القضية الفلسطينية بحاجة إلى نقلة نوعية تطوي صفحة الارتهان

في ظل انسداد أفق القضية الفلسطينية، ووسط جهود أمريكية لتحريك عملية التسوية، والضغوط الممارسة على السلطة الفلسطيبنية والعرب لتقديم مزيد من التنازلات، ثمة قناعة راسخة لدى مثقفين ومحللين فلسطينيين أن الحراك الحالي لن يكتب له الحياة، وأن الجهود لدفع عملية التسوية في ظل موازين القوى القائمة والواقع العربي الحالي ستتكسر على صخرة التعنت الإسرائلي. ويعتبرون أن المفاوضات العقيمة التي استمرت على مدى نحو عقدين لن تفضي إلا إلى المزيد من التعقيد وفرض الأمر الواقع وتكثيف الاستيطان ومنح إسرائيل غطاء للاستمرار في سياساتها العدوانية ضد الفلسطينيين. ويرون أن السبيل لمواجهة الجمود في القضية الفلسطينية وإعادة الزخم لها، هو طي صفحة الارتهان لإسرائيل وبلورة استراتيجية فلسطينية وطنية تنظم الحراك الفلسطيني على قواعد وأسس جديدة.

القضية الفلسطينية بحاجة إلى نقلة نوعية تطوي صفحة الارتهان

كاريكاتير - ناجي العلي

في ظل انسداد أفق القضية الفلسطينية، ووسط جهود أمريكية لتحريك عملية التسوية، والضغوط الممارسة على السلطة الفلسطيبنية والعرب لتقديم مزيد من التنازلات، ثمة قناعة راسخة لدى مثقفين ومحللين فلسطينيين أن الحراك الحالي لن يكتب له الحياة، وأن الجهود لدفع عملية التسوية في ظل موازين القوى القائمة والواقع العربي الحالي ستتكسر على صخرة التعنت الإسرائلي. ويعتبرون أن  المفاوضات العقيمة التي استمرت على مدى نحو عقدين لن تفضي إلا إلى المزيد من التعقيد وفرض الأمر الواقع وتكثيف الاستيطان ومنح إسرائيل غطاء للاستمرار في سياساتها العدوانية ضد الفلسطينيين. ويرون أن السبيل لمواجهة الجمود في القضية الفلسطينية وإعادة الزخم لها، هو طي صفحة الارتهان لإسرائيل وبلورة استراتيجية فلسطينية وطنية تنظم الحراك الفلسطيني على قواعد وأسس جديدة. 

المحلل السياسي خليل شاهين: إعادة بناء  منظمة التحرير المدخل لإحياء القضية الوطنية

بات واضحا بعد عقدين من الزمان اتضح فيهما عقم الرهان على إمكانية تحويل مشروع سلطة الحكم الذاتي المنقوص إلى "دولة"، وتهميش منظمة التحرير، وتعميق تجزئة الشعب الفلسطيني داخل وطنه وفي الشتات، ان إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير تعد المدخل الأساسي والضروري لإحياء القضية الوطنية وإعادة تعريف المشروع الوطني وإيجاد المؤسسة الجامعة والقيادة الموحدة، بالاستناد إلى برنامج سياسي يجسد القواسم المشتركة والحقوق والأهداف الفلسطينية.

ولا يمكن لمثل هذا المشروع الوطني أن يكون جمعيا إلا إذا استند إلى حقيقة كون فلسطين التاريخية هي وطن الفلسطينيين جميعا أينما تواجدوا، وأن الشعب الفلسطيني يمر بمرحلة تحرر وطني يعاني فيها من الاحتلال لكل وطنه التاريخي، ومن تشريد أكثر من نصفه داخل الوطن وخارجه، مع أهمية أخذ الظروف والخصائص الخاصة لكل تجمع فلسطيني بعين الاعتبار، في إطار الهوية الوطنية الواحدة والكيان الواحد والبرنامج المشترك والقيادة الواحدة، وعلى أساس أن التمسك بالحقوق التاريخية والطبيعية لا يتعارض مع وضع برنامج مرحلي قابل للتحقيق، لكنه لا يغلق الباب أمام الخيارات والبدائل المختلفة.

