عمّال الضفّة: ما بين ذاكرة نضالهم وواقع معاقبتهم

كان إضراب العامل وتغيّبه عن العمل في الانتفاضة الأولى يعتبر فعلًا نضاليًّا يعاقب العامل فيه الاحتلال، بينما يغيب العامل اليوم عن عمله عقابًا له...

عمّال الضفّة: ما بين ذاكرة نضالهم وواقع معاقبتهم

عمّال فلسطينيّون عائدون من العمل في إسرائيل عند حاجز عسكريّ (أرشيف - Getty)

يعاقب الاحتلال الإسرائيليّ منذ أكثر من أربعة شهور ما يقارب 200 ألف عامل فلسطينيّ من عمّال الضفّة الغربيّة بحرمانهم من العودة إلى مواقع عملهم في قطاعات مختلفة منها البناء والزراعة والخدمات داخل إسرائيل، ممّا يتسبّب ذلك بأزمة اقتصاديّة – معيشيّة خانقة ومتفاقمة يوميًّا، تعاني منها مدن وقرى ومخيّمات الضفّة الغربيّة كلّها، وليس العمّال وحدهم، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أنّ معاش أكثر من مليون ونصف مليون فلسطينيّ في الضفّة الغربيّة بات مرتبطًا بإيقاع حركة العمل المأجور في إسرائيل. والحديث عن 200 ألف عامل هم من عمّال التصاريح الرسميّة الّتي يمنحها لهم الاحتلال، غير أنّ هناك عشرات آلاف العمّال الّذين يعملون بلا تصريح عمل رسميّ، ما يعني أنّ عدد العمّال الفلسطينيّين الّذين يعملون في الداخل هو أكبر ممّا تشير إليه الإحصائيّات الرسميّة.

تمنع سلطات الاحتلال عودة العمّال الفلسطينيّين، ولا تنهي تصاريح عملهم، وهذا تمييز مهمّ التنبيه له؛ فالاحتلال يغلق الحواجز والبوّابات في وجه العمّال في ظلّ الحرب، بينما تصاريح عملهم سارية المفعول، وذلك كي يبقى الاحتلال معفى قانونيًّا أمام العامل الفلسطينيّ، إذا ما حاول هذا الأخير اللجوء للقانون من أجل تعويضه في حال تمّ تجميد تصريحه أو سحبه منه بدون توفّر أسباب شخصيّة لذلك.

لم تسمح سلطات الاحتلال الإسرائيليّ بعودة إلّا بضعة آلاف قليلة من العمّال إلى عملهم في الداخل في الأسابيع الأخيرة، وهي عودة مشروطة بالسجلّ الأمنيّ والسنّ ونوع العمل. وتحاول الحكومة الإسرائيليّة بنسختها الفاشيّة الحاليّة الاستعاضة عن العمّال الفلسطينيّين بعمّال أجانب، في سياسة استغناء تسعى لمعاقبة الفلسطينيّين عقابًا جماعيًّا، ما يحدونا العودة إلى لسؤال في علاقة العامل الفلسطينيّ ومعاشه بالسياسيّ والاحتلال، والتحوّلات الّتي طرأت على هذه العلاقة ما بين دور العامل ونضاله في الانتفاضة الأولى بوصفه فاعلًا، وبين وضعه اليوم بعد ثلاثة عقود حيث جعلت منه الظروف واقعًا تحت الحدث لا حول ولا قوّة له، عرضة لكافّة أشكال الحرمان والابتزاز.

منذ حادث المقطورة

إذا كان اقتحام أرئيل شارون للمسجد الأقصى في يوم 28 أيلول/سبتمبر من عام 2000 هو الشرارة الّتي أذنت باندلاع الانتفاضة الثانية، فإنّ شاحنة المستوطن هيرتزل بوكوزا، ودهسه بها سيّارة فلسطينيّة كانت تقلّ عمّالًا غزيّين أثناء عودتهم من عملهم عند محطّة إيريز في شمال قطاع غزّة هي من أشعلت فتيل غضب الفلسطينيّين في يوم 8 كانون الأوّل/ديسمