إنجاز أم إعجاز..

-

إنجاز أم إعجاز..
في نهاية العام الدراسي الماضي وظهور نتائج الامتحانات النهائية، وتسلم الطلاب والطالبات شهاداتهم، أخبرني صديقي الأستاذ الجامعي أثناء وجوده في أحد مكاتب الخدمات العامة في مدينة غزة أنه شاهد أمراً غريباً، فوقف حائراً أمامه وهو يتابع عدداً من الطلاب والطالبات بتصوير شهاداتهم، شده المشهد فسأل صاحب المكتب عن ما يقوم به هؤلاء الطلاب والطالبات، فأخبره أنهم من الذين رسبوا في بعض المواد الدراسية.
 
 وليثبتوا لأولياء أمورهم أنهم من الناجحين، قاموا بتزييف شهادات عن طريق إخراج شهادات جديدة طبق الأصل، بعد أن قاموا بتصوير شهادات زملاءهم الناجحين عن طريق الماسح الضوئي، ووضع أسمائهم عليها.
 
هذا ما أخبرني به صديقي، وما تابعته بالبحث والتقصي مع عدد من الطلاب والطالبات والمعلمين وأصحاب المكاتب التجارية في نهاية العام الدراسي الماضي، وقيام عدد من الطلاب والطالبات بعملية تزييف شهاداتهم، وبمساعدة بعض من أصحاب مكاتب الخدمات من أجل جمع بعض الشواكل؟
 
 وما يجري هذا الفصل من قيام عدد كبير من الطلاب والطالبات في غزة من عملية خداع وغش لمعلميهم بحسن نية أو بقصد للحصول على الدرجات المطلوبة وبمساعدة أولياء أمورهم، وأصحاب بعض المكتبات ومكاتب الانترنت بشراء الأبحاث والتقارير الدراسية وسحبها من الانترنت وتنسيقها وكتابة أسمائهم عليها وطباعتها.
 
بعد القرار الذي اتخذته وزارة التربية والتعليم في غزة بضرورة إنجاز الطلاب والطالبات ما يسمى بملف انجاز الطالب، الهدف منه تعليم الطلاب آلية البحث العلمي، البحث المطلوب يتراوح بين نصف صفحة و5 صفحات مطبوعة بحجم 14 على ورق من نوع 4A، ومن خلال إجراء البحوث يعوّد المعلم طلبته على عمليات العلم، الملاحظة والتنبؤ، والأمانة العلمية، وتوثيق المراجع والمعلومات، وعدم الاعتماد على المواد المنسوخة من الانترنت!
 
وحسب تعريف وزارة التربية والتعليم، "ملف إنجاز الطالب أو حقيبة التعليم المدرسي، أو الحقيبة التقييمية، وملف التعلم، ويحتوي على مجموعة من المقتنيات التي تخبر المعلم والمدرسة عن جهود الطالب وتقدمه وتحصيله الدراسي في مجال من مجالات المنهج".
 
والغرض منه "السماح للمدرس في أن يقوم بعملية تقويم نمو المتعلم في النواحي المعرفية، وتشجيع المتعلم على الاحتفاظ بسجل لتحصيله الدراسي وتقدمه العلمي، وتشجيع المدرسين وأولياء الأمور على التواصل ومتابعة عمل الطالب في المدرسة"، وأهميته تنبع بأنه "يعطي الفرصة للطالب لإظهار نقاط قوته مما يمنحه الثقة بالنفس ويزيد من دافعيته للتعلم، ويحقق التكامل بين عمليتي التدريس والتقويم.
 
ومطلوب من الطلاب والطالبات الرجوع الى المصادر وتعليمهم كيفية التوثيق من المراجع والدراسات، حيث يتابع المعلم ما يكتبه الطالب عن موضوعه، وينقحه ثم يطلب منه طباعته، ويناقش المعلم البحث مع الطالب والطلبة في الحصة المخصصة لذلك، ويقوم أحد أفراد مجموعة البحث أو الطالب الباحث بقراءة البحث أمام زملائه ويطلب المعلم من الطلبة مناقشته وطرح الأسئلة للاستفسار من أجل الفائدة، ويرد الباحث أو أحد أفراد مجموعته.
 
الخطوة التي قامت بها وزارة التربية والتعليم العالي في غزة خطوة طموحة وإيجابية لتعليم الطلاب آلية البحث العلمي، وتعليمهم الرجوع الى المصادر، وتعليمهم كيفية التوثيق من المراجع والدراسات، ومتابعة المعلمين ما يكتبه الطلاب وتنقيحه وطباعته ومناقشته مع الطالب وزملائه، بعد أن يقوم الطالب الباحث بقراءة البحث أمام زملائه و مناقشته وطرح الأسئلة للاستفسار من أجل الفائدة.
 
