هربيا القرية الساحليّة الّتي صارت "زيكيم" القاعدة البحريّة

إلى الشمال من مدينة غزّة مسافة 14 كيلو مترًا، كانت تقع قرية هربيا، واعتبرت قرية شاطئيّة نسبيًّا، إذ تبعد عن حافّة البحر مسافة 4 كيلومترات، أحاطتها أراضي قرى الجورة والخصاص وبربرة في الشمال، وبيت جرجا ودير سنيد في الشرق

هربيا القرية الساحليّة الّتي صارت

من آثار قرية هربيا المهجّرة

ياللّه يطعمنا ويطعم الطير

ياللّه يا دار الرزق والخير...

هذا ما كان يغنّيه الهرابنة في مواسمهم، يقول الحاجّ سعيد قدّورة الخطيب(1)، حيث موسما الشتاء والصيف في هربيا، البرتقال شتاء والعنب صيفًا. كانت بيّارة هربيا تمتدّ من القرية غربًا إلى حيث يتدحرج ثمار ليمونها في ماء البحر، بينما دوالي العنب كانت شرقيّ القرية تعرش على التلال الممتدّة ما بين دير سنيد وبربرة، خصوصًا أنّ هذه الأخيرة كانت القرية الأمّ في زراعة العنب. في كتابه "الموجز في تاريخ عسقلان" كان قد أشار المؤرّخ الفلسطينيّ عارف العارف، إلى خاصّيّة العنب الساحليّ ما بين ديار عسقلان وغزّة، حيث تؤثّر ملوحة البحر ورماله على سمك قشرة العنب ممّا جعله أنضج وأحلى مذاقًا (2).

كانت طيور الساحل تقاسم أهل هربيا في أرزاقهم ومحاصيلهم، فنصبوا لها الفزّاعات لإبعادها، ومع ذلك ظلّوا يغنّون "ياللّه يطعمنا ويطعم الطير..." خصوصًا ذلك الطير الّذي قالوا عنه الهرابنة "بطلع من البحر"(3) أي يأتي مهاجرًا منه، وهو السمن، أو الفرّ كما تعوّد أهالي ساحل فلسطين الجنوبيّ تسميته، أمّا عن "دار الرزق والخير"، فهي هربيا في معنى اسمها أيضًا، إذ تعني هربيا في أصلها الكنعانيّ "الوفرة والكثرة" وذلك لخصب أرضها ووفرة محاصيلها(4).

إلى الشمال من مدينة غزّة مسافة 14 كيلو مترًا، كانت تقع قرية هربيا، واعتبرت قرية شاطئيّة نسبيًّا، إذ تبعد عن حافّة البحر مسافة 4 كيلومترات، أحاطتها أراضي قرى الجورة والخصاص وبربرة في الشمال، وبيت جرجا ودير سنيد في الشرق، أمّا جنوبًا، فكانت تحدّها أراضي قرية بيت لاهيا، الّتي غدت من مدن شمال قطاع غزّة اليوم. كان وادي هربيا، والّذي هو امتداد لوادي الحسّيّ يحدّ أراضي القرية من جنوبها، لم يكن أهالي هربيا يطمئنّون إلى خير مواسمهم، إلّا إذا رأوا مجرى واديهم يحمل ماء السماء مارًّا من عندهم قبل دبّ وصبّ مائه في البحر، وكانت طريق تنقّل الهرابنة الرسميّة، هي تلك الطريق الواقعة شرقًا على بعد كيلومترين اثنين من القرية، والّتي كانت تربط ما بين مدينتي غزّة ويافا، وقد عبّدها البريطانيّون مع استعمارهم البلاد في عشرينيّات القرن الماضي، غير أنّ طريق البحر، أو "مع الميّ" كما ظلّ يقول أهالي هربيا، كانت هي الطريق الأقرب والأشرح لأهالي القرية في سلكها سواء شمالًا باتّجاه مجدل عسقلان أو جنوبًا باتّجاه غزّة.

