومداخلاته على تقييم الدبلوماسية الفلسطينية من زاوية المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي، الامر الذي أدى حسب رأيي إلى تقزيم العمل الدبلوماسي الفلسطيني وحصره في المفاوضات.

لكننا إذا أردنا تقييما شاملا ومتكاملا للأداء الدبلوماسي الفلسطيني وتتبع أولوياته لا بد من النظر في الاداء السياسي الفلسطيني بشكل عام والعوامل المؤثرة علية داخلياً وخارجياً. كذلك لا بد من دراسة أداء المؤسسات الفلسطينية ذات العلاقة ممثلة بوزارة الخارجية الفلسطينية والبعثات الدبلوماسية والقنصلية الفلسطينية ومدى مساهمتها في تنفيذ السياسة الخارجية الفلسطينية وتحقيق أهدافها. ثم، علينا تحليل نتائج المفاوضات الفلسطينية الثنائية وأهمها تلك المتعلقة بالجانب الإسرائيلي. والدور الذي تلعبه الجهات المختلفة الرسمية وغير الرسمية المحلية والدولية في نشر صورة ورسالة القضية الفلسطينية ومدى تأثير عملها على الرأي العام العالمي.

من اهم سمات الدبلوماسية الفلسطينية أنها نشأت وترعرعت في ظروف مختلفة عن نظيراتها في معظم الدول. حيث نشأت في ظل عدم وجود كيان فلسطيني مستقل ذي سيادة. كذلك لم تعمل من داخل الأراضي الفلسطينية وانما من داخل أراضي الغير. لكن بالرغم من الظروف الصعبة والمراحل المعقدة التي واجهت العمل السياسي والدبلوماسي الفلسطيني، الا ان الدبلوماسية الفلسطينية إستطاعت على مر عقود من الزمن من بناء شبكة علاقات دبلوماسية مع الكثير من دول العالم، واستطاعت كسب الأصدقاء والرأي العام الدولي الى صف القضية الفلسطينية، وأثبتت عدالتها للجميع بما في ذلك بعض شرائح المجتمع الإسرائيلي، وبلغت ذروة هذه الانجازات خلال الإنتفاضة الاولى "الانتفاضة الشعبية".

اذن هناك انجازات كبيرة في تاريخ الدبلوماسية الفلسطينية، لكن لماذا تراجع الأداء الدبلوماسي الفلسطيني بعد إتفاق أوسلو حتى وصل الى أدنى مستوى في المرحلة الحالية؟ ولماذا تشتتت اولويات العمل الدبلوماسي بعد أن كانت إلى حد ما محددة وممنهجة؟

باعتقادي هناك خمسة أسباب أدت إلى هذه النتيجة:


لقد تميزت الفترة التي لحقت اتفاق أوسلو بتضارب الصلاحيات وتعدد المرجعيات في العمل الدبلوماسي الفلسطيني، وغياب برنامج منظم وخطة واضحة لهذا العمل، وقلة الإمكانات وَضعف الحنكة السياسية والدبلوماسية والقانونية عند القائمين على هذا العمل، واختزال مفهوم الدبلوماسية الفلسطينية بالمفاوضات مع الجانب الإسرائيلي، وتردي آداء الجانب الفلسطيني فيها، بالإضافة إلى الدعم الأمريكي المطلق للسياسة والدبلوماسية الإسرائيليتين في ظل نظام دولي أحادي القطبية تقودة الولايات المتحدة وترسم السياسة الخارجية فيه، ما سمح حسب اعتقادي للجانب الإسرائيلي إلى تحريك بوصلة العمل الدبلوماسي الفلسطيني بما يتماشى مع أهدافه.

