اللاجئون في الوطن.. صورٌ لا تُمحى ونكبةٌ مستمرة!

في عمره وهو الذي تجاوز الـ 83، لا زالَ الحاج أبو فهيم، عبد الرحمن كيال، يزورُ قريته المهجّر أهلها البروة، كي يستأنِس بالموتى الأحياءِ فيها، إذ لم يبقَ في هذه القرية - التي كانت عامرة بأهلها قبل نكبة العام 1948 – إلا المقابر والحجارة المتناثرة في أرضِ المكان، البيوت سُويت بالأرض في أوائل الخمسينيات، وفي المكان بضعُ شجراتٍ شاءَ المُحتل الإسرائيلي أن يستظل تحت ظلها عندما يطأُ المكان، بينما تعيثُ الأبقارُ والأغنام وهي مُلكُ المزارعين اليهود الذين احتلوا منطقة البروة(أحيهود)، وأقاموا بيوتًا ومزارع لهم ولحيواناتهم.

اللاجئون في الوطن.. صورٌ  لا تُمحى ونكبةٌ مستمرة!

في عمره وهو الذي تجاوز  الـ 83، لا زالَ الحاج أبو فهيم، عبد الرحمن كيال، يزورُ قريته المهجّر أهلها البروة، كي يستأنِس بالموتى الأحياءِ فيها، إذ لم يبقَ في هذه القرية - التي كانت عامرة بأهلها قبل نكبة العام 1948 – إلا المقابر والحجارة المتناثرة في أرضِ المكان، البيوت سُويت بالأرض في أوائل الخمسينيات، وفي المكان بضعُ شجراتٍ شاءَ المُحتل الإسرائيلي أن يستظل تحت ظلها عندما يطأُ المكان، بينما تعيثُ الأبقارُ والأغنام وهي مُلكُ المزارعين اليهود الذين احتلوا منطقة البروة(أحيهود)، وأقاموا بيوتًا ومزارع لهم ولحيواناتهم.

الحاج أبو فهيم، بعزيمته القوية ولباقته في الحديث، وحزنه الظاهر في كلماته لم يزل يحفظ ويحتفظ بكل شيء، يحفظُ التاريخ القديم الذي حوّله إلى لاجئٍ مِن البروة المهجّرة إلى مقيمٍ في قرية الجديدة المكر مع عائلته، ويحتفظ بصورٍ وذكريات في مخيلته، ويحملُ بين يديه خارطة البروة بعوائلها التي سكنت البلدة قبل تهجيرهم، وفي يده الثانية مفتاح بيته، وبطاقته الانجليزية، هكذا يظلُ المفتاح يرافقه، كما قال: "طلبتُ مِن أبنائي أخذ مفتاحي معي إذا ما فارقتهم".

شاهدٌ مِن أهل البروة!

هو عبد الرحمن محمد أحمد كيال، مولود في قرية البروة في السادس عشر من أيلول عام 1930، والدته تدعى لطيفة صالح هواش، وهي أيضًا مولودة في البروة.

عن بروته يقول: "كان عدد سكان البروة في العام 1948، 1800 نسمة، وكان قد تزوّج أشقائي قبل النكبة، حيثُ كُنا نعمل في الزراعة، فنزرع القمح والبطيخ والشمام والصبر والتين، ونبيعه في سوق كفر ياسيف أو عكا، وامتلك أهلُ القرية في حينه أكثر من 5 آلاف رأس من الأغنام والأبقار. وعن بيت عائلتي الذي كان مبنيًا من القناطر، والسطح من خشب وتراب مطيّن. بيوت القرية كانت متقاربة جدًا، ومن بين عائلاتها: كيال، درويش، سعد، ميعاري، وسكن البروة مسلمون ومسيحيون، وكان في القرية ثلاثة مخاتير قبل وقوع النكبة، اثنان من المسلمين هم: محمد صالح المختار والحاج حسن الدرويش (أبو نظيم)، أما المختار المسيحي فهو جاد الرضوان، أبو كريم سكس، وفي البروة كانت هناك مدرسة التعليم فيها إلزامي، وكان هنالك مسجدٌ وكنيسةٌ، وكانت طفولتنا حافلة باللعب الطفولي الجميل".


ويتابع: تاريخ البروة حافل بالاحتلال، والتاريخ الفلسطيني حافلٌ بالنكبات، لكنّ نكبة العام 1948 هي الأقسى والأسوأ، إذ لم يُجرم احتلال، كما فعل الاحتلال الإسرائيلي، وأقربُ التواريخ الينا هي القرن التاسع عشر، حين احتلتنا تركيا ثم اندحرت، ليأتي الإنتداب البريطاني بعدها، ليحوّل اليهود مِن 6% في العام 1918، إلى 33% في العهد البريطاني، وبعد اتفاقية سايكس بيكو "الغادرة"، جاءت نكبة العام 1948، كان اليهود قد تحولوا إلى قوةٍ في أرض فلسطين، وأصبح بينهم مسلحون ومنظمون في الجيش"، بلهجته العامية يتابع: "مش زي حكايتنا، إنّ مسك الواحد البارودة وضرب ع "تل الفخار" ما بصيبوش. وهكذا بدأ اليهود بحيفا ثم عكا وتوجهوا شرقًا نحو المكر، الجديدة، جولس، يركا، أبو سنان، فسلّم الفلسطيني، بلا حيلة".