قدّرت مساحة أراضي هربيا حتّى عام النكبة بـ 22300 دونم، منها 2675 بيّارة كانت تنتج محاصيل وافرة من الثمار الحمضيّة(5)، وفي أواخر ثلاثينيّات ومطلع أربعينيّات القرن العشرين سرب من أراضي قرية هربيا ما يعادل مساحة 1200 دونم لليهود الصهاينة، وما يزال اسم حافظ العلمي متداولًا على ألسن أبناء هربيا المهجّرين، حيث اتّهم في بيع قسم من أرضه في منطقة "الزلطة" ما بين هربيا ودير سنيد للصهاينة(6).

اعتبرت هربيا من القرى الكبيرة نسبيًّا في قضاء غزّة، فقد وصل تعداد سكّانها قبيل النكبة إلى ما بين 2700 و2900 نسمة، فكان فيها ثلاثة مخاتير من كبرى العائلات الثلاث في القرية، عليان والغول وسالم، أمّا عن بيوت هربيا، فكانت كتلة مبنيّة من الطين، ومتلاصقة إلى حدّ التراصّ حيث يمكن المشي من أوّل بيت فيها وحتّى آخر بيت عبر أسطحها، وهذه خاصّيّة معماريّة تميّزت فيها بعض القرى الشاطئيّة في ساحل فلسطين لدواع أمنيّة متّصلة بالاحتياط من البحر. كانت هربيا تنقسم في تشكيلها إلى حارتين أساسيّتين، الغربيّة والشرقيّة، وأطلق على الحارة الشرقيّة أحيانًا اسم "حارّة المصريّين" لأنّ معظم عائلاتها من أصول مصريّة(7).

من أشهر معالم هربيا، الجامع العمريّ في الوسط، والّذي يعود بناؤه إلى العصر المملوكيّ حيث انتشر بناء الجوامع العمريّة في مدن وقرى فلسطين أو ما يعرف بـ "الجامع الكبير" في ذلك العصر. وفي جامع القرية كان الكتاب الّذي تعلّم فيه أطفال القرية على يد المقرئين والشيوخ، قبل تدشين أوّل مدرسة حكوميّة رسميّة في هربيا سنة 1922 في ظلّ الاستعمار البريطانيّ للبلاد. وفي هربيا ومحيطها معالم كفريّة (أثريّة) ظلّ يتذكّرها الهرابنة على مدار عقود من نزوحهم في مخيّمات اللجوء بغزّة، منها الخراب القديمة، مثل خربة "معربة" وخربة "الرسم" و" أشرف" الّتي كان تعرف قديمًا بخربة "سرافيا" ومن هنا تعريب اسمها، فضلًا عن خربة "حنونة" وخربة "ساوي". كما في القرية، كانت أربع مقابر: مقبرة سعد، مقبرة البيادر، ومقبرتا الساقية ومنشيّة حسن(8)، ممّا يدلّ على كبر تعداد سكّان القرية وقدمها معًا.

ويظلّ "الجرن" معلم الحيّ الأبرز في ذاكرة هربيا، والجرن عبارة عن ميدان واسع فيه كانت بيادر محاصيل وغلال هربيا، ومن هنا أطلق عليه اسم الجرن، أسوة بجرن الحبوب. كما في الجرن كانت تقام أعراس القرية والتجمّعات الشعبيّة الأفراح والأتراح (9). ومثل أيّ قرية فلسطينيّة في البلاد، لم تكن تخلو هربيا من مقاماتها الدينيّة والتاريخيّة الّتي تعود الهرابنة التبرّك بها والتشفّع عندها، وكان أشهرها مقام "الشيخة فاطمة" وقلّما ارتبطت نشأة المقامات الدينيّة بنساء متمشّيخات أو متصوّفات أو حتّى مجاهدات في قرى ومدن فلسطين تاريخيًّا. لذا، كان لمقام الشيخة فاطمة في هربيا هالة قدسيّة تفوق باقي المقامات الأخرى في القرية، مثل مقام "الشيخ أحمد شمالي" أو مقام "سعيد" المحاذي لمدرسة القرية.

