دار الأيتام السوريّة... نواة التطلُّع الاستيطانيّ الألمانيّ في القدس

لم تكن دار الأيتام السورية (شنلر) في القدس، مجرّد مشروع خيريّ مدرسيّ متّصل بإيواء أيتام -رغم صحة ذلك- فقد كانت الدار وفق أجندة شنلر التبشيرية لها؛ نقطةَ ارتكاز شكّلت نواة التطلّع الاستيطاني والاستعماري للألمان في فلسطين

دار الأيتام السوريّة... نواة التطلُّع الاستيطانيّ الألمانيّ في القدس

منظر للقدس خلال فترة السيطرة العثمانية، عام 1870 (Getty Images)

في تشرين الأول/ أكتوبر عام 1846، حطّ في القدس كل من الراهبان فرديناند بالمر، وكونراد شيك. كان بالمر وشيك راهبان مُبشّران ألمانيّان، تمّ إيفادهما إلى فلسطين بدافع التبشير، وبدفع من "إرسالية الحجّاج لأخوّة سان كريشونا"، وهي جمعية تبشيرية ألمانية أُسِّست في عام 1840 على يد كريستيان فريدرك شبتلر، الذي لُقِّب بـ"شيخ المبشرين الألمان"، إذ كان من أوائل المتحمسين للتبشير في فلسطين، عبر إقامة مستوطنة تبشيرية ألمانية في القدس، بالرغم من فشل مشروعه التبشيري - الاستيطاني في النهاية.

ضجّت مدينة القدس وأهلها بدخول الراهبيْن إليها، ليس لأنهما مبشران مسيحيان، فالتبشير كان مألوفا في حينه لأهالي المدينة، إنما لأنهما كانا حِرفيّان قبل أن يكونا مبشرين، وهذا ما اعتبره المقدسيون جديدا في التبشير عليهم وبينهم، إذ احترف بالمر صناعة الصابون، والكيمياء، بينما كان يحترف شيك الحِدادة والميكانيك(1).

وفي العام التالي، في آذار/ مارس عام 1847، وصل إلى القدس مبشران آخران تابعان للوفد ذاته، وهما صموئيل مولر، وكان ساعاتيًّا، ومعه هاينريش بالدنشبرغر الذي احترف بدوره الخِراطة والنسيج. لم تثبت ساعات مولر التي أنتجها من نوع شفارتزفالد (Schwarzwald) نجاحها، ويقال إن مردَّ فشلها كان يعود لمناخ فلسطين الحارّ(2).

تمايز التبشير الإنجيلي - الألماني (البروتستانتي) منذ أن تحسّس طريقه إلى فلسطين في أربعينيات القرن التاسع عشر، عن أي تبشير مذهبي مسيحي أوروبي آخر. وذلك لكونه تبشيرا كان يسعى لنشر المسيحية من خلال نشاطات حِرفية وتجارية. ورغم فشل محاولة شبتلر في تأسيس استيطان تبشيري على أسس حِرفية وصناعية في حينه، إلا أن محاولته في ذلك الوقت ظلّت تحكم شكلَ التدخل الألماني في البلاد على مدار القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، فقد أقام الألمان في فلسطين عدة مستوطنات زراعية، يمكننا اعتبارها مستعمرات بلا حالة استعمارية، لأنها بدأت بمبشرين آثروا حمل الأناجيل على البنادق والمسدسات.

خلال قيام القيصر الألماني، فيلهلم الثاني برحلته إلى فلسطين، عام 1898، حيث افتتح كنيسة المخلص الألمانية في القدس (Getty Images)

لم تعترف الدولة العثمانية في المذهب البروتستانتي إلا في سنة 1850، كما لم ترغب ألمانيا -بروسيا في حينه- أن تكون جزءا من السياسات الأوروبية الشرقية، والتدخل في شؤون الدولة العثمانية، فرفعت يدها عن دعم مشروع شبتلر وكل مشروع تبشيري آخر. كما تحفّظ المجتمع العربي الفلسطيني بمسلميه ومسيحييه على التبشير المسيحي الأوروبي عموما، وعلى شكله الألماني - الحِرفي خصوصا، إذ كان سكان البلاد يتطلعون إلى مؤسسات تساعدهم على حل مشكلاتهم المعيشية، لا إلى مستوطنات تنتج ما ينافس صناعاتهم المحلية.