إن الاستناد إلى الحقوق التاريخية في ارتباطها بالهوية الوطنية وأرض الوطن، والتي تجمع الشعب الفلسطيني كأساس لمشروع وطني جمعي يعيد إحياء القضية الفلسطينية، لا بد أن يأخذ بعين الاعتبار حتى على المدى القصير أن إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة لا يمكن أن ينجحا بمعزل عن إحياء القضية الفلسطينية وإعادة تعريف المشروع الوطني الفلسطيني، بحيث لا يقتصر على إقامة الدولة الفلسطينية على حدود 1967، وإنما يتضمن إنهاء الاحتلال والعودة وتقرير المصير والاستقلال الوطني والدفاع عن الحقوق الفردية والوطنية للشعب الفلسطيني في الداخل (أراضي 48) والشتات، وفتح الباب أمام البدائل والخيارات الأخرى، خصوصًا مع الانسداد المتزايد لإمكانية قيام دولة فلسطينية والتوصل إلى حل؛ ما يجعل من الضرورة القصوى إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، بحيث تضم الجميع عبر صيغ تمثيلية ديمقراطية تراعي خصوصية وظروف مختلف التجمعات الفلسطينية، وتكون قادرة على تحقيق الأهداف الوطنية.

إن مثل هذا المسار في إعادة بناء مكونات الحركة الوطنية في سياق إعادة تعريف وبناء المشروع الوطني، تتطلب إشراك مختلف مكونات الشعب الفلسطيني في إدارة الشأن والمصير الوطني انطلاقا من التوافق على إستراتيجية شاملة وموحدة للكفاح الوطني، تتيح منح استقلالية واسعة لكل المكونات الرئيسية، وتنمية وسائل الترابط والتفاعل السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي بين هذه المكونات، في مواجهة محاولات اختزال فلسطين كجغرافيا في الضفة الغربية وقطاع غزة، وكتاريخ بإهمال النضال الوطني الجمعي وتجاهل النكبة.

ولا ينبغي لعملية إعادة بناء المنظمة والمشروع الوطني وفق ذلك، أن تغفل في سياق بلورة الإستراتيجية الوطنية الشاملة ضرورة اضطلاع القوى السياسية الفلسطينية في مختلف أماكن تواجد الشعب الفلسطيني بدورها في تحديد أولويات المهات الرئيسية التي على منظمة التحرير بعد إعادة بنائها القيام بها، على أن تتضمن إن لزم الأمر الاستمرار في اختبار مدى واقعية تحقيق برنامج الدولة الفلسطينية المستقلة في الضفة والقطاع وعاصمتها القدس، ولكن مع الانفتاح على رؤية تطرح الدولة الواحدة على فلسطين التاريخية، وإسناد ودعم مطالب وحقوق كل تجمع فلسطيني، واعتماد التعددية والمدنية، وتمثيل كل التجمعات وتبني تطلعاتها، والاستناد إلى التدابير والقيم الديمقراطية، والاستقلالية عن مراكز القوى الإقليمية والدولية، والاستقلالية المالية، والابتعاد عن الزبائنية والريعية، وضرورة إعادة وضع ميثاق وطني جديد، يأخذ بعين الاعتبار التحولات والمتغيرات الواسعة التي دخلت على الوضع الفلسطيني والإقليمي والدولي منذ الستينيات من القرن الماضي.

المحلل السياسي مصطفى ابراهيم: المصالحة وإعادة البناء

خلال السنوات الماضية لم يتوقف الفلسطينيون عن سبل إحياء القضية الفلسطينية للخروج من المأزق والترهل والجمود الذي تعاني منه، من دون التقدم خطوة واحدة الى الأمام، ويزداد الجدل الفلسطيني الداخلي منذ تسعينيات القرن الماضي في مرحلة ما بعد توقيع اتفاق اوسلو، والتغيير الجوهري في النظام السياسي الفلسطيني.

