فصول النكبة تتواصل في مسافر يطا

بخطى ثابتة ورغم تقدمه في العمر يتنقل الثمانيني، محمد أحمد نواجعة، على سفوح الجبال في مسافر يطا التي تربط بين صحراء النقب ومنطقة جنوب الخليل في الضفة الغربية، حاملا عصاه في إشارة منه لتجذره في أراضي عائلته.

فصول النكبة تتواصل في مسافر يطا

نواجعة من القريتين هجر وعائلته 3 مرات في مسافر يطا (عرب 48)

بخطى ثابتة ورغم تقدمه في العمر يتنقل الثمانيني، محمد أحمد نواجعة، على سفوح الجبال في مسافر يطا التي تربط بين صحراء النقب ومنطقة جنوب الخليل في الضفة الغربية، حاملا عصاه في إشارة منه لتجذره في أراضي عائلته الممتدة ما بين مسقط رأسه بلدة القريتين وبلدة سوسيا القديمة التي هُجّر منها وعائلته، قبل عقدين ونيف، من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي.

استقر نواجعة (76 عاما)، متزوج وأب لتسعة أبناء وجد لسبعين حفيدا، من مواليد عام 1946، مع عائلته وأحفاده، فوق آخر ما تبقى لهم من أراض على قمة جبل سوسيا، في منطقة تعد إستراتيجية، وتربط سوسيا القديمة مع القريتين التي يحلم بالعودة إليها، إذ أقيمت فوق أراضيها في ثمانينيات القرن الماضي مستوطنة "سوسيا" التي تعد الشريان الاستيطاني في مسافر يطا، وما أعقبها من إقامة بؤر ومزارع استيطانية ومراع للمستوطنين.

في سوسيا التي يقطنها 470 نسمة، كمثل مختلف بلدات مسافر يطا المهددة بالاقتلاع والتهجير، يفتقر السكان البالغ تعدادهم أكثر من 4 آلاف وغالبيتهم من الفتية والأطفال، يقطنون الخيام والكهوف وأكواخ الصفيح والزينك، لأبسط مقومات الحياة، ويحرمون من مشاريع البنى التحتية وشبكات المياه والكهرباء والطرقات، التي أقيمت فوق أراضيهم الممتدة على مساحة 32 ألف كيلومتر مربع لخدمة المشروع الاستيطاني.

تهجير قسري

يواجه نواجعة مع أهله في سوسيا منذ أيار/ مايو 2022، أسوة بالآلاف من سكان 12 قرية وخربة فلسطينية، في مسافر يطا، خطر التهجير القسري، وذلك بعد أن سمحت المحكمة العليا الإسرائيلية لجيش الاحتلال بمواصلة التدريبات العسكرية في منطقة "إطلاق النار 918"، التي تضم قرى مسافر يطا، وتثبيت 10 مستوطنات وعشرات البؤر الاستيطانية والزراعية على عشرات آلاف الدونمات المملوكة للفلسطينيين.

الناشط في المقاومة الشعبية سامي الهريني (عرب 48)

وسرد نواجعة لـ"عرب 48"، فصول التشريد والتهجير التي يواجهها الفلسطينيون في مسافر يطا منذ أواخر ستينيات القرن الماضي، مشيرا إلى أن ذلك يأتي امتدادا لما حصل في النكبة، وأن الكثير من السكان عاشوا ما بين مسافر يطا وصحراء النقب ومنطقة عراد على وجه الخصوص، إذ تمتد أراضيهم على مساحات واسعة ما بين جنوب الخليل حتى النقب، وكانت النكبة أولى فصول التهجير.

ويستذكر الثمانيني ما حصل مع عائلته التي كانت تعيش في القريتين القريبة من عراد والمطلة على سوسيا القديمة، إذ تسببت النكبة بتقسيم أراضي البلدة وتهجير أولي للسكان، وهو ما عكس واقع الغالبية العظمى من سكان التجمعات السكنية والبلدات والخرب في مسافر يطا.

جوهر الصراع

اعتاد سكان هذه القرى على الزراعة الصيفية على سفوح الجبال في منطقة سوسيا، وزراعة كروم العنب، واللوزيات، والتين، والزيتون، بينما في الشتاء كانت سهول منطقة القريتين مخصصة لزراعة الحبوب والبقوليات.