من شبتلر إلى شنلر

فشل مشروع شبتلر التبشيري، إلى حدّ تخلى فيه بعض رهبانه عن مهمتهم التبشيرية في القدس، ومنهم من تزوّج وبقي في المدينة، وشكّل بعض أحفادهم عوائل ظلّت واستوطنت فلسطين، منها عائلة "فروتيغر" التي ساهمت في سنة 1897 بتأسيس "بنك فلسطين الألماني - Deutsche Palastinabank". ومع ذلك، فإن محاولة شبتلر يمكن اعتبارها بمثابة بداية تأسيس التبشير المسيحي الحِرفي - الصناعي في البلاد.

في مطلع خمسينيات القرن التاسع عشر، سيستأنف أحد الرهبان البروتستانت الألمان، مهمة شبتلر التبشيرية وبدعمه، لينقل التبشير الألماني الحِرفي - الصناعي إلى طوْر جديد من التأسيس الاستيطاني الألماني في فلسطين. كان اسم الراهب يوهان لودفيغ شنلر، وهو راهب ومبشر بروتستانتي ألماني(3).

ما يزال اسم شنلر يرنّ في ذاكرة شعبنا إلى يومنا، وما زال اسمه يُطلَق على الأحياء والمؤسسات في البلاد، وفي مخيمات اللجوء الفلسطينية، ففي الناصرة، يعدّ حيّ "شنلر" أحد أبرز وأحدث الأحياء في المدينة. كما أطلق أهلنا اللاجئون في الأردن على مخيم حطين، اسم "مخيّم شنلر". حتى أن معروف الرصافي الشاعر العراقي، كان قد نظم قصيدة يمتدح فيها شنلر وداره، دار الأيتام في القدس، جاء في مطلعها:

لِدار شنلر في القدس فضلٌ

به تَنسَى تَيَتّمها اليتامى

وبحمده من الفقراء طفلٌ

يذُمّ لفقد والده الحماما(4).

وصل شنلر مدينة القدس عبورا إليها من ميناء يافا في سنة 1854، ومعه زوجته وستة من تلامذة الإرسالية "لأخوّة سان كريشونا"، إذ أعاد بقدومه، افتتاح مركز الإرسالية في المدينة، إلا أنه استقلّ عنها لاحقا، ليشقّ طريق تبشيره منفردا. كان لدى شنلر تصوّر تبشيري يرمي إلى إعادة إحياء المسيحية ونشر البروتستانتية في فلسطين بالوسائل السلمية، بعيدا عن الروح الصليبية العسكرية، وبدون أن يخفي تحامله على دين الإسلام في الوقت نفسه.

اشترى شنلر قطعة أرض على نفقته الخاصة خارج سور البلدة القديمة في القدس، وبنى عليها دارا صغيرة، وقرر بدء نشاطه التبشيري بين المقدسيّين منها، وقد ثبت فيها رغم أزمة الأمن واللصوصية التي كانت تعاني منها الطريق ما بين مدينتي القدس ويافا، إذ اضطر لترك داره والعودة إلى داخل السور إلى حين أن ضغط القناصل الأوروبيون على الإدارة العثمانية في المدينة، لإقامة مراكز حراسة على الطريق بين المدينتين، ليعود شنلر ويباشر مشروعه التبشيري من داره خارج السور(5). وكان أبرز وأول مشروع قام إليه شنلر في حينه هو إنشاؤه لدار الأيتام.

دار الأيتام السوريّة أو دار شنلر

كانت حرب القرم (1853 - 1856) قد وضعت أوزارها، في الوقت الذي بدأ شنلر نشاطه التبشيري في القدس، خصوصا أن الألمان قد أبدوا تعاونا عسكريا مع العثمانيين في حرب القرم، ما سيسهّل نشاط حركة المبشرين الألمان، وتحديدا شنلر في تنفيذ مشروعه لإنشاء دار للأيتام في القدس(6). وتمّ له ذلك في سنة 1862. والباب لإقامة الدار، كانت الحرب الأهلية التي شهدها جبل لبنان بين موارنته ودروزه في سنة 1860.