وقد تميزت هذه المرحلة بانحسار دور م.ت.ف، الممثل الشرعي والوحيد في العملين السياسي والدبلوماسي، وبروز دور السلطة الفلسطينية، بقيادة فتح، التي أخذت، بالأمر الواقع، هذه الأدوار من المنظمة. كما تميزت هذه المرحلة بالانفتاح على الغرب، خصوصاً الدول الاوروبية والولايات المتحدة، على حساب دول أخرى مثل الهند والصين وإفريقيا، التي دعمت القضية الفلسطينية طيلة مسيرة النضال. كذلك اختزل مفهوم العمل الدبلوماسي الفلسطيني في المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي ما أثر على طبيعة هذا العمل الشمولي والمتكامل.


حتى تكون الدبلوماسية ناجحة يجب أن تكون عملية منظمة وممنهجة لتجميع مصادر ومكونات القوة لطرف ما، وتوظيفها بمهنية للاستفادة منها في تحقيق الهدف المنشود. فالنجاح الدبلوماسي هو نجاح سياسي، والدبلوماسية تساهم في تحقق الاهداف السياسية. لذلك على الدبلوماسية ان تعبر عن موقف وعن برنامج وعن قضية ويجب أن تكون هناك بوصلة تحركها.

وهذا ما تحتاجه بالفعل الدبلوماسية الفلسطينية، فالدبلوماسيون الفلسطينيون ليس لديهم برنامج موحد ومنظم أو خطة موحدة وممنهجة لتسيير وتطوير العمل الدبلوماسي الفلسطيني، فكل سفير أو رئيس مكتب تمثيلي فلسطيني، يعتمد على همته وإجتهاداتة الشخصية لتنظيم برنامج ووضع خطة لعملة الدبلوماسي، كذلك في تفسير وعرض القضايا المختلفة، فكيف لا وهو يسمع دائما جملة "إعمل ما تراه مناسباً". كذلك فإن علاقة السفارة او مكتب التمثيل مع وزارة الخارجية أو الدائرة السياسية لمنظمة التحرير وباقي مؤسسات السلطة الوطنية والمنظمة ليست مبنية على خطة ممنهجة وقنوات اتصال فعالة، لتبادل المعلومات والتعليمات والتوصيات والتقارير،كما يلعب البعد الشخصي، أي العلاقات الشخصية، دوراً مهماً في عملية الإتصال وطبيعتها.


إن سوء إدارة العمل الدبلوماسي وقلة الامكانات من أهم ما ميز العمل الدبلوماسي في هذه المرحلة، حيث أثرت سلباً على آداء كادر هذا العمل. ويمكن استنتاج هذه الفرضية من عدم وجود خطة واضحة للعمل، إلى غياب المرجعية في القضايا المهنية والإدارية والقانونية المهمة، وغياب سياسة الثواب والعقاب والمساواة بين الكادر العامل والمنتج وغير المنتج، وغياب وصف وظيفي يوضح طبيعة عمل الموظف وحدود صلاحياته وحقوقه المهنية والوظيفية، وعدم الأخذ بعين الإعتبار الإحتياجات التدريبية الخاصة بكل دبلوماسي على حدة، وعدم وجود أية إمتيازات خاصة للكادر الدبلوماسي، وعدم كفاية الراتب لتغطية إحتياجاته، وعدم إتاحة الفرصة للكادر الشاب لتحمل المسؤوليه في إطار عمله، ومحاولة تهميشة، بالإضافة إلى غياب تفويض السلطة والصلاحيات من الأجيال الأكبر سناً إلى الكوادر الشابة، حفاظاً على سلطتها واحكام سيطرتها، والتعامل مع العمل الدبلوماسي باعتباره متاعاً شخصياً.

كذلك فإن عدم التغيير، كان له أثر سلبي على الاداء الدبلوماسي. فلم يتغير أي شي على السفارات ومكاتب التمثيل الفلسطينية في الخارج، بعد أوسلو، وفي الأغلب بقي العاملون فيها هم نفسهم الأشخاص منذ إفتتاح السفارة أو مكتب التمثيل. ولم يتم رفد الكادر الدبلوماسي بكادر جديد من الشباب المؤهل للعمل في الحقل الدبلوماسي، وبقيت المركزية موجودة بحيث بقي السفير يسيطر على كافة مجالات العمل دون اتاحة فرصة أمام الكوادر الشابة ذات الطاقات العالية للتقدم. وما أثر سلباً أيضاً غياب التدريب والتأهيل الدبلوماسي للكوادر العاملة في السفارات، كذلك ضعف التنسيق في العمل بين السفارات ومكاتب التمثيل والمؤسسات في الوطن، خصوصاً وزارة التخطيط والتعاون الدولي ثم وزارة الشؤون الخارجية فيما بعد.