وفي العودة إلى جوهر الصراع على الأرض في مسافر يطا المصنفة ضمن المنطقة "ج" التابعة لسيطرة سلطات الاحتلال، مدنيا وإداريا وأمنيا، فإن قرابة 4 آلاف فلسطيني عرضة للتهجير القسري، بعد أن ردت المحكمة العليا الإسرائيلية الاستئناف ضد أوامر الإخلاء الصادرة بحق الفلسطينيين في مسافر يطا التي تصنف كموقع تدريب عسكري.

نصر محمد نواجعة يرفع راية النضال ويتمسك بأرضه وحياته في سوسيا (عرب 48)

إن رد التماس 12 تجمعا سكنيا، هي: جنبا، والمركز، والحلاوة، والفخيت، والتبان، والمجاز، ومغاير العبيد، وصفى الفوقا والتحتا، والطوبا، وخلة الضبع، والمفقرة، وتخصيص أراضيهم للتدريبات العسكرية وتوسيع المستوطنات، يقول نواجعة "يعني تطهير عرقي للفلسطينيين بقوة السلاح، واقتلاعهم من قراهم وأراضيهم ونقلهم بالقوة إلى مناطق في يطا والخليل وإذنا، وهو المخطط الذي سنحبطه ونتصدى له. صامدون هنا وقرانا ستكون قبورنا، وهذا ما ورثنا وما نورثه لأولادنا وأحفادنا".

فصول المعاناة

على خطى والده يرفع، نصر محمد نواجعة، راية النضال والصمود، ويخوض صراعا مع جيش الاحتلال والمشروع الاستيطاني الذي يتمدد كالأخطبوط في مسافر يطا، رافضا كغيره من السكان الإغراءات للانتقال إلى البلدات القائمة في محافظة الخليل، ويقول: "نحن أصحاب الأرض والمكان، صادروا من عائلتي أكثر من 3 آلاف دونم للاستيطان وللعسكر. صامدون ومتجذرون في آخر ما تبقى لنا من أراض".

وعرض نصر نواجعة لـ"عرب 48" فصول المعاناة والتشريد التي يعيشها سكان مسافر يطا منذ أكثر من 50 عاما، مشيرا إلى أنه ومنذ سبعينيات القرن الماضي صنفت سلطات الاحتلال مساحات واسعة من أراضي مسافر يطا باعتبارها مناطق عسكرية خصصت فورا لبناء المستوطنات، وفرضت تقييدات تحد من حرية التنقل للفلسطينيين وزراعة أراضيهم وتربية المواشي وتقليص المساحات المتاحة للسكان لرعي المواشي.

الهريني يستعرض أمام وفد تجربة سكان التوانة بالمقاومة الشعبية (عرب 48)

وأوضح أن عائلته تقطن وتتنقل في أراضيها التي كانت تمتد على مساحة أكثر من 10 آلاف دونم بين القريتين وسوسيا، إذ استقرت عائلته أسوة بالكثير من عائلات التجمعات السكنية في المكان، منذ مطلع القرن التاسع عشر، واعتاش أهل التجمعات السكنية والخرب البالغ عددها بالأصل 38 تجمعا سكنيا على رعي المواشي وزراعة الحبوب، والزيتون، واللوزيات، والكروم.

محطة مفصلية

كان العام 1983 محطة مفصلية في معركة صراع الوجود في مسافر يطا، إذ يؤكد نصر نواجعة أنه "أقيمت بجوار بلدتنا مستوطنة سوسيا على أراض فلسطينية جرى الإعلان عنها أراضي دولة، وسكنت 25 عائلة خربة سوسيا وجرى تهجيرها بالقوة وانتقل الأهالي للسكن في المغر والكهوف في أراضيهم بسوسيا القديمة، وفي العام 1986 هجروا وطرودا ثانية بعد أن أعلنت الإدارة المدنية للاحتلال عن سوسيا موقعا أثريا، ثم صودرت آلاف الدونمات للأغراض العامة للجيش والاستيطان".