في خِراج الخيل والبغال، حمل شنلر في خريف سنة 1860 أحد عشرة طفلا يتيما قادما بهم إلى القدس من مخيمات صيدا وصور لنازحي الحرب من الجبل. وذلك بعد أن دفعه شبتلر لذلك، ووجد شنلر في اقتراح شبتلر عليه، فرصة مواتية لتأسيس نقطة ارتكاز للعمل التبشيري البروتستانتي الألماني في فلسطين، بدون أن يثير فعل احتواء أيتام الحروب والملمات حفيظة أي من السكان المحليين.

لم يكن سهلا على شنلر أخذ أيتام حرب جبل لبنان الأهلية، خصوصا أن نشاط الفرنسيين التبشيري الكاثوليكي المهيمن على حركة التبشير في لبنان، قد حال دون أي موطئ قدم للبروتستانت الألمان فيه. هذا فضلا عن استغلال الفرنسيين لأيتام الحرب، وتسخيرهم للعمل في شقّ طريق خط حديد بيروت - دمشق(7)، ما صعّب على شنلر مهمة أخذه أيتام الحرب من الأطفال معه إلى فلسطين، إذ جوبِه برفض قاطع من الفرنسيين، باستثاء الأحد عشر طفلا الذين استطاع التقاطهم وجلبهم معه إلى القدس، وكان افتتاح دار الأيتام السورية بهم، في يوم 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 1860 في منزله المتواضع، المكوّن من حجرة نوم وأخرى للجلوس ومطبخ(8). أطلق على دار أيتامه اسم السورية، لأنها افتُتحت بأيتام حروب سورية الأهلية سنة 1860 في دمشق وجبل لبنان، عدا عن كون القدس وفلسطين عموما، كانت تُعتَبر امتدادا لبلاد سورية الكبرى. وكان موقعها إلى الغرب من باب الخليل على بعد 3كم.

صورة للقدس عام 1920 (Getty Images)

أراد شنلر لدار الأيتام أن تكون مؤسسة تربوية وتعليمية "حيث يُربى الأولاد ويتعلمون ليصبحوا أعضاء مفيدين لكنيسة المسيح"، ما تطلّب استبقاء التلاميذ الأيتام أطول فترة ممكنة تحت تأثير التعاليم البروتستانتية، لذا مدد شنلر تخرُّج التلاميذ من سن 14 إلى 18، ثم إلى 20، ضمن برنامج يداوم فيه الأولاد على الصلاة والعمل معا(9).

وقد أشرف شنلر بنفسه على تعليم الأولاد الأيتام، ومعه فقط زوجته ومبشّر آخر. علَّموا التلاميذ في السنوات الأولى دروسا في الدين والقراءة والكتابة باللغتين العربية والألمانية. وبعد مرور ثلاث سنوات على تأسيس الدار، جرى تعميد أول دفعة من تلامذة الدار في الكنيسة.

بعد سنة 1866، تزايد عدد التلاميذ في الدار، فتمّ تطوير مناهج التدريس فيها بإدخال مواد جديدة كالحساب، والخط، والأناشيد، وكان طلبة الصفوف المتقدمة يدرسون الإنجليزية أيضا، والجغرافيا، والتاريخ، ونصوصا باللغتين العربية والألمانية. وقد أولى شنلر لتعلُّم اللغات الأجنبية عناية خاصة، لضرورتها للمجتمع الفلسطيني القائم على السياحة والحجّ، لارتباط ذلك بالأماكن المقدسة(10). وفي فترات لاحقة صارت أعداد التلاميذ المُعمَّدين تصل إلى 30 - 40 سنويا، من بينهم بعض العرب من المسلمين الذين تنصّروا، بالإضافة إلى أرثوذكس وكاثوليك وأرمن.

الاختلاط بدأ مع الأيتام

لم تكن دار الأيتام السورية في القدس تستقبل إلا أيتاما من الصبيان. وبعد سنة 1872، بدأت الدار تستقبل الفتيات في مبناها، لكنهن كنّ يعشن منفصلات عن زملائهن الصبيان. غير أن الدروس كانت تُعطى مشتركة للجنسين، فشنلر لم يكن يريد تعليما خاصّا بالفتيات، باستثناء دروس في الأشغال اليدوية والمنزلية التي كانت مخصّصة للبنات.