ومع بروز حركة حماس كقوة سياسية جديدة في النظام السياسي الفلسطيني، ازدادت الحاجة إلى ضرورة القيام بتجديد المشروع الوطني وتعريفه والإتفاق على الحد الأدنى في البرنامج السياسي والقواسم المشتركة، لكن المأزق تعمق على أثر الإنقسام البغيض وسيطرة حركة حماس على القطاع، وما ترتب على ذلك من تداعيات وآثار استراتيجية خطيرة على القضية والمشروع الوطني، والفصل بين الضفة الغربية وقطاع غزة، ونوايا اسرائيل بدفع القطاع تجاه مصر ونزعه من حضن القضية الفلسطينية.

البحث في تراجع المشروع الوطني الفلسطيني وترهله لم يتوقف كذلك تفرد حركة فتح في القرار الفلسطيني، وسيطرتها على منظمة التحرير، ومجابهة المساعي لاختزال فلسطين كجغرافيا في الضفة وقطاع غزة، وكتاريخ بإهمال النضال وتجاهل النكبة، وتهميش وتجاهل الفلسطينيين المنتشرين في بقاع الأرض، وضرورة اعادة بناء منظمة التحرير كمنظمة مختلفة في الأساليب والآليات.

وانطلق الفلسطينيون من إعادة إحياء القضية الفلسطينية وإعادة الاعتبار للمشروع الوطني من خلال اعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية التي تعاني من الترهل والفساد والتهميش والإهمال، واستخدامها وقت الحاجة من قبل القيادة الفلسطينية ممثلة بالرئيس محمود عباس، وإعطاء دور كبير للسلطة على حساب المنظمة، وهذا يجب أن يكون مدخلا لإعادة تحديد طبيعة العلاقة بين المنظمة والسلطة على أسس جديدة وعدم تكرار التجربة القائمة حتى الآن بعد اتفاق أوسلو وانسداد الأفق السياسي.

كما لا يمكن أن يكون إنهاء الإنقسام واستعادة الوحدة بمعزل عن اعادة الاعتبار للمشروع الوطني وتعريفه وإحياء القضية الفلسطينية، بحيث لا يقتصر على إقامة الدولة الفلسطينية على حدود 1967، وإنما يتضمن البرنامج السياسي و إنهاء الاحتلال والعودة وتقرير المصير والاستقلال الوطني والدفاع عن الحقوق الفردية والوطنية لشعبنا في الداخل والشتات، وفتح الباب أمام البدائل والخيارات الأخرى، خصوصاً مع الانسداد المتزايد لإمكانية قيام دولة فلسطينية والتوصل إلى حل.

وفي ظل الصراع القائم بين حركتي فتح وحماس على السيطرة على منظمة التحرير الفلسطينية كونها الإطار والكيان والممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وأن تمثيل عموم الفلسطينيين في أماكن تواجدهم في أنحاء العالم في الأراضي الفلسطينية المحتلة، يفوق تمثيلهم من قبل طرف واحد من دون الشراكة الحقيقية للكل الفلسطيني، فلا بد من الاتفاق على إعادة بناء مؤسساتها كمدخل أساسي وضروري لإحياء القضية الوطنية وإعادة تعريف المشروع الوطني وإيجاد المؤسسة الجامعة والقيادة الموحدة، وأن المنظمة كيان جمعي للفلسطينيين يحظى بشرعية واعتراف عربي ودولي، وتمثيله يتجاوز الفلسطينيين تحت الاحتلال.

وفي ظل استمرار المأزق الذي يعيشه الفلسطينيون والقضية الفلسطينية وحال الانقسام وغياب واضح في تعريف الوحدة الوطنية بين مكونات النظام السياسي الفلسطيني وترهل المنظمة المؤسسة الجامعة والممثلة للكل الفلسطيني، يجب اتخاذ خطوات اكثر جدية لإنهاء الانقسام والتوافق في اطار احياء المشروع الوطني الفلسطيني.

وهذا يتطلب السرعة في تحقيق إرادة الفلسطينيين الذين يطالبون بتحقيق المصالحة وإعادة بناء المنظمة وبناء المشروع الوطني من خلال ممارسة الفلسطينيين حقهم في مقاومة الاحتلال، من خلال وسائل وآليات يتم الإتفاق عليها والأخذ بالاعتبار خصوصية كل تجمع فلسطيني في طريقة للتخلص من الاحتلال وتحقيق اهدافهم الوطنية وممارسة تقرير مصيرهم والاستقلال وإنجاز حقوقه الوطنية.

اعادة بناء المنظمة يجب الاخذ بالاعتبار إعادة بناء مؤسسات الحركة الوطنية، والاستفادة من سلبيات تجربة المنظمة وضرورة إشراك كافة قطاعات الشعب الفلسطيني في إدارة الشأن والمصير الوطني عبر منح استقلالية واسعة لكل القطاعات و المكونات الرئيسية، وتجاوز التقاليد والأعراف السابقة لمؤسسات المنظمة القائمة على الحزبية والعلاقات الشخصية.

أستاذ العلوم السياسية في جامعة الأمة-غزة، د. عدنان أبو عامر: خطوات على طريق إحياء القضــــــــية الفلسطـــينية

تمر القضية الفلسطينية في هذه الآونة الأخيرة في حالة من الجمود غير المسبوق، في ضوء جملة من العوامل المشجعة على ذلك، من أهمها:

• استمرار حالة الانقسام الحاصلة بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وانصراف صناع القرار فيهما لشئونها الخاصة، وتدبير أوضاع السكان في كلا المنطقتين،

• وجود حكومة إسرائيلية هي الأكثر يمينية في تاريخ الدولة، وربما يصلح تسميتها "حكومة المستوطنين"، وهو ما ينعكس سلباً على أي حراك سياسي متوقع.

• حالة الإنشغال العربي والإقليمي بالملفات الضاغطة عليها، مما يجعل القضية الفلسطينية في أدنى أجنداتها السياسية، وهذا قد يكون أمراً طبيعياً بالنظر للتبعات المتوقعة على كل ملف منها.

هذه العوامل أنتجت ركوداً سياسياً جعل الفلسطينيين يدورون مع قضيتهم في دائرة مفرغة، دون العثور على كلمة السر التي تجعلهم يخرجون بها إلى رحاب أوسع، وآفاق أرحب، رغم ثقل المهمة، وصعوبة الخطوات.

لكن لا بد من ذلك حتى يكون الفلسطينيون عنصر "تأثير" حقيقي في المنطقة، وليس فقط عنصر "تأثر"، وهو ما يتطلب من صناع القرار الفلسطيني التقدم خطوات سريعة إلى الأمام، حتى لو تم حرق بعض المراحل لتعويض القصور الذي رافقهم في السنوات الأخيرة.

- ومن الخطوات المطلوبة للنهوض بواقع القضية الفلسطينية في هذه الآونة:
• المبادرة سريعاً إلى طي صفحة الانقسام، الذي أدى إلى تشتيت الكلمة، وتمزيق الصف، وتفريق الصوت، ومحاولة وصول الجانبين إلى الحد المعقول في البرنامج السياسي لكل منهما، في ضوء تقاربهما في بعض البنود والملفات، وهو ما يجعلهما أقرب من أي وقت مضى لأن يبرموا اتفاق مصالحة حقيقي ينهض بواقعهم السيئ في الضفة الغربية وقطاع غزة، لاسيما وأن هناك ملفات بحاجة لقرارات مشتركة من الجانبين تخص أوضاع الفلسطينيين في الشتات.

