سوسيا: نكبة مستمرة وصمود بنكهة التراب

هذا الصمود ومعاناة اللجوء وهواجس التشريد والتهجير رأيتُهُ في عينيّ الطفلة لارا، أبنةُ قرية سوسيّا، جنوب الخليل، التي أخذت تلعب بمرح مع أترابِها، وتغني "فلسطيني، فلسطيني، أنا دمي فلسطيني.

سوسيا: نكبة مستمرة وصمود بنكهة التراب

في سوسيّا وُلدت لارا، بعد أن تمّ تهجير أهل قريتها عدّة مرات قسرًا

حين تطأ قدماك تلك القرية، أو 'الخربة'، تمتزمج رائحة الأرض الجافة بمشهدٍ للخيام المكدّسة، بألوانِها الترابيّة المتنوّعة، المتسمّرة تحت أشعة الشمس الحارقة في شهرِ تموز، تستذكر نكبة فلسطين، فما إن ترى الخيام المتفرقة على هذه البقعة الجغرافيّة الضيقة من الأرض، وقلّة قاطني هذهِ الخربة التي لا يتجاوز عددهم 400 نسمة، تدرِكُ أنّ للحياة طعماً آخر غيرَ مذاق المياه المُصفّاة من عوالق الكلس، إنّه صمود بنكهة التراب.

هذا الصمود ومعاناة اللجوء وهواجس التشريد والتهجير رأيتُهُ في عينيّ الطفلة لارا، أبنةُ قرية سوسيّا، جنوب الخليل، التي أخذت تلعب بمرح مع أترابِها، وتغني 'فلسطيني، فلسطيني، أنا دمي فلسطيني'.

ربّما لارا لم تفقه يومًا بسبب صغرِ سنّها أنّ كلمات هذهِ الأغنية ستكونُ سببًا في سلبِ حقوقها الإنسانيّة الأساسيّة منها، وتدمير قريتها بالكامل عدّة مرات، ولكنّها أيقنت حين كانت في قاعِ التلّة، أنّ هناك آلة عسكرية مدرّعة تتربصُ فوقها، حتى وإن كانت تتأرجح لتمارس طفولتها ببراءةٍ مُطلقة.

الموتُ الحي

في سوسيّا وُلدت لارا، بعد أن تمّ تهجير أهل قريتها عدّة مرات قسرًا، وها هي اليوم تنطق: 'لن نرحل سنموت هنا'، إنّ حديث هذهِ الطفلة عن الموت -الذي لا يجب أن تفكّر بهِ طفلةٌ في عُمرها البتّة-، أتى بعد أن طلبت سلطات الاحتلال الاسرائيليّ من المحكمة العليا بتاريخ 4.5.2015، بهدم قرية سوسيّا، تحت ذريعة عدم وجود بنية تحتيّة.

هذهِ الذريعة كما يصفها رئيس مجلي قروي سوسيّا، جهاد النواجعة، أنها متنوعة، فتارةً تلبسِ ثوب الحفاظ على سكان قرية سوسيّا لأنهم يعيشون قرب الماشية وهذا ما قد يضرّ بصحتهم، وتارةً أخرى، يتنكرون بزيّ الحفاظ على التراث، وفي حجةٍ أبعد، يدّعون فيها الحفاظ على حقوق الإنسان والمرأة، في حين يريدون أن يهدموا الخيم والمُغر على رؤوسِ أصحابها.

وعن المعاناة التي تتعرض لها بشكلٍ يوميّ، تقول إحدى نساء قرية سوسيّا، زين النواجعة، والحسرة تملؤها: 'حين يرى المستوطنون أي أحد من الفلسطينيين يقومون بقتلهِ، حتى وإن كانت فتاة، أو عجوز، نحن نتعرّض للذل، وهذا لا يتوقف على البشر فقط، كذلك الكلاب تم استهدافها رميًا بالرصاص، والبيوت احترقت بعد أن تسللوا اليها مشعلين بها الكاز'.

تشرّع التمييز 

وتتابع النواجعة لتلمس ألمها في سلب كرامتها الإنسانيّة بحروفٍ مفادها أنّها صامدة لأنّ هذهِ أرضها وهي ملك لها وحق، بينما الحياة المرغمة عليها، لا يقبل بها الحيوان، فهي تنصب خيمتها في الثلج والشمس وتتعرض لأقسى الظروف الخارجيّة.

 يقول جهاد النواجعة وهو يشيرُ بيديهِ: 'أعمدة الكهرباء والهاتف، وخطوط المياه لا تبعُد سوى بضعة أمتار عن سوسيّا، يُمكن لدولة الاحتلال أن توفر البنية التحتيّة لكنها لا تريدُ امدادنا بالحياة الكريمة '.

كان مشهد أهالي القرية يؤكد أنّ الحياة التي يعيشونها برُمّتها تتنافى وتتعارض مع وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الصادر عن هيئة الأمم المتحدة عام 1948، حيث توفر  إسرائيل 'لمواطنيها' ما يتوافق مع الميثاق بل يزيد نحو إغراقهم بالرفاهية، في حين تخترق فيه جميع البنود تقريبًا، حين يتعلق الأمر بالسكان الفلسطينيين، فهي تشرّع التمييز على خلفية العنصر، اللون، الجنس، اللغة، أو الدين، وتمنع حق الفرد في الحفاظ على حريتهِ وأمانهِ الشخصيّ، بل وتمارس المحاكم انتهاكًا للبند العاشر من الميثاق ' لكل إنسان على قدم المساواة التامة مع الآخرين، الحق في أن تنظر قضيته محكمة مستقلة محايدة، نظرا منصفا وعلنياً'.