إلا أن الهدف والغرض من وراء ملف الانجاز لم يتحقق من البداية، فالطلاب لم يتعلموا آلية البحث العلمي والتوثيق لأسباب كثيرة منها، عدم وجود المختصين لتدريس مادة البحث العلمي، ومع غياب المراجع والمصادر في مكتبات المدارس، إن وجدت فالوقت المخصص للمطالعة والقراءة والبحث يكاد ينعدم، في غياب حصة المطالعة، فما بالك عندما يدرس الطلاب والطالبات في الفترة المسائية فالوقت لا يساعدهم على ذلك، وعدم قيام الوزارة بتعزيز و نشر ثقافة القراءة والمطالعة لدى الطلاب والطالبات، وتشجيعهم على زيارة المكتبات المدرسية و العامة والاستفادة منها.
 
 فالوسيلة الوحيدة السريعة المتوفرة لإنجاز الأبحاث هي الانترنت، ومع ذلك فهي غير متوفرة لجميع الطلاب، إذ أن الكثير من العائلات لا تمتلك الانترنت، وغيرها غير مقتنعة بدخول الانترنت بيوتها، ولا تسمح لأبنائهم وبناتهم أن يتصفحوا الانترنت، حتى أولئك المطلوب منهم البحث على الانترنت في مقاهي الانترنت لا يملكون المال والوقت للمطالعة والبحث واستخراج وطباعة الأبحاث اللازمة.
 
 ومع ذلك يقوم عدد كبير جدا من الطلاب باستخراج الأبحاث بالطرق الأسهل بشرائها من خلال المكتبات ومكاتب الخدمات العامة، أو بمساعدة بعض أولياء الأمور الصامتين، وبعضهم يدرك معنى ملف الإنجاز والآخر لا يدرك معناه، وما يقوم به الطلاب من عمليات غش وخداع لمعلميهم بمساعدة بعض أولياء الأمور.
 
 المعلمون يشتكون وأولياء الأمور، واعتبره البعض مرهقاً مادياً ومعنوياً، والطالب لا يدرك معناه والغرض منه، وما يهمه هو الحصول على 15 درجة في نهاية الفصل الدراسي، حتى لو كان بالغش والخداع، والتأثير على الدراسة وتحصيل الطلاب، والاستعداد للاختبارات الشهرية التي أصبحت تمنح 5 درجات.
 
 الخطوة لاقت ردود متباينة من المعلمين والطلاب وأولياء الأمور، الطلاب يسألون عن معنى البحث العلمي والتوثيق، مع العلم أن عددا كبيرا من الطلاب والطالبات لا يمتلكون الإنترنت والطابعة في بيوتهم، وعدم مراعاة الفروق الفردية بين الطلاب وقدراتهم، ولم يؤخذ في الاعتبار قدرة التحصيل الضعيفة لدى بعض الطلاب، وكذلك عدم إيمان وقناعة المعلمين والمعلمات بملف الانجاز، ومن دون تأهيل المعلمين والمعلمات الذين يفتقرون للمعرفة، وآلية البحث العلمي فكيف يعلمون الطلاب علما لا يملكونه؟
 
إصرار الوزارة بملف الانجاز من دون القيام بخطوات تساعد الطلاب على تعلم آلية البحث العلمي والتوثيق، وعدم الأخذ بالأسباب المحيطة كالبيئة، والوضع الاقتصادي والعلمي والمعرفي لأولياء الأمور، و قدرة الطلاب على إعداد البحث وتنسيقه وإخراجه، وبالرغم من عدم رضا الطلاب والمعلمين والمشرفين التربويين، إلا أن الوزارة ما تزال مصرة على الاستمرار في إنجاز ملف الإنجاز الذي يعتبر إعجازاً وليس إنجازاً، وتضييع وقت الطلاب والطالبات.
 
 الخطوة بحاجة الى تنظيم من خلال قيام الوزارة بإجراءات مسبقة وعمل عينات تجريبية لفصول معينة في مدارس معينة، أو عينات عشوائية لعدد من الطلاب والطالبات، أو أن يكلف كل طالب بإعداد بحث واحد في مادة واحدة بدل كل المواد، على أن يكون معلم يدرس مادة البحث العلمي بحصة واحدة في الأسبوع.
 
فكيف نعود الطلاب والطالبات على عمليات العلم، والملاحظة والتنبؤ، والأمانة العلمية، وتوثيق المراجع والمعلومات، وعدم الاعتماد على المواد المنسوخة من الانترنت، وهو يقوم بشراء بحث بعدد من الشواقل، أو يعده له والده أو شقيقه؟ فالغرض لم يتحقق بل ساهم في تعزيز الغش والخداع وعدم الأمانة العلمية!

التعليقات