جميل هلال: هناك حاجة لإعادة بناء الحقل الوطني الذي فككه أوسلو

كيف تحول صراع التحرر الوطني إلى صراع على حدود المعازل التي تديرها السلطة؟ | لم يبق من منظمة التحرير سوى اسمها بعد أن ابتلعتها سلطة الحكم الذاتي

جميل هلال: هناك حاجة لإعادة بناء الحقل الوطني الذي فككه أوسلو

جميل هلال

* كيف تحول صراع التحرر الوطني إلى صراع على حدود المعازل التي تديرها السلطة؟

* لم يبق من منظمة التحرير سوى اسمها بعد أن ابتلعتها سلطة الحكم الذاتي

* السلطة انشطرت إلى نصفين، معازل مجزأة تديرها فتح في الضفة وغيتو غزة تديره حماس

* بمنظور تاريخي، الاستعمار الاستيطاني فشل في القضاء على الشعب الأصلاني أو تهميشه

* اليوم يوجد في فلسطين التاريخية فلسطينيون أكثر من اليهود الإسرائيليين


كشف التصعيد الأخير الذي تشهده الضفة الغربية المأزق الذي تعيشه حركة التحرر الوطني الفلسطينية، وتناقض مصالح أطرافها وتغلبها على التناقض الأساسي مع الاحتلال.

وهذا المأزق، الذي ولد مع أوسلو، تفاقم مع الانقسام السياسي والجغرافي الفلسطيني والفشل المتكرر لمحاولات المصالحة الفلسطينية- الفلسطينية ونشوء واقعين سياسيين جغرافيين وسلطتي حكم ذاتي في كل من الضفة والقطاع، لا يحملان معا أو كل على حدتها أي أفق لنشوء دولة فلسطينية مستقلة.

حول هذه المواضيع والتحولات التي شهدتها الساحة الفلسطينية وآفاق المستقبل، كان هذا الحوار مع الباحث في علم الاجتماع السّياسيّ، جميل هلال.

عرب 48: التصعيد الأخير وما رافقه من مظاهر هو واحد من مؤشرات كثيرة لتحولات عميقة في البنية السياسية الفلسطينية، ربما أحدثتها سنوات أوسلو وحالة الارتياح السياسي على كراسي سلطتها؟

هلال: هناك تحولات عميقة دخلت الحقل السياسي الفلسطيني بعد اتفاق أوسلو، تمثلت بانتهاء، فعليا، دور منظمة التحرير الفلسطينيّة، التي هيمنت على ذلك الحقل، وتولي السلطة الفلسطينية التي قامت، وفقًا للاتفاق المذكور، دورًا محوريًا بإعادة صياغة الحركة السياسية الفلسطينية، بحيث همشت إلى حد بعيد المؤسسات الوطنية الجامعة، وركزت جهدها ضمن حدود دورها كحكم ذاتي على تعزيز سلطتها في ما حدد لها في مناطق في الضفة والقطاع فقط، مركزة على بناء أجهزتها ومؤسساتها وفق حدود اتفاق أوسلو في ظل مواصلة إسرائيل سيطرتها على مختلف مناحي الحياة الرئيسة.

ومع قيام السلطة الفلسطينية، انتقلت عملية صناعة "السيطرة" في إدارة مناطق "أ" و"ب" وقطاع غزة إلى السلطة الفلسطينية، بعد أن غيّبت هذه، كما قلت، فعليا دور ووظيفة مؤسسات م. ت. ف وأطرها الجماهيرية والمهنية بالكامل. تم هذا في سياق "وهم" أنها كسلطة ليست سوى لبنة الدولة المستقلة الآتية لا محالة على الضفة والقطاع.

لهذا السبب، انشغلت منذ قيامها بمنح نفسها تسميات الدولة المستقلة ورموزها، وتحول هذا الوهم إلى سيطرة "حالة إنكار" على القائمين على السلطة والعديد من مؤسسات المجتمع المدني، بحيث حالت دون رؤية أن ما يجري على الأرض، من استيطان وطرق التفافية وجدار عزل وتقطيع أوصال وبناء معازل واعتقالات وحصار من قبل إسرائيل، هو تقويض لمقومات ولإمكانية قيام دولة فلسطينية على جزء صغير من فلسطين التاريخية.

خرجت السلطة من حقل سياسي وطني يخيم عليه خطاب التحرير والمقاومة، ويقيم ائتلاف فصائل سياسية مسلحة، ويتسم بالتعددية السياسية والفكرية والإعلامية يتمتع بدرجة عالية من القدرة على التحشيد والتنظيم المستند إلى التسييس الجماهيري، لتدخل في حالة حكم ذاتي محدود الصلاحيات يسمح لها باحتكار استخدام العنف لتعزيز سيطرتها على المناطق المحددة، لكن ضمن محددات الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي المانع لممارسة الشعب الفلسطيني لحقوقه التاريخية والوطنية، بما فيها ممارسة السيادة على إقليم وطني يقل عن ربع مساحة فلسطين التاريخية.