إن العاملين السابقين المتمثلين في عدم وضوح الهدف وعدم وجود برنامج منظم وخطة للعمل الدبلوماسي الفلسطيني و قلة الإمكانات وَضعف الحنكة السياسية والدبلوماسية والقانونية عند الكادر الدبلوماسي، أثرا سلباً على الخطاب السياسي، الذي وقع في فخ التعبيرات المغلوطة، والهرولة نحو إطلاق التصريحات من كل حدب وصوب تاركين للمؤسسة الدبلوماسية مهمة أرشفة هذه البيانات والتصريحات.

لقد صور السياسيون الفلسطينيون الاتفاقات المبرمة للشعب الفلسطيني والعربي والإسلامي والدولي، بعد أوسلو، بالانتصارات العظيمة التي من خلالها استطاع الفلسطينيون تحرير الأرض واستعادة الحقوق المسلوبة. ولم يصدر عن القيادة الفلسطينية أي إقرار بحقيقة ما جرى، ونتيجة لذلك فقدت القضية الفلسطينية الكثير من الدعم السياسي العالمي من قبل المؤسسات غير الحكومية والشعوب المؤازرة للقضية الفلسطينية، والتي كانت مجندة للمساهمة في إنهاء الإحتلال. في حين كانت إسرائيل تستغل الوقت لتكريس وجودها على الأرض الفلسطينية من خلال مصادرة المزيد من الأراضي لبناء المستوطنات وشق الطرق الإلتفافيه للمستوطنين. وبالرغم من ممارسة الاحتلال أبشع أشكال الاضطهاد بحق الفلسطينيين، إلا أن الدبلوماسية الإسرائيلية استطاعت تغيير الصورة أمام الرأي العام العالمي، بفعل قوة الدبلوماسية العامة التي تمتلكها، المخططة والممنهجه بشكل جيد.


إن عدم وضوح الهدف، وعدم وجود برنامج منظم وخطة للعمل، و قلة الامكانات، وَضعف الحنكة السياسية والدبلوماسية والقانونية في العمل الدبلوماسي الفلسطيني، ساهم إلى حد كبير في إختزال مفهوم هذا العمل بالمفاوضات الثنائية مع الجانب الإسرائيلي، حيث إهملت تنمية العلاقات السياسية والإقتصادية والثقافية بين الدول، مثل الهند والصين ودول إفريقيا، والمنظمات العالمية غير الحكومية التي دعمت المرحلة النضالية لمنظمة التحرير منذ نشوئها. وتم التركيز على جانب المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي وتنمية العلاقات مع اللاعبين الرئيسيين فيها خصوصاً الجانب الأمريكي التي وثقت القيادة الفلسطينية في حياده وقدرتة على الوصول إلى الحل السحري مع الجانب الإسرائيلي، فمنحته الولاء والطاعة، ومع مرور الزمن وتعثر المفاوضات وأخيراً وقفها، تبين للجانب الفلسطيني حقيقة الدور الامريكي، غير المحايد، والداعم بالمطلق لإسرائيل.