ويضيف الحاج أبو فهيم: "في ليلة الحادي عشر من حزيران عام 1948، كانت بداية المعركة، فقد تمّ احتلال البلدة، فخرج منها كثيرون وبقي البعض في البلدة، ثم جاءَ تاريخ 23 أيار، ليدخل جيش الإنقاذ ويهاجم البلدة ويحررها، أما عائلتي فقد خرجنا في الهجوم الأول إذ أحاطتنا ثلاث مصفحات، تركوا لنا الطريق شرقًا كي نخرج، يومها أخذت البقرات وأغلقت باب بيتنا، وأخذت المفتاح معي، شقيقتاي، واحدة حملت وعاء الماء والأخرى حملت وعاء الزيت، وعلى حمارين وضعنا بضع فرشاتٍ وأغطية، وركبنا الفرس وخرجنا إلى قرية شَعب. وتحت أشجار الزيتون أقمنا، وفي شهر تموز انتقلنا الى زيتونات مجد الكروم، وفي الحادي عشر من الشهر هوجمت الدامون وطمره وشعب وميعار وتمّ احتلال معظم أجزاء سخنين، وفي 28 تشرين أول سقط الجليل كله".  ويصف الحال قائلاً: "كانت حياتنا صعبةٌ جدًا، كانت كل عائلة تستظل بظل شجرة، وأنا كنت أسرح بالأبقار، ونأكل الخبز والحليب".

مقتل فاطمة كسر ظهري!

يعود بي الحاج أبو فهيم إلى قصة مقتل شقيقته فاطمة: "بتاريخ 23 حزيران، كان عمرها 25 سنة، عادت من زيتون شعب إلى البروة مع زوجها، لإحضار البقرات، فلمحهم المحتلون اليهود وأطلقوا النيران صوبهم، وعلى الأكتاف نقلوهما من شرقي البروة، ثم ماتت بعد فترةٍ وجيزة، أما زوجها فمات في العام 1951 مريضًا متحسرًا على بيته وأرضه وزوجته والعائلة".

يتابع: وفاة شقيقتي كسر ظهري، وهدّ جزءًا كبيرًا من عزيمتي هكذا تفرق شملُ العائلة، وتفرق أهل البروة صاروا غرباءً في الوطن، رغم احتضان سكان البلدات العربية للاجئين حيثُ لم يعد هُناك مقيمٌ دائم، كلنا تفرقنا في الوطن،  بعض البراويين سكنوا في جديدة أو المكر، أو كفر ياسيف، كابول وغيرها من الأماكن داخل الوطن، ومَن كان يملك النقود رحل إلى لبنان، ولا يزال يأمل بعودته إلى بلدته الحبيبة".

أما عائلتي- يقول:  سكَنَت في مجد الكروم عام 1952، وبعدها انتقالنا إلى المكر، حيثُ سكننا في براكية، وتزوجت هناك، ثم انتقلت الى بيتي الحالي في جديدة، وأنجبت 13 ولدًا وبنتاً، وعملت أكثر من ثلاثين عامًا في البناء، لأبني بيتي، وأنا الذي كنتُ أملك 60 دونمًا قبل النكبة، أعيشُ على فتاتٍ، وهم يتمتعون بأرضنا وبالخير كله، فهل هناك عدالة في الأرض؟!" 

يتابع: "أليسَ مؤلمًا أنّ تُدمّر القرية عن بكرة أبيها في العام 1953، بفعل بلدوزر احتلالهم، ويسرقون خيراتنا، ويعيثون في الأرض فسادًا وخرابًا هم وأبقارهم، فقد تحولت القرية الى مستوطنة أحيهود، ويعيشُ سكانها اليهود على تربية الأبقار والمواشي، ويسرحون بها في أرض البروة فيدوسون بأقدامهم وحيواناتهم أمواتنا".

بعد سرد تفاصيل حياته في البروة تدمع عيناه، وهي التي أصابها الجفاف بغياب الوطن والأهل، ويقول: "لو ينطق الحجر، الذي كان بيتًا لنا، لحدثك عن الخيرات التي كانت تعم قرية البروة، القمح الذي يملأ الخوابي والزيت والخيرات الكثيرة، كلها ضاعت مِن بين أيدينا، لكنني على الأقل أحتفظ بمفتاح بيتي الذي أغلقته بنفسي قبل رحيلنا عنه، ويحضُرنا الآن ما قاله أحدهم لنساء البروة حين قال لهن: "سنغيب من يوم الأحد حتى الخميس، لنعود إلى قريتنا"، فتساءلن بدهشة: "عزا بدنا نضلنا ليوم الخميس؟!" استكثروا أسبوعا، وإذا بنا نمكث 65 سنة، نحرم من أرض الآباء والأجداد، فأيُ خطيئة في العالم تستحق أن يُحرم الفلسطيني من أرضه، ويعيش في المخيمات ويذوق المر والويلات؟!".

ويذكّرني أبو فهيم أنّ  البروة  هدمت ثلاث مرات في تاريخها، الأولى على يد البيزنطيين والثانية على يد الفرس، والثالثة على الصليبيين،  "وأنا متأكدٌ أن حلم العودة قريب، أملي كبيرٌ بعودتنا إليها، ليس فقط أمواتًا، بل أحياءً، فهمة الجيل الجديد عظيمة، وتحفُر من الصخر بيوتًا وواقعًا جميلاً،  ولا شيء يصعُبُ تحقيقه، كما لا يمكنهم منعنا على الأقل من الحلم،، الذي سيتحول إلى حقيقة حين يعود اللاجئون إلى ديارهم".

التعليقات