كان التعليم المختلط في حينه يُعدّ خطوة جريئة، في ظل مجتمع قرن التاسع عشر المحافظ في القدس. لم تكن المدارس العثمانية المحلية، ولا الإرسالية التبشيرية في القدس وغيرها من المدن الفلسطينية، تعرف الاختلاط بين الجنسين. غير أن دار الأيتام السورية لأنها مأوى للأيتام قبل أن تكون مدرسة تعليمية، استقبلت يتيمات لا أهلَ ولا مُعيلَ لهنّ، فكان طبيعيًّا أن تختلط الدار بالصبيان والبنات، ليس على مستوى المبيت فيها، إنما على مستوى التعليم فقط. وقد تنبّه المبشرون إلى دور الاختلاط في تحسين مستوى الانضباط والتحصيل العلمي لكلا الجنسين(11). وتعود بداية فكرة الاختلاط التعليمي في المدارس إلى دار الأيتام.

خُفوت التحفّظ على الدار

لم يرَ شنلر أن التعليم المدرسي كافٍ في داره، خصوصا وأنه كانت لديه تطلّعات لتأمين مستقبل خريجي الدار، فقرر إدخال التعليم "المهني"، ففي السنوات الأولى على إنشاء الدار، تمّ تأسيس ورش للإسكافيين وللخياطة، إلى جانب مخبز، ثم تبعتها في سنة 1866، ورشات للحِدادة والخِراطة. واتّبع شنلر سياسة إيفاد طلاب متفوقين من خريجي الدار إلى دورات تدريبية مهنية في ألمانيا، ثم إعادتهم للتدريس في الدار، ولم تُفتتَح ورشة صناعة الخزف في دار الأيتام في القدس، إلا بعد إرسال أحد خريجيها المتفوقين إلى مدينة فورتنبرغ، حيث تخصص في هذه الصناعة، وبعد عودته بدأت الورشة عملها.

مدرسة "شنلر" في القدس

رغم تعرُّض دار الأيتام السورية (شنلر) لحملة تحريض وتغريض من قِبل الجمعيات المنافسة لها، مثل "جمعية يهود لندن"، التي رأت في نشاط الدار منافسا لها، كما تعرّض شنلر لهجوم الجمعيات الكاثوليكية التي أصرّت واستعادت بعض التلاميذ الأيتام الموارنة، الذين جلبهم شنلر من لبنان. كان ذلك في الوقت الذي بدأت تحفّظات أهالي مدينة القدس تجاه دار الأيتام تتلاشى شيئا فشيئا.

بعد مرور عقد من الزمن على تأسيس الدار، بلغ عدد التلاميذ الذين تم استقبالهم 60 تلميذا، يشرِف على تعليمهم ورعايتهم 13 معلّما وموظّفا. ارتفع هذا العدد في عام 1876 إلى 210 صبيان و8 بنات، من بينهم 113 من فلسطين، و72 من سورية ولبنان، و5 مصريين، والباقي من أرمينيا وإفريقيا(12).

لاحقا، في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، أي بعد موت شنلر، ستصبح الدار مقصدا وملجئا لأيتام الأرمن على إثر المذابح التي حلّت بذويهم في صراعهم مع الأتراك. وبالتالي، كانت نواة تشكُّل الأرمن كجماعة دينية في القدس، واحتراف أبنائها بعض الصناعات الحِرفية التي ما تزال ترتبط بهم إلى يوم القدس هذا؛ تعود إلى دار الأيتام السورية التي استقبلتهم في حينه(13).

الدار رافدة الاستيطان الألمانيّ

يؤرَّخ إلى ربيع سنة 1869 على أنه تاريخ إنشاء أوّل مستعمرة ألمانية في فلسطين، وهي المستعمرة التي ما تزال تُعرف إلى يومنا بالحي الألماني في حيفا(14)، إذ لم يكن القانون العثماني يُتيح قبل هذا التاريخ للأجانب، تملُّك الأراضي(15). وقد تملكت "جمعية الهيكل الألمانية" أراضي في فلسطين، أقامت عليها عدة مستعمرات(16).