لقد فشل الأداء الدبلوماسي الفلسطيني, بعد أوسلو، فلا هو نجح في المفاوضات ولا في الترويج لحق الشعب الفلسطيني في المقاومة المشروعة، وغسلها من شوائب الإرهاب التي لطختها بها الدبلوماسية الإسرائيلية وحليفتها الأمريكية. فنتيجة الخطاب الفلسطيني المغلوط وغير المخطط له وغير الممنهج سياسياً وقانونياً لخدمة القضية الفلسطينية أولاً، قبل خدمة هذا الفصيل أو ذاك، أصبح الكثيرون في العالم الآن يظنون عندما يسمعون وصف "الرئيس الفلسطيني" أو "رئيس الوزراء الفلسطيني" أن هناك دولة فلسطينية وأن هذه الدولة تتنازع مع إسرائيل على بعض المكتسبات الحدودية، أو لها معها خلافات كتلك التي بين سائر الدول. كذلك تم تهميش مصطلح الاحتلال والواجبات الملقاة على عاتقة، كما أقرتها اتفاقية جنيف الرابعة والبروتوكول الإضافي الأول لعام 1977، ومركزيته في الصراع مع إسرائيل، وهذا بحد ذاته إيهام كبير للرأي العام العالمي كسبته إسرائيل، وفيه إضعاف هائل لجوهر القضية الفلسطينية ومضمونها الأساسي، ألا وهو احتلال حربي وحشي للأرض والشعب. وقد خدع المفاوض الفلسطيني "منطق أوسلو" حيث قبل تخفيض رتبة الاحتلال لمدة خمس سنوات، هي الفترة الانتقالية، بأمل أو وهم الانتقال إلى المرحلة النهائية.



لم يكن العمل السياسي والدبلوماسي الفلسطيني مستقلاً، لإعتماده على التمويل الاجنبي سواء من الدول العربية أو غيرها. ما أدى إلى تشتت الجهد الدبلوماسي الفلسطيني في محاولة لإرضاء كافة الدول لضمان استمرار الدعم المادي. وقد انحسر العمل الدبلوماسي الفلسطيني لمفاوضة الدول المانحة حول كم ونوع الدعم المقدم للسلطة، وأصبح الهدف الحصول على تمويل لسد رواتب الموظفين وبقاء السلطة على قيد الحياة. فمنذ قيام السلطة وحتى الآن لم تتمكن الدبلوماسية الفلسطينية من تحسين وضع الإقتصاد الفلسطيني وتطوير قطاعاته أو حتى جذب الاستثمار الأجنبي، بل وكرّست الإتفاقيات الإقتصادية تبعية الإقتصاد الفلسطيني للإقتصاد الإسرائيلي، وتحكمه فيه. فزاد الإعتماد على التمويل الخارجي، الذي لم يكن يقدم إلا لتنفيذ أجندة الدول المانحة، وما قطع المساعدات عن السلطة بعد صعود حماس إلى السلطة إلا دليلا على ذلك، أي إرتباط العمل الإنساني بالعمل السياسي.

إن الدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل في ظل نظام دولي أحادى القطبية تسيطر عليه الولايات المتحدة، واعتبار المسألة قضية داخلية أمريكية وليس فقط علاقات دولية، ونفوذ اللوبي الصهيوني في عملية صنع القرار الأمريكي، وتردي الوضع السياسي العربي والإسلامي، ما عرّض القضية الفلسطينية إلي نوع من التراجع في أولويات النظام الإقليمي العربي الرسمي، نظرا لبروز قضايا أو صراعات بدت لفترة في موقع الأولوية ما جعل ميزان القوى في صالح إسرائيل بشكل كامل. الأمر الذي ساعد إسرائيل على استخدام القوة العسكرية المفرطة في الأرض الفلسطينية المحتلة، المتمثلة في تدمير السلطة الفلسطينية، وسياسة الاغتيالات السياسية وعزل الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في مقره في المقاطعة في رام الله، ضمن تصور إسرائيلي لإزالة القيادة الوطنية، دون رقيب أو حسيب، ما أثر سلباً على العمل الدبلوماسي الفلسطيني، وأكسب العمل الدبلوماسي الإسرائيلي القوة لتنفيذ السياسة الإسرائيلية في الأرض المحتلة، والترويج لها خارجياً بشكل جيد.