تعود تلك المقامات في هربيا إلى مراحل مبكّرة من التاريخ الأيّوبيّ والمملوكي من قبل قيام قرية هربيا الحديثة في التاريخ العثمانيّ. غير أنّ أهالي القرية يعتبرون وجودهم في هربيا امتدادًا إلى تلك المرحلة الملحميّة من تاريخ مقارعة الصليبيّين في القرنين الثاني والثالث عشر للميلاد، خصوصًا أنّ في موقع القرية هربيا وقعت واحدة من أكبر المواجهات ما بين الأيّوبيّين والصليبيّين في سنة 1244م للحدّ الّذي أطلق فيه على تلك المعركة اسم "حطّين الثانية" نظرًا لأهمّيّة المعركة على طريق دحر الصليبيّين طوال النصف الثاني من القرن الثالث عشر للميلاد.

الشراف، هو اسم كلّ تلك المنطقة الرمليّة الّتي كانت تفصل هربيا عن البحر من الناحية الغربيّة، والشراف لأنّها كانت تشرف على البحر(10). حتّى مطلع الثلاثينيّات كانت تلك المنطقة مغروسة بالكروم وبالأخصّ دوالي العنب، إلّا أنّ الهرابنة حوّلوها منذ تلك الفترة إلى بيّارات البرتقال، إلى أن صارت فيه هربيا مضرب مثلًا في آبارها وبيّارتها، فمن من أهالي هربيا لا يتذكّر بيّارات كلّ من حافظ العلمي والعبد عليان الّتي يقال بأنّ الخيل كانت تجوبها يومين أو ثلاثة من أجل تقدير مساحتها قبل تسليمها إلى أصحاب الضمان في كلّ عام(11).

لذاكرة هربيا وجهان، وجه متّصل بإرث القرية البرّيّ، في شرقها تحديدًا حيث التلال الّتي كانت تغلّ الحبوب وحبّ العنب وقصب السكّر الّذي اشتهرت القرية في زرعه وقلعة، كما الطريق من خلف تلك التلال الّذي كان يربط غزّة جنوبًا بالمجدل ويافا شمالًا، والوجه البحريّ الّذي ظلّ الهرابنة بمنأى عنه غير ذلك اليوم السنويّ من موسم أربعة أيّوب حيث عرفه الهرابنة بيوم "حمّام البحر"(12).

هاجم الصهاينة قرية هربيا في مطلع تشرين أوّل من النكبة سنة 1948، حيث اقتحم في حينه لواء جفعاتي القرية بعد قصف الطيران مواقع استحكم الجيش المصريّ فيها في حرب النكبة، حيث اقتلع الصهاينة أهالي هربيا إلى غزّة جنوبًا، وجاءوا على كلّ بيوت أهلها الّتي لم يبق منها غير جامع القرية والمدرسة ومنزل كبير كان يعود لعائلة العلمي، وعلى أنقاض هربيا القرية العربيّة أقام الصهاينة في سنة 1949 مستعمرتي "كرميا" و"زيكيم" وفي هذه الأخيرة أقيمت قاعدة بحرّيّة إسرائيليّة ما تزال من أهمّ قواعد العسكريّة البحريّة الإسرائيليّة على الساحل، حيث تساهم بشكل مباشر في حصار غزّة(13).


إحالات

(1) خطيب، سعيد قدورة، مقابلة شفويّة، هربيا – قضاء غزّة، موقع فلسطين في الذاكرة: ضمن مشروع تدوين التاريخ الشفويّ للنكبة الفلسطينيّة، تاريخ 13-11-2011.

(2) العارف، عارف، الموجز في تاريخ عسقلان، ص11.

(3) خطيب، سعيد قدورة، المقابلة السابقة.

(4) سكيك، إبراهيم خليل، غزّة عبر التاريخ: من أقدم العصور حتّى الفتح الإسلاميّ، ج6، ص 72.

(5) سكيك، إبراهيم خليل، المرجع السابق، ج6، ص 72.

(6) خطيب، سعيد قدورة، المقابلة السابقة.

(7) سكيك، المرجع السابق، ج6، ص 73.

(8) راجع، منصور، جوني، هربيا: قرية البرتقال وقصب السكّر، مادّة منشورة على صفحة حساب فيسبوك "هربيا".

(9) خطيب، سعيد قدورة، المقابلة السابقة.

(10) سكّيك، المرجع السابق، ج6، ص73.

(11) خطيب، سعيد قدورة، المقابلة السابقة.

(12) المقابلة السابقة.

(13) منصور، جوني، المرجع السابق.

التعليقات