تاريخ سوسيّا

قرار المحكمة يعني أنّ هناك قرابة 50 عائلة فلسطينيّة مهددة بالتهجير من أرضها، وإنذارها بإخلاء بيوتها أمر وارد في أيّ لحظة، فوفقًا للتخطيط الاسرائيليّ، يريدون ترحيل أهالِ سوسيّا إلى بلدة يطّا المحاذية، من أجل إقامة وتوسيع مشاريع المستوطنات وتضييق الخناق على الفلسطينيين، بينما هي أرض مُسجّلة في 'الطابو' العثماني لصالح أهالي سوسيّا، كما تقول زين النواجعة، فسوسيّا قبل جميع المستوطنات كانت موجودة، وحين استولوا عليها واضطروا للرحيل عدّة مرات منها.

تاريخ تهجير القرية لأول مرة ، كما يفيد المواطن نصري نواجعة، يعود إلى عام 1948، حين تم تهجير السكان في النكبة الفلسطينيّة، ثم عادوا بعد ذلك إلى قريتهم، وفي سنة 1953، تم تعديل الحدود مع الأردن، فهجروا مرّة أخرى بالكامل.

رُحِّلوا سنة 1986 لأراضِ زراعيّة تتبع لسوسيّا، وتبعد عنها 300 متر، وما بين سنوات 1993-2001 تعرض أهالِ القرية لعدّة عمليات تهجير، وفي عام 2001 قررت المحكمة العليا بإرجاعهم لأرضهم وتقديم طلبات ترخيص، ولكنهم قدموا عدّة طلبا وفقاً لأكثر من قانون، منه بريطاني وعثماني وأردني، لكنهم قوبلوا بالرفض، في محاولة خامسة لتهجير سكان سوسيّا، من قِبل قرار محكمة العدل العليا ذاتها.

إن سلب الممتلكات والتهجير، لا يعني للطفلة لارا شيئًا سوى أنّه سيحرمها من ألعابها وأرجوحتها 'أنا بدي أظل هون، في مراجيح وفي ألعاب العبها، يعني إذا هدّوا كل البيوت في سوسيّة بتصير الهم المراجيح والألعاب'، وفي لحظاتٍ تتذكّر فيها زين النواجعة، تاريخها حين حطت هي وثلاثة عائلات إضافية في منطقة سوسيّا، ليتربص جيش الاحتلال بها وبعائلتها.

الملاحقة لهم أدت إلى قتل ابن عمها بالرصاص، ورحيلهِ خلّف 12 ابنا وابنة أيتاما، فالتربص لم يتوقف عند هذا الحد بل كذلك استهداف أرزاق أهل القرية، أي الأغنام والمواشي.

حرب وجودية

رغم كل الظروف القاسية التي يعاني منها أهالِ سوسيّا، إلا أنهم يتمسكون جيداً بأرضهم، عبر نضالهم الطويل وصمودهم، فالنضال الذي يخوضونه حرب نفسيّة مستمرة، تحاول أن تحطم من عزيمتهم لكنها تفشلُ دوماً، وما يبرهنه ذلك وجود نبض للحياة من خلال إقامة مشروع صغير تعملُ فيهِ النساء في حياكة ملابس وحلي تراثيّ، وبيعهِ، في مغارة تم حفرها بالصخر في أيديهم المتواضعة على مدار فترة زمنيّة طويلة.

يشير المنسق الإعلامي وعضو لجنة إقليم يطّة محمد الديرواي،  إلى أنّ الفلسطينيين في االضفة الغربيّة، يُحرمُ معظمهم من دخول الخط الأخضر، وبذلك عدم مقدرتهم على التوجه للمحكمة العليا، ويتابع طالبًا بكل حرارة: 'ولكن يمكن لأهل في الداخل الفلسطيني التوجه، ونحن نعمل على تكوين مجموعات، وتوجيه دعوات شخصيّة'.

التمسّك بالأرجوحة

ومن جهتهِ، يدعو جهاد النواجعة، إلى تكثيف الحراك في الداخل الفلسطيني، وبشكل خاص في الوقوف مع قضية سوسيّا، في تاريخ 3.8.2015 أمام المحكمة العليا، والتوجه بغزارة في هذا اليوم تحديدًا لطلب الأحقية في هذه الأرض، من محكمة ليست بالعادلة للشعب الفلسطيني.

قد ينتهي المشهد هنا، لكن الطفلة لارا تبقى تنظرُ لأرجوحتها، خوفًا من استيلاء الآلات الكبيرة الفتّاكة عليها، فهذهِ الآلات حتى إن تشابهت بلونِها مع زيت الزيتون، تبقى غاصبة للطفولة التي تحملها لارا في أعماقها، ستنتظر لارا قرار المحكمة العليا، لتبثّ في مصير مستقبلها، سعادتها، طفولتها، راحتها، هي وأهلِها بأسرهم، فكيفَ لمحكمةٍ أن تعيد التفكير في منح الحقوق لأصحابها؟.

ثّمّ أنّ هناك شيئًا في لارا يقولُ لها إنّ التمسّك بالأرجوحة، رغم عدم ثباتها، أفضلُ بكثير من التنازل عنها من أجل الوقوف على أرض الذل، بثباتٍ وأمان.

التعليقات