إن الأحداث الإقليمية الكبرى وطبيعة النظام الدولي أحادي القطبية بقيادة الولايات المتحدة أدى إلى التذبذب في وضع القضية الفلسطينية عربيا وإقليميا ودولياَ، وتراجعت حظوظ القضية الفلسطينية نسبيا علي الصعيدين الإقليمي والدولي. وحين وقعت هجمات 11 سبتمبر علي نيويورك وواشنطن 2001، وفرضت الولايات المتحدة رؤيتها للحرب علي الإرهاب الدولي علي العالم بأسره، تأثرت القضية الفلسطينية - بسبب وضع فصائل المقاومة الفلسطينية علي اختلاف مشاربها السياسية والفكرية - علي لائحة المنظمات الإرهابية الواجب محاربتها دوليا، مما أثر نسبيا علي وضع القضية الفلسطينية من التركيز علي إنهاء الاحتلال إلي إثبات مشروعية المقاومة. لكن عمليا، أدي ذلك إلي زيادة حدة الضغوط علي صانع القرار الفلسطيني وإلي تشتيت الجهود، وأيضا إلي إثارة الخلافات بين الفلسطينيين أنفسهم بشأن ما ينبغي عمله.

وتأثر العمل الدبلوماسي الفلسطيني بصعود حماس الى السلطة. وفرض على الحكومة الفلسطينية التي جاءت إلى الحكم بطريقة ديموقراطية نزيهة حصار شامل بقيادة لولايات المتحدة، ووصل أداء الدبلوماسي وأولوياتة إلا ادنى مستوى بسبب الحصار الذي فرض عليها لعدم تماشي برنامج الحكومة الجديدة مع المصالح الامريكية والإسرائيلية، فأوجدوا حجة عدم وجود برنامج سياسي واضح للتعامل معه.

وبدأ الصراع الفصائلي على السلطة بين فتح وحماس، ما أثر على القيمة الأخلاقية للقضية الفلسطينية، نتيجة الإقتتال الداخلي والفلتان الامني الذي نتج عنه ممارسات شوهت ولطخت القضية الفلسطينية العادلة، بإختطاف الصحفيين والعاملين في المنظمات الدولية، وعجزت الدبلوماسية الفلسطينية عن تفسير ما يحدث للعالم، كما ساعد الاقتتال الداخلي وجهة نظر إسرائيل القائلة انه لا يوجد شريك فلسطيني للتعامل معه والدليل أنهم غير متفقين فيما بينهم ويتقاتلون على السلطة.

كما تردى الأداء في العمل الدبلوماسي أكثر فأكثر بسبب الانشغال في الصراع على فتات السلطة، وانقطاع التمويل للسلطة الفلسطينية وبالتالي المخصصات الشهرية للموظفين، بمن فيهم موظفي السفارات والقنصليات، وأصبح همهم الاول هو الحصول على مخصصاتهم الشهرية لسد احتياجاتهم، بدل العمل بجد والتخطيط الجيد لفك الحصار، فكم مؤتمر صحفي عقده السفراء وممثلو مكاتب منظمة التحرير لرفع الحصار عن الشعب الفلسطيني؟. لا شك ان معظم سفراء وممثلي مكاتب منظمة التحرير في دول العالم هم من المنتمين لحركة فتح، ومما لا شك فيه أيضاً أن بروز حركة حماس إلى السلطة وتولي محمود الزهار القيادي البارز في حركة حماس حقيبة الخارجية، جعل من هؤلاء السفراء والممثلين في حالة تخبط خصوصاً بما يتعلق بمرجعيتهم. وقام كثير منهم بتهميش الوزير الحمساوى، وتوجيه قبلتهم إلى رئاسة السلطة بقيادة محمود عباس. وبدأ اللوم على الحكومة، ما أضعف من موقفها وقدرتها على فك الحصار، على الرغم أنها إستطاعت جمع الأموال من العديد من الدول العربية والإسلامية، لكنها لم تستطع ادخالها بسبب التهديدات الأمريكية والاسرائيلية.