• لابد من مواجهة حقيقية للحكومة الإسرائيلية الحالية، بمختلف الأشكال والوسائل، وهي التي أعلنت منذ اليوم الأول لتشكيلها أنها لن تقدم على أي انسحابات ميدانية من الضفة الغربية من جهة، ومن جهة أخرى لن "تتطوع" بتقديم ما تعتبره تنازلات لاستئناف المفاوضات مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية.

هنا يبدو ما أقدمت عليه السلطة والدول العربية بإعلان تعديل على المبادرة العربية الخاص بتبادل الأراضي، تنازلاً مجانياً بدون ثمن، لأنه لم يلق الآذان الصاغية من إسرائيل من ناحية، ومن ناحية أخرى سيفتح شهيتها على مزيد من التنازلات السياسية الأخرى.

أما عن قطاع غزة، فلم يتوقف أركان الحكومة الإسرائيلية خلال الأيام والأسابيع الماضية عن توجيه مزيد من الاتهامات لمقاومة هناك بضربة عسكرية قادمة، بذرائع واهية، وهو ما يتطلب من الأجنحة العسكرية والقيادة السياسية إبداء قدر أكبر من الهدوء والاتزان والعقلانية في التعامل مع حكومة من هذا النوع، يبدي بعض رموزها ندماً غير خفي على الانسحاب من غزة عام 2005.

• لاشك أن الضغط الذي يجب أن يمارسه الفلسطينيون على عواصم صنع القرار العربي مطلوب ومهم، على اعتبار أن مصالح الولايات المتحدة والدول الأوروبية وسواها قد تكون متضررة في المنطقة إن لم يتم الذهاب نحو حل حقيقي لهذه القضية، وهو ما يجب أن يوصله الفلسطينيون إلى تلك العواصم.

صحيح أن عدداً لا بأس به من الدول العربية لديهم من الأمور الداخلية ما يغنيهم من الانشغالات والهموم، لكن تاريخ هذه القضية منذ العام 1948 يوضح لنا أنها كانت الأكثر تأثيراً وتأثراً بما يحصل حولها من متغيرات وتطورات.

الكاتب والمحلل السياسي  ماجد كيالي: في سؤال الفلسطيني عن البديل

بات سؤال البديل من أكثر الأسئلة إلحاحاً على الفلسطينيين، لاسيما من جيل الشباب الذين لم يعرفوا من التجربة الوطنية الفلسطينية المعاصرة سوى تجربة السلطة، بما لها وما عليها، وبكل ما اعتراها من شبهات الفساد السياسي والمسلكي. وينبغي أن نتذكّر هنا بأن تجربة المقاومة المسلحة، التي تشكّلت في الخارج، والتي تتكئ الفصائل السائدة عليها اليوم في الداخل، انتهت منذ ثلاثة عقود.

بديهي أن ثورات "الربيع العربي" زادت هذا السؤال إلحاحاً بل إنها وضعته على رأس جدول الأعمال، في عديد من الحراكات الشبابية التي شهدتها مدن ومخيمات الفلسطينيين في الداخل والخارج، فهذه الثورات ألهمت هؤلاء الشباب، حتى أن شعار "الشعب يريد"، الذي أصبح بمثابة لازمة ثورية لكل تلك الثورات، طرح أكثر من مرة في المثال الفلسطيني. هذا حصل في الحراكات التي رفعت شعارات: "الشعب يريد إنهاء الانقسام"، و"الشعب يريد انتخابات مجلس وطني"، وفي التحركات التي جرت من اجل العودة السلمية من الخارج ومن الضفة وغزة إلى الأراضي الفلسطينية (2011)، وفي هبّة التضامن مع الأسرى في "معركة الأمعاء الخاوية"؛ التي كشفت عن المخزون النضالي عند الفلسطينيين، هذه الطاقة النضالية التي يجري تجاهلها، أو الاستهتار بها، أو حتى كبحها، من قبل القيادة السائدة في السلطة، سواء في الضفة أو في غزة.