مساكن ألمانية في فلسطين (Getty Images)

لم يكتفِ شنلر بأن تكون دار أيتامه مجرّد مدرسة للتعليم المدرسي والتأهيل المهني. ولمّا أتاح قانون التمليك العثماني الأرض للأجانب، بدأ شنلر يفكّر في إقامة مستوطنات زراعية وحِرفية من أجل استيطانِ خريجي دار الأيتام فيها، وذلك بغرض تحقيق أهداف ثلاثة: تقوية التبشير والتنصير، والنهوض بالأراضي المقدسة حضاريًّا، وضمان الأمنيْن الاجتماعي والاقتصادي لخريجي الدار (17).

استغلّ شنلر الأزمة الاقتصادية والمعيشية المشهورة التي ألمّت بفلاحي فلسطين سنة 1870، فالقحط والجفاف والجوع، قد دفع ببعض الفلاحين إلى بيع أراضيهم، فاشترى شنلر منهم أراضي بأبخس الأسعار، منها أراضٍ محاذية لدار الأيتام في القدس، تعود ملكيتها لأهالي قرية لفتا المهجّرة. كما اشترى شنلر بين عامي 1877 و1879، قطعة أرض في منطقة الرملة، وأقام عليها سنة 1890 مستوطنته الزراعية "بير سالم"(18)، وبدأت نواة استيطانها بإرسال شنلر مزارعيْن إليها، أحدهما عربيّ لبنانيّ، وآخر ألمانيّ، مع أربعة من خريجي الدار.

كانت "الرابطة الإنجيلية لدار الأيتام السورية في القدس"، قد تشكلت في هذه الفترة، وتحديدا سنة 1889، والتي وضعت نظامَ "المرابعة" لخريجي الدار المستوطنين في مستوطنة "بير سالم"، والذي بموجبه، يقدّم الخريجون المستوطنون رُبع محصولهم من المستوطنة إلى دار الأيتام، كرسم استئجار للأرض التي يعملون فيها(19).

أما عن الاستيطان الحِرفيّ - الصناعيّ، فقد تنبّه شنلر إلى ضرورة إقامته على إثر الأعداد الكبيرة من الحرفيين الصناعيين من خريجي الدار، فقام قبل وفاته بسنتين، أي في سنة 1894، بإنشاء مستعمرة حرفية في محيط دار الأيتام في القدس، فشُيِّدت المحال التجارية والورشات الصناعية خارج أسوار الدار، إضافة إلى منازل لإقامة سكان المستوطنة، بتبرعات من شخصيات ألمانية. وأطلق شنلر على كل منشأة منها اسم مدينة ألمانية، مثل: كولونيا، وشتوتغارت، وهامبرغ، وميونخ، وغيرها(20).

على إثر إنشاء مستوطنة دار الأيتام الحِرفية - الصناعية، تطوّر وازداد الإنتاج الحِرفي الصناعي للدار، وجرى تأسيس وكالات خارجية لها في ألمانيا وأميركا، منها "وكالة فلسطين"، ومقرها كان مدينة كولونيا الألمانية، ومن خلال هذه الوكالة، تمكّنت صناعات ومنتجات دار الأيتام السورية في القدس، من أن تشقّ طريقها إلى الأسواق الأوروبية، عبر تسويق منتجات مثل: الأحذية، والألبسة، والمنتجات الخشبية، والنبيذ، ومياه التعميد. كما كانت للدار مجلة تُدعى "رسول صهيون (Bote aus Zion) "، تروِّج لمنتوجاتها في المدن الأوروبية، تحت عنوان: "صُنع في الأراضي المقدسة"(21).

أخيرًا

لم تكن دار الأيتام السورية (شنلر) في القدس، مجرّد مشروع خيريّ مدرسيّ متّصل بإيواء أيتام -رغم صحة ذلك- فقد كانت الدار وفق أجندة شنلر التبشيرية لها؛ نقطةَ ارتكاز شكّلت نواة التطلّع الاستيطاني والاستعماري للألمان في فلسطين، وهذا على خلاف التأريخ لربط بداية الاستيطان الألماني مع وصول الألمانيان، هوفمان وهاردينغ إلى حيفا، وإنشاء أول مستعمرة ألمانية سنة 1869(22).