وفشلت الدبلوماسية الفلسطينية في الترويج لانتزاع اعتراف دولي لحكومة الوحدة الوطنية، وبقي الحصار، بالرغم من أن برنامج حكومة الوحدة قائم على قبول الدولة الفلسطينية على حدود 1967، واحترام الشرعية الدولية، واحترام المبادرة العربية، وعلى تفويض منظمة التحرير الفلسطينية إجراء المفاوضات، وقبول التهدئة الشاملة مع الجانب الإسرائيلي. ولم تفلح كل التصريحات الدبلوماسية الفلسطينية الإيجابية المثمنة لتمايز الدور الأوروبي في "دعم الشعب الفلسطيني" في دفع الإتحاد الأوروبي إلى موقف مستقل عن التبعية لشريكه الأميركي في "الرباعية"، فقد أصرت بروكسل على رفض مناشدة وزير المالية الفلسطيني سلام فياض لسد عجز مقداره 1.3 مليار دولار أميركي في ميزانية السلطة متذرعة بحاجتها إلى مزيد من الوقت لتقرر متى ستستأنف المعونات الأوروبية. كذلك لم نر أي ردة فعل فلسطينية لبيان المجلس الوزاري الأوروبي وبيان الرباعية الدولية اللذين طالبا من الفلسطينيين وقف إطلاق الصواريخ، في حين طلب من إسرائيل ترشيد العدوان وليس وقفه، أما كان يجب على الجانب الرسمي الفلسطيني أخذ موقف حاسم بعلاقته بهم؟

أن الجانب الإسرائيلي متفوق على الجانب الفلسطيني في القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية والدبلوماسية، ومن المؤكد أن الجانب الفلسطيني لا يستطيع مجاراة الجانب الإسرائيلي على الصعيدين العسكري والإقتصادي لأن الفارق كبير جداً، لكن الأمر يكون أسهل بكثير عند مجاراتة على الصعيدين السسياسي والدبلوماسي. إذاً لا بد من التركيز على تحسين القوتين السياسية والدبلوماسية. إن وضع العمل الدبلوماسي الفلسطيني مرهون ومربوط بالموقف الفلسطيني الداخلي، فإذا وجد موقف فلسطيني داخلي موحد أعتقد بأنه سيعطي المجال للدبلوماسية الفلسطينية لاختراق المجتمع الدولي وفرض نفسها على هذا المجتمع. إن الأمور تسير نحو الانهيار وليس فقط الانحدار، لقد أصبح العالم يمل من القضية الفلسطينية، ويتعامل معها على أساس أنها قضية إنسانية. وباعتقادي لا بد من العمل ليلا نهاراً من أجل الرقي بالمشروع الوطني الفلسطيني، والذي يتطلب إجماع الشعب على الهدف الوطني ومن ثم وضع إستراتيجية واقعية وقابلة للتطبيق لتحقيق الهدف، وأخيراً توحد القيادة والخطاب الفلسطينيين.

إذاً على الدبلوماسية الفلسطينية أن تستعيد روح المبادرة، وعدم الاكتفاء بردود الأفعال المتسرعة وغير المدروسة على المبادرات الامريكية والإسرائيلية المتتالية والهادفة لارباك الطرف الفلسطيني وتشتيت قواه. والمطلوب هو عمل دبلوماسي فلسطيني جدي وتحشيد الرأي الدولي لصالح القضية الفلسطينية، هذه القضية الأكثر عدالة والتي يدافع عنه أضعف محامٍ. كما يجب الوصول الى شراكة حقيقية بين القوى والفصائل في العملين السياسي والدبلوماسي، وتوحيد الخطاب، وتسويق البرنامج الذي تم التوافق عليه، لفك الحصار.