ما يضفي شرعية على السؤال عن البديل انهيار المشروع الفلسطيني، كما جرى التعبير عنه في حلّ الدولة في الضفة والقطاع، بسبب تهرّبات إسرائيل وقيامها بفرض واقع يحول دون قيام دولة للفلسطينيين، ذات تواصل وقادرة على الحياة، بسبب انتشار المستوطنات، وبناء الجدار الفاصل، والطرق الالتفافية، والسيطرة الأمنية، والهيمنة الاقتصادية، وبالنظر إلى عدم حسم المجتمع الدولي مسألة إنهاء الاحتلال، أو حتى فرض وقف جزئي للاستيطان. وأخيراً، ثمة سبب فلسطيني أيضاً يكمن في الارتهان إلى خيار واحد، هو التسوية، المتمثلة بحل الدولة في الضفة والقطاع، وعبر وسائل المفاوضات، بدون استثمار أي عامل من عوامل الضغط لفرض هذا الخيار.

أيضاً، فإن ما يؤكّد على سؤال البديل أفول الزمن الفصائلي، بواقع رسوخ حال الترهّل في البنى والكيانات السياسية الفلسطينية السائدة (المنظمة والسلطة والفصائل) وتآكل مكانتها التمثيلية في المجتمع، وتراجع دورها في مواجهة عدوها، وعدم قدرتها على تجديد ذاتها، على صعيد المفاهيم والبني والعلاقات وأشكال العمل. هذا ينطبق، أيضاً، على ما يسمى "اليسار" الفلسطيني (إذا جاز التعبير)، إذ أن الفصائل المكونة له باتت متماهية، بشكل أو بآخر، مع النظام السياسي السائد، بمفاهيمه وآليات عمله، وحتى أن هذه الفصائل باتت غير قادرة على توحيد ذاتها، وتجديد مفاهيمها، وإضفاء الحيوية على وجودها، فما بالك بتوليد بدائل في الإطار الوطني العام؟

وعلى الصعيد السياسي ثمة أسئلة استراتيجية مازالت القيادة الفلسطينية تتملص في الإجابة عليها، برغم من أهميتها الاستراتيجية، من مثل: هل انتهت مرحلة منظمة التحرير؟ وماذا بعد مرحلة أوسلو؟ ثم ماذا بشأن الخيارات الأخرى وضمنها الانتفاضة والمقاومة والمفاوضة والتسوية وحل السلطة والوصاية الدولية؟ وماهو مصير القضية الفلسطينية والنظام الفلسطيني السائد؟

هكذا ثمة مشروعية للحديث عن البديل، الذي تأخّر كثيراً، في الساحة الفلسطينية، بل وثمة ضرورة ملحّة للعمل الدؤوب في سبيل ذلك، لكن ما ينبغي التنويه إليه هنا، أيضاً، أن الوصول إلى ذلك دونه صعوبات وتعقيدات جمّة، وأن ذلك سيأتي في وقته، أي بعد أن تتوافر له الظروف الموضوعية الملائمة والحوامل الذاتية المناسبة.

وإذا كان النظام السياسي الفلسطيني، الذي بات جد متقادماً اليوم، وليد ظروف عربية معيّنة، لاسيّما أن النظام الرسمي بات منذ زمن بمثابة حارس وحاضن للنظام الفلسطيني السائد، فإن هذا يعني بداهة أن تغيّر هذه الظروف، بنتيجة الثورات العربية، سيدفع بدوره نحو تغيير فلسطيني، وأرجّح أن هذا التغيير لن يتوقّف عند تغيير الطبقة السياسية، وإنما هو سيشمل البني والعلاقات والمفاهيم والخيارات وأشكال العمل، فالنظام العربي الجديد لابد سيتطلب حركة وطنية جديدة، هذا أولاً.