وفد من فلسطينيي 48 بزيارة سوسيا المهددة بالتهجير الفوري (عرب 48)

ومع بناء 10 مستوطنات وتوسيعها بشكل متدرج على حساب الأراضي الفلسطينية، توسعت دائرة الاستهداف للفلسطينيين في كافة المنطقة في مسافر يطا. ويقول نصر إن "سطات الاحتلال حرمت السكان من أبسط مقومات الحياة، ومنعوا من الزراعة ورعي مواشيهم، إضافة إلى التضييق عليهم وهدم خيامهم وأكواخ الصفيح، بينما عمّق إرهاب المستوطنين من معاناة الفلسطينيين الذين باتوا يعيشون خطر الوجود وتحت التهديد اليومي لعصابات المستوطنين".

وأضاف أنه "منذ العام 1999 يتعرض الفلسطينيون في التجمعات السكنية في مسافر يطا لخطر التهجير القسري، وذلك بعد أن هجر جيش الاحتلال 14 تجمعا سكنيا من المنطقة، ودمر وصادر معظم منازل السكان بحجة أن المناطق هذه تابعة لمنطقة إطلاق النار، وأن السكان لم يستوفوا شروط الإقامة الدائمة، على الرغم من أن العائلات كانت وما زال بحوزتها مستندات طابو عثماني، ووثائق تثبت ملكيتها للأرض، يعود تاريخها إلى ما قبل العام 1967 ومنها إلى ما قبل النكبة والانتداب البريطاني".

مخططات الاحتلال

يعيش الفلسطينيون في التجمعات السكنية في مسافر يطا ظروفا معيشية صعبة، يقطنون في كهوف تحت الأرض، أو في خيام وأكواخ من الصفيح والزنك، التي يتم هدمها وتدميرها من قبل جرافات الاحتلال، لكن سرعان ما يعود السكان للبناء فوق أرضهم، وهي الحالة التي عاشها سكان خربة سوسيا في تموز/ يوليو 2001.

التوانة بوابة مسافر يطا انتزعت اعترافا من سلطات الاحتلال عام 2020 (عرب 48)

مشاهد التهجير من سوسيا القديمة تلوح في الأفق في مسافر يطا، إذ جرت عملية الطرد والتهجير، يقول نصر نواجعة "دون سابق إنذار وبلا تحذير، حين هدم جنود الاحتلال المغر وسدوا آبار المياه وجرفوا الخيام ودمروا المحاصيل الزراعية، وهو السيناريو الذي يخشى أن يتكرر وبشكل مفاجئ في 12 تجمعا سكنيا، في هذه المرحلة".

تعد التجمعات السكنية الـ38 في منطقة مسافر يطا المصنفة في منطقة "ج"، من أضعف التجمعات في الضفة الغربية، إذ تواجه مخططات الاحتلال ومشاريع الاستيطان لوحدها، فيما يواجه سكان 12 تجمعا سكنيا التهجير الفوري، ويتصدون لعصابات المستوطنين التي قتلت مئات رؤوس الماشية، وتتعرض للسكان وتمنعهم من فلاحة أراضيهم، وأقامت عشرات البؤر الاستيطانية، والمزارع الاستيطانية الفردية فوق الأراضي الفلسطينية.

إخطارات بهدم خيام خرب وبلدات في مسافر يطا (عرب 48)

يرفض السكان في تجمعات مسافر يطا عروضا للانتقال لأماكن أخرى بالقرب من الخليل ويطا وإذنا، بتخصيص نحو 500 دونم لكل قرية من مسطحات الأراضي المسامة "أراضي الدولة"، وهي أراضي فلسطينية مصادرة، ويستلهمون تجربة سكان التوانة بالنضال والصمود، إذ انتزعوا اعترافا من سلطات الاحتلال في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020.

المقاومة الشعبية

يحارب سكان مسافر يطا من قبل سلطات الاحتلال بالحرمان من خدمات الصحة والتعليم والبنية التحتية للمياه والصرف الصحي والكهرباء، علما أن المنطقة "ج"، تعد 60% من مساحة الضفة الغربية. كما يعاني الفلسطينيون من أعمال عنف وإرهاب متواصل من قبل المستوطنين، فخلال السنوات الأخيرة قتل مستوطنون وجنود الاحتلال أربعة فلسطينيين.