وللوصول إلى عمل دبلوماسي جدي وفعال يجب أن يكون التمثيل لفلسطين، يتحدث الممثل عن فلسطين يحمل قضية فلسطينية وليس تمثيلاً فصائليا، ولا بد من تفعيل دور السفارات والممثليات الفلسطينية في الخارج، وتحديد الاحتياجات التدريبية لرفع قدرات ومهارات الكادر الدبلوماسي الفلسطيني، فلهذا الوجود الرسمي إنجازات للشعب الفلسطيني حققها من خلال تضحياته ولا يجوز التعامل معها باستخفاف، كما يجب حل الازدواجية برسم علاقة واضحة بين منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة، وباعتقادي من الأفضل نقل العمل الخارجي برمته إلى أروقة م.ت.ف، الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، بشرط أن يكون ذلك بإجماع وطني وبعد انضمام حركتي حماس والجهاد الإسلامي للمنظمة.

إن الوصفة المثالية للدبلوماسية العامة الناجحة تتطلب جهود القطاع العام والخاص في الدولة معاً، كذلك تسخير المؤسسات الدولية وغير الحكومية ووسائل الإعلام المحلية والعالمية لخدمة وتعزيز السياسة الخارجية للقضية الفلسطينية، لذلك يجب أن تكون هناك دائرة للدبلوماسية العامة في وزارة الخارجية أو في الدائرة السياسية لمنظمة التحرير الدبلوماسية، تعمل على التشبيك مع كافة المؤسسات الرسمية والأهلية المحلية والإقليمية والدولية، ويكون هدفها المرحلي تحسين صورة القضية الفلسطينية، كما كانت قبل أوسلو وأكثر. والتركيز على تنشيط العلاقة مع الحركة الشعبية العربية وقواها السياسية ومنظماتها الجماهيرية وذلك من أجل استمرار دعمها وتأييدها للقضية الفلسطينية وللنضال الفلسطيني، واتخاذ موقف واضح من مسألة التطبيع العربي مع إسرائيل بدعوة الدول العربية إلى وقف كل أشكال التطبيع معها إلى حين الاستجابة للحقوق الفلسطينية .

ولا بد من إستخلاص العبر وعدم الوقوع في الأخطاء نفسها مرة أخرى. فلا شك أن تحسين أداء الدبلوماسية الفلسطينية يمكننا من الحصول على بعض المكاسب. كما يجب إعادة التفكير في طرق وأدوات محاربة الاحتلال، ومدى نجاعتها في خلق حقائق على الأرض بمكنها من دعم أي مرحلة مفاوضات فيما بعد. كما يجب وضع رؤية واضحة وهدف للأعمال العسكرية، وأن لا تكون فقط من أجل الاستهلاك المحلي، لكسب الشارع الفلسطيني، والتركيز على الجانب الإعلامي والدبلوماسية العامة لإرسال الصورة الحقيقية والرسالة السليمة لاستعادة القضية الفلسطينية مكانتها على المستويين الرسمي والشعبي، العربي والإقليمي والدولي.

لكن يبقى الوصول إلى الهدف، ألا وهو إنهاء الإحتلال واقامة دولة مستقلة على كامل تراب الأرض المحتلة عام 1967 وعاصمتها القدس، وعودة اللاجئين هو المعضلة، في ظل التدابير الإسرائيلية الهادفة إلى تغيير الوضع القائم وفرض الأمر الواقع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، من بناء للمستوطنات وجدار ضم وتوسع إلخ...، وما دام النظام الدولي قائما على ما هو، بتفرد الولايات المتحدة فيه، والتي تدعم بالمطلق المخططات الإسرائيلية. إن الهدف الإسرائيلي والمدعوم أمريكياً هو حشر القضية الفلسطينية بدون حل أو تسوية إلي أبعد مدي زمني ممكن، لسنح الفرصة لإسرائيل للاستمرار في تهويد القدس ومحيطها وضم ومصادرة المزيد من الأراضي الفلسطينية في الضفة لغرض الاستيطان، وتشكيل أمر واقع جديد ينهي الأمل في بناء دولة فلسطينية ذات ترابط جغرافي. وبقى السؤال هل ستيأس الدبلوماسية الفلسطينية يوماً من الدفاع عن قضيتها؟


* باحث في الشؤون الدولية
معهد إبراهيم أبو لغد للدراسات الدولية
جامعة بيرزيت

التعليقات