خلال الحرب العالمية الأولى عند دخول "الحلفاء" القدس (Getty Images)

توفي شنلر في سنة 1896، وورث أبناؤه من بعده الدار التي ظلّت تتمدد جغرافيًّا، وتتطوّر علميًّا ومهنيًّا، وترفد استيطانيا من خريجها إلى كافة أنحاء فلسطين، حيث المستعمرات الألمانية. وظلّت الدار ألمانيّةَ الجوهر والطابع، إلى أن دخلها واحتلها الإنجليز سنة 1940، وطردوا كلّ من فيها مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، لتغدوا دار الأيتام أكبر مخزن للبارود والألغام في الشرق الأوسط خلال الحرب، إلى أن ورث الصهاينة الدار ومنشآتها وكل مستوطنات الألمان في فلسطين، عام النكبة.

في الوقت الذي كان شنلر يعمل على تمكين الاستيطان التبشيري - البروتستانتي الألماني عبر دار الأيتام السورية في القدس، كانت هناك ألمانيات يعملن في مساحات أخرى من فِعل الخير والاختراق معا، هن "الشمّاسات" وتلك حكاية أخرى...


الهوامش:

1. سنو، عبد الرؤوف، المصالح الألمانية في سورية وفلسطين 1841 - 1901، معهد الإنماء العربي، بيروت، 1987، ص 56.

2. سنو، عبد الرؤوف، المرجع السابق، 75.

3. وُلد شنلر عام 1820 في قرية أرفنغن Erpfingen بجنوب ألمانيا من أب قروي ونسّاج، وشنلر في الألمانية تعني النسّاج. في سن الثامنة عشرة اجتاز شنلر امتحان دور المعلمين وتقلّد منصب أستاذ مساعد في مدينة فورتنبرغ، ثم أستاذا بعد سنة 1842. في عام 1847 دخل شنلر في خدمة "إرسالية الحجّاج لأخوّة كريشونا"، وخلال عمله فيها، استجاب لدعوة شبتلر وحضر سنة 1854 إلى القدس للتبشير فيها.

4. الرصافي، معروف، من قصيدة: "لدار شنلر في القدس"، العراق، على موقع الديوان عن شبكة الإنترنت.

5. سنو، عبد الرؤوف، المصالح الألمانية في سورية.

وفلسطين 1841 - 1901. ص 58.

6. عن تطور العلاقات الألمانية العثمانية، راجع: شولش، الكزاندر، تحولات جذرية في فلسطين - دراسات حول التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي -، ترجمة: كامل جميل العسلي، منشورات الجامعة الأردنية، عمان، 1993، ص 183-184.

7. سنو، عبد الرؤوف، المرجع السابق، ص 63.

8. المرجع السابق، ص64.

9. المرجع السابق، ص65.

10. المرجع السابق، ص66.

11. المرجع السابق، ص67.

12. المرجع السابق، ص68.

13. عن الأيتام الأرمن في دار الأيتام، راجع : دار الأيتام في القدس، دار النفائس العصرية، تاريخ 1/12/1921، ص11، عن موقع "المكتبة الوطنية الإسرائيلية".

14. عن ذلك، راجع : شعبان، محمد، حلموا يإقامة "مملكة الرب"... قصة مستعمرات الألمان في فلسطين، موقع رصيف 22، تاريخ 13/9/2019.

15. عن ذلك، راجع: شولش، الكزاندر، تحولات جذرية، ص202.

16. شعبان، محمد، المقال السابق.

17. سنو، عبد الرروف، المرجع السابق، ص69.

18. عن بير سالم القرية العربية، راجع، نمر، عباس، قرية بير سالم، موقع "Jarida"، بدون تاريخ.

19. سنو، عبد الرؤوف، المرجع السابق، ص73.

20. المرجع السابق، ص75.

21. المرجع السابق، ص76.

22. المقصود ما ورد في مقالة : محمد شعبان، "مملكة الرب" وغيره من الباحثين والكتّاب الذين يؤرخون لنشأة الاستيطان التبشيري الألماني منذ سنة 1869.

التعليقات