مئات الأطفال من بلدات مسافر يطا يحرمهم الاحتلال الحق بالتعليم (عرب 48)

ولعل أخطر الاعتداءات من قبل المستوطنين، يقول الناشط في المقاومة الشعبية، سامي الهريني، من بلدة التوانة التي انتزعت اعترافا من سلطات الاحتلال بعد سنوات من النضال ومعركة الصمود والبقاء، "تتمثل في ملاحقة عصابات المستوطنين و'شبيبة التلال' لطلبة بلدات مسافر يطا في طريقهم للمدارس، الذين يذهبون للمدارس سيرا على الأقدام لعدة كيلومترات".

وأوضح الهريني (25 عاما)، الذي حصل مع شقيقته سميحة على جائزة المؤسسة الدولية لحماية المدافعين عن حقوق الإنسان، لـ"عرب 48"، أن "الاحتلال يحارب سكان مسافر يطا بالحرمان من خدمات الصحة والتعليم والبنية التحتية للمياه والصرف الصحي والكهرباء، إلى جانب إرهاب قطاعان المستوطنين الذي لا يتوقف".

نموذج التوانة

وأشار الهريني إلى أن مسافر يطا التي تعد منطقة إستراتيجية لربط الخليل بالنقب وغزة، مصنفة ضمن المنطقة "ج"، التي تعد 60% من مساحة الضفة الغربية، وعليه تتمادى سلطات الاحتلال في مخططات التطهير العرقي للمنطقة وطرد الفلسطينيين وتجميعهم على أقل مساحة من الأراضي قرب الخليل، فيما تسابق حكومات الاحتلال الزمن لتوسيع الاستيطان في المنطقة ضمن سياسة "الضم الزاحف" للسيادة الإسرائيلية.

نواجعة متشبث بأرضه (عرب 48)

وأكد الناشط في المقاومة الشعبية أن "ما يحدث في مسافر يطا هو جريمة حرب بظل صمت المجتمع الدولي، وهذا الصمت يحفز سلطات الاحتلال التي تستغل الظروف الدولية والإقليمية على مواصلة جريمة التهجير والتشريد بحق الفلسطينيين في المنطقة"، داعيا إلى "تعزيز المقاومة الشعبية واستمرار النضال والتمسك بالأرض والتصدي لمخططات الاحتلال".

واستذكر الهريني تجربة أهالي بلدة التوانة التي تعد البوابة الرئيسة لمسافر يطا، إذ كانت ضمن أولى الخرب التي تم هدمها وتدمير الخيام وأكواخ الصفيح، بيد أن المقاومة الشعبية وتدويل القضية بتجنيد الوفود الدولية والمتضامين الأجانب، مع العودة في كل مرة إلى المنازل المهدمة، والتصدي لعصابات المستوطنين والإصرار على البقاء والصمود ورفض مقترحات الاحتلال الانتقال لمناطق أخرى، تُوج باعتراف الاحتلال بتخطيط هيكلي للقرية التي يقطنها 500 نسمة على مساحة 168 دونما.

إخطار فوري بتهجير 12 تجمعا سكنيا في مسافر يطا لأغراض عسكرية (عرب 48)
مستوطنة كرميل أقيمت على أراض بملكية خاصة للفلسطينيين بعد أن أعلن عنها منطقة عسكرية (عرب 48)
حواجز عسكرية لتأمين تنقل المستوطنين في مسافر يطا (عرب 48)
حرمان سوسيا من الكهرباء ومسافر يطا تعتمد على مشاريع الطاقة الشمسية (عرب 48)
خربة سوسيا بمسافر يطا هجر سكانها 3 مرات (عرب 48)
لافتة بمسافر يطا تشير لمستوطنات جبل الخليل (عرب 48)
خربة سوسيا القديمة هجر سكانها الأصلانيين بالعام 2000 (عرب 48)
بؤرة استيطانية على جزء من أراضي بلدة القريتين (عرب 48)
مصادرة أراض فلسطينية بمسافر يطا لأغراض أمنية وعسكرية (عرب 48)
تحويل سوسيا القديمة لموقع أثري استيطاني (عرب 48)
مزارع استيطانية وحظائر للإبقاء فوق أراضي الفلسطينيين في مسافر يطا (عرب 48)
مسافر يطا تربط بين صحراء النقب وجنوب الخليل (عرب 48)
مستوطنة سوسيا كبرى المستوطنات في مسافر يطا (عرب 48)
توسيع مستوطنة سوسيا على حساب أراضي القريتين وخربة سوسيا (عرب 48)

التعليقات