ثانياً، إن من عوامل ترسّخ النظام الفلسطيني طبيعته "الريعية"، لأن هذا النظام لايعتمد في تأمين موارده الذاتية على شعبه، أو على إمكاناته الاقتصادية، بقدر ما يعتمد على الموارد المتأتّية من الخارج، بما يشكله ذلك من ارتهانات سياسية ووظيفية. ما يفاقم من هذه المشكلة أن ثمة حوالي ربع مليون من الفلسطينيين يعتمدون في عيشهم على العمل في السلطة والمنظمة والفصائل، وهؤلاء مع عائلاتهم يشكّلون كتلة اجتماعية وازنة قدرها مليونين ونصف، في دورة اقتصادية "ريعية"، على هامش علاقات الإنتاج التي ينسجها الفلسطينيون في الداخل أو في الخارج. ويخشى أن ثمة قطاعات واسعة من هذه الكتلة قد تجد نفسها، في ظروفها الصعبة، أميل إلى استمرار النظام السائد بأطروحاته وخياراته وبناه وعلاقاته؛ لاسيما في ظل صعوبة إيجاد بدائل للعيش.

ثالثاً، ما يصعّب من عملية توليد البديل الجديد أن المجتمع الفلسطيني يعاني من التمزّق والتوزّع في أكثر من بلد، وانه يكابد من أكثر من سلطة، ما يضعف من علاقات التواصل والتفاعل والتبادل فليما بينهم، وهذا وضع لا يسهّل عليهم التفكير المشترك بالبدائل، ويصعّب من قيامها عملياً.

والمشكلة أن الطبقة الوسطى الفلسطينية لم تنضج بعد إلى الدرجة الملائمة التي يمكنها من إفراز ممثليها وبدائلها، وأنها لم تستطع إيجاد منابر مستقلة تعبّر من خلالها عن ذاتها، وتطرح رؤاها على المجتمع. مع كل ذلك ربما أن التطور في تكنولوجيا الاتصال والمعلوماتية وفي وسائط التواصل الاجتماعي باتت تتيح للفلسطينيين مجالاً أوسع للتغلب على العوائق الحدودية والسلطوية، ما قد يمكّنهم من التواصل والتفاعل وتبادل الآراء واقتراح الشعارات وأشكال العمل وطرح التصورات، تمثّلاً بالتجارب الشبابية المماثلة في الثورات العربية.

رابعاً، إن أي بديل سيحتاج بداهة، بعد كل هذه التجربة المهيضة، إلى مشروع وطني ملهم، يجاوب على أسئلة الفلسطينيين في كافة أماكن تواجدهم، ويوقظ الحلم مجدّداً عندهم ويحفّز هممهم، بعد كل هذا الضياع والإحباط، على أساس تضمين قيم الحقيقة والعدالة والكرامة. وبديهي أن هكذا مشروع يتطلب الإجابة على سؤال اللاجئين بالعودة، وعلى سؤال الفلسطينيين في الضفة وغزة بالتحرر من الاحتلال، وعلى سؤال فلسطينيي 48 في الكفاح ضد العنصرية وحقهم في المساواة الفردية والجماعية، بما يطابق بين قضية فلسطين وأرضها وشعبها، وبما يعيد لحركتها الوطنية طابعها كحركة تحرر وطني بعد أن طغى عليها طابعها كسلطة تتعايش مع الاحتلال.

ومعلوم أن أي بديل سيتطلّب بداهة، أيضاً، القطع مع الكيانات السياسية المتقادمة، التي تآكلت مكانتها في المجتمع ولم يعد لها أي دور في مواجهة إسرائيل، ولا تقدم أي إضافة للفلسطينيين كنموذج، ما يفترض إعادة صوغ الكيانات السياسية الفلسطينية، على أسس وطنية، ونضالية ومؤسسية وديمقراطية وتمثيلية.

هكذا سيأتي البديل، لكن في أوانه، أي بعد توافّر شروطه وحوامله المجتمعية والسياسية.
 

التعليقات