باختصار، لم تعد م. ت. ف، بمؤسساتها وأطرها المختلفة وبفصائلها المتعددة ومقراتها في "الخارج" وامتداداتها في "الداخل" هي التي تهيمن على الحقل السياسي الفلسطيني كحقل جامع، وإنما سلطة حكم ذاتي محدود تحتكر شرعية "العنف" الداخلي، مع بقاء السيطرة الكلية بيد الدولة الاستعمارية الاستيطانية (إسرائيل).

كما أرادت إسرائيل من السلطة الفلسطينية وظيفة رئيسة وهي حماية أمنها وأمن مستوطنيها (وهذه هي وظيفة ما يسمى بالتنسيق الأمني)، ورفع كلفة إدارة الاحتلال عنها وإحالتها إلى السلطة، وهذا ما تم. وبحكم سيطرة إسرائيل على الموارد الطبيعية في الضفة والقطاع وسيطرتها على المعابر والطرق والأجواء، بقيت السلطة غير قادرة على تمويل ذاتها وتقديم خدمات أساسية لمواطنيها دون الاعتماد على المساعدات والتحويلات الخارجية، بما في ذلك تحويلات إسرائيل من الضرائب التي تجبيها لصالح السلطة (المقاصة)، والتي تستغلها كأداة للضغط السياسي ودون تردد أو حرج.

إلى جانب ذلك، هنالك تحوّلات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية هامة داخل مجتمع الضفة الغربية وقطاع غزة، كتبت عنها في أكثر من مجال، هذا خارج التهميش الذي تمأسس بعد السلطة، لدور التجمعات الفلسطينية في الشتات وفي الـ48.

من توقيع اتفاق أوسلو (أ ب)
من توقيع اتفاق أوسلو (أ ب)

عرب 48: لا يكفي أن أوسلو استثنى التجمعات الفلسطينية في الشتات وفي الـ48 وقسّم الضفة الغربية إلى ثلاث مناطق، فقد أحدث الانقسام عملية فصل جغرافي سياسي بين الضفة والقطاع أيضًا.

هلال: مأزق أوسلو وانسداد الأفق أمام مشروع إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة فعلية في الضفة والقطاع أفقد الحقل السياسي إمكانية أن يشكل له مركزًا دولاتيًا (من الدولة) سياديًا، وهذا سرَّع في تفكك الحركة السياسية الفلسطينية إلى مكوناتها الجغرافية - السياسية. وساهم فوز حركة حماس في انتخابات المجلس التشريعي سنة 2006 وفرض سيطرتها على قطاع غزة في 2007، في انقسام سلطة الحكم الذاتي إلى سلطة على أجزاء من الضفة الغربية وأخرى في القطاع، وكلاهما محتلٌ وخاضع لسيطرة دولة استعمارية استيطانية تفرض سيطرتها الكاملة بالقوة على جانبي "الخط الأخضر". وهنا، اكتمل تفكك الحقل السياسي الوطني الفلسطيني إلى حقول محلية وفق الواقع السياسي-الجغرافي للتجمعات الفلسطينية الرئيسة.

وكان لتفكك الحقل السياسي الوطني تداعيات مختلفة، منها تغييب المؤسسات الوطنية والأطر الجماهيرية أو القطاعية المُمثِّلة للكل الفلسطيني، وحلت محلّها نخب سياسية ذات نزعة محلية ضيقة (رغم ادّعائها غير ذلك)، وباتت القيادات المحلية تستمد "شرعيتها" من مواقعها الحزبية السياسية والتنظيمية الحالية أو السابقة (رأسمال سياسي رمزي في معظمه)، ومن التعاطي الدبلوماسي معها من طرف الدول والمحاور الإقليمية والمؤسسات الدولية أو من رأسها المالي أو العشائري أو المحلي.

كما هيمن خطابٌ محلي وإقليمي ودولي يختزل فلسطين في الأراضي المحتلة عام 1967، أي الضفة الغربية وقطاع غزة، ويختزل الشعب الفلسطيني للمقيمين في هاتين المنطقتين، ما يهمَّش الشتات الفلسطيني والفلسطينيين داخل الخط الأخضر. وحلّت ذهنية الموظف محل ذهنية المناضل بعد أن تحول معظم كوادر الحزبين الأكبرين (فتح وحماس) إلى موظفين في القطاع الحكومي في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة.

كما استفحلت النزعة الاستهلاكية لدى الطبقة الوسطى التي نمت مع نمو مؤسسات السلطة والمنظمات غير الحكومية ومؤسسات القطاع الخاص الحديث (بنوك أو شركات تأمين وإلكترونيات وإعلام)، ومع استفحال النيوليبرالية في اقتصاديات الضفة والقطاع، وبخاصّة مع تسهيل الاستدانة من البنوك.

وباتت الأجهزة الأمنية في كل من الضفة والقطاع تتمتع بحجم كبير من العاملين فيها، وحصتها من الموازنة العامة، كما ترسخت السمة الريعية للسلطتين من خلال الاعتماد على المساعدات والتحويلات الخارجية وتنامي تأثير رأس المال الخاص في اقتصادهما.

عرب 48: أنت تقول إننا تنازلنا عن إنجازات ومقومات وبنية حركة التحرر الوطني دون أن نضمن أفقًا سياسيًا لدولة مستقلة، فخسرنا الماضي قبل أن نكسب المستقبل؟

هلال: المشكلة أنّنا سلكنا طريقا لا يوصل إلى دولة وفقدنا دورنا كحركة تحرر وطني قبل أن نحقق الاستقلال الوطني الناجز، فقد استخدمت إسرائيل اتفاق أوسلو للتحرر من أعباء الاحتلال ووضعها على كاهل سلطة الحكم الذاتي، وقامت بحرف الصراع من صراع ضد استعمار استيطاني عنصري إلى صراع على حدود المعازل (البانتستونات) التي تديرها سلطة فلسطينية محدودة الصلاحيات.

فلم يضع قيام سلطة الحكم الذاتي في العام 1994 حدا لسياسة إسرائيل الاستعمارية الاستيطانية، إذ واصلت توسعها الاستيطاني واستمرّت وفي تقطيع أوصال الضفة الغربية عبر وسائل وإجراءات مختلفة، منها تصنيفها إلى مناطق "أ"، و"ب" و"ج" وفق نمط سيطرتها على هذه المناطق. كما فرضت القيود على حرية حركة الأفراد والسلع الفلسطينية، وواصلت تهويد مدينة القدس وضم الأغوار، وعزل الضفة عن قطاع غزة وفرض الحصار التجويعي عليه لاحقا. وقد جرى ذلك، كله، بإسناد من الولايات المتحدة، وتواطؤ الدول الأوروبية، وتجاهل من الأنظمة العربية، ووقوف مؤسسات الأمم المتحدة موقف المتفرج أحيانا، والمندد لفظيا أحيانا أخرى.

الانقسام السياسي أدّى إلى انقسام جغرافي (أ ب)
الانقسام السياسي أدّى إلى انقسام جغرافي (أ ب)

عرب 48: المشكلة أنّنا بقينا ولا زلنا متمسكين باتفاق أوسلو وما يترتب عليه من التزامات رغم كل ذلك، وما شاهدناه هذا الأسبوع من قيام الأجهزة الأمنية بقمع متظاهرين في الضفة الغربية هو دليل على ذلك.

هلال: الأجهزة الأمنية للسلطة تقوم بدور وظيفي مناط بها، ولأجل الخروج من دائرة أوسلو، مطلوب إرادة سياسية جديدة تماما. لم يبق من منظمة التحرير بعد ربع قرن من اتفاق أوسلو سوى اسمها بعد أن ابتلعتها سلطة الحكم الذاتي، والأخيرة سلطة ما لبثت أن انشطرت، عام 2007، إلى سلطتين متنافستين؛ إحداها في الضفة الغربية (مجزأة إلى معازل) تديرها حركة فتح، والثانية في قطاع غزة تديرها حركة حماس، بعدما تحولت، بفعل الحصار، إلى معتقل وغيتو لمليونين من الفلسطينيين. كلا السلطتين تعتمدان في السيطرة الداخلية على أجهزتهما الأمنية والتحويلات المالية الخارجية وعلى ما توفره من وظائف وخدمات عبر مؤسساتها وأجهزتها.

عرب 48: أين يكمن الخلل الأساسي في أوسلو حسب رأيك؟

هلال: الخلل يكمن في أنّ منظمة التحرير الفلسطينية اعترفت بحق إسرائيل في الوجود مع كل ما يعنيه ذلك من اعتراف وإسباغ شرعية على الرواية التاريخية الصهيونية، دون أن تحصل على اعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير وإقامة دولته المستقلة، بل على مجرد الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلًا شرعيًا للشعب الفلسطيني وحقها التفاوض باسمه.

هذا ناهيك على موافقتها على تقسيم الضفة الغربية إلى مناطق "أ" و"ب" و"ج" والتي كرستها إسرائيل لاحقا لخلق واقع جديد لتعميق استيطانها ومحاصرة المدن الفلسطينية واقتطاع أجزاء واسعة من الضفة الغربية لصالح هذا الاستيطان، وتسهيل ضمها في المستقبل. والآن، يجد الشعب الفلسطيني نفسه يقيم في معازل سهلة التفكيك بعضها عن بعض، بل وتم تفكيك البعض مثل تفكيك غزة عن الضفة والقدس عن الضفة و...، التفكيك الأكبر هو تحويل الحقل السياسي الوطني لحقول محلية دون مرجعية سياسية موحدة، ولا مؤسسات وطنية جامعة، ولا رؤية سياسية موحدة، ولا إستراتيجية متكاملة تحظى بالإجماع عليها. ولا بد من إعادة بناء الحقل الوطني مجددًا على أسس ديمقراطية تمثيلية للكل الفلسطيني.

عرب 48: ولكن، في المحصلة، فإنّ إسرائيل بإسقاطها لحل الدولتين، فإنها تعيد القضية إلى المربع الأول، بمعنى فلسطين بكامل قامتها؟

هلال: إسرائيل، وخلافًا لاستعمارات استيطانية أخرى مثل أستراليا وكندا والولايات المتحدة، التي نجحت في القضاء على الشعب الأصلاني، أو تحويله إلى أقلية صغيرة مسيطر عليها بالكامل، فشلت في هذه المهمة، واليوم، يوجد في فلسطين التاريخية فلسطينيون أكثر من اليهود الإسرائيليين. كما أن إسرائيل، وهذا مهم، فشلت في طمس الهوية الوطنية للفلسطينيين، بل بقيت هويّتهم تتمتّع بحيوية وفي حالة نهوض متجدد في الشتات كما على أرض فلسطين التاريخية. لذا، إسرائيل خسرت من منظور تاريخي إستراتيجي، وهذا ما علينا أن لا نغفله أبدا.

عرب 48: وما هو مطلوب اليوم؟

كما ذكرت للتو، مطلوب إعادة بناء الحقل السياسي الوطني على أسس تمثيلية وديمقراطية جديدة. وعلينا أن نتعلم من النقائص والقصور التي شابت الحقل السياسي السابق وأن نتجاوزها ونتوقف عن إضاعة الجهد والوقت والموارد في إعادة بناء حقل سياسي تفكك واندثر.

نحن بحاجة إلى فهم جديد للعمل السياسي مغايرٍ تمامًا لما هو سائد. ويمكن لمح مؤشرات أولية عن الفهم الجديد المطلوب في ثنايا اللغة الآخذة في التبلور بين القوى الشبابية وفي العلاقة بين القوى السياسية الفلسطينية داخل الخط الأخضر. وهي لغة تشير إلى تعمق الوعي باستحالة التعايش مع الصهيونية كأيديولوجية عنصرية وكنظام استيطاني عنصري ينكر ويجرّم الرواية التاريخية الفلسطينية.

في صلب الوعي السياسي الناشئ تكمن ضرورة مشاركة التجمعات الفلسطينية، كحقٍ وواجب، في مناقشة السياسات الوطنية وصياغتها وإقرارها للكل الفلسطيني. ومن الضرورة بمكان، أيضًا، أن ندرك حقَّ كل تجمع منفرد في تقرير إستراتيجيته إزاء القضايا الخاصة به، وفي المشاركة في تقرير مصير مجمل الشعب الفلسطيني.

ومن الضرورة بمكان، كذلك، تشجيع المبادرات على صعيد كل تجمع لتشكيل أطر قيادية محلية – بمشاركة أوسع عدد ممكن من القوى وأفراد المجتمع ومؤسساته – على غرار جهود فلسطيني 1948 في تنظيم انتخابات لجنة المتابعة، وهي تجربة تحتاج إلى تعميق، وعلى غرار ما جرى بين فلسطيني الضفة الغربية وقطاع غزة إبان الانتفاضة الأولى. والإفادة من الأمثلة الناجحة لبناء وعي وتنظيم جديدين مثل حركة مقاطعة إسرائيل "بي دي إس" والتي توالف بين فصائل سياسية مختلفة ومؤسسات أهلية واتحادات خلف إستراتيجية ورؤية موحدة.


جميل هلال: باحث اجتماعي وكاتب فلسطيني مستقل ومحاضر جامعي متخصص في علم الاجتماع السياسي، عمل محاضرًا في جامعتي رهام ولندن، وباحثا زائرا في جامعة أكسفورد في بريطانيا. شغِل هلال، وما زال، منصب كبير الباحثين في عدد من المؤسسات البحثية الفلسطينية. نشر العديد من الكتب والمقالات والمؤلفات عن المجتمع الفلسطيني، والصراع العربي - الإسرائيلي، وقضايا الشرق الأوسط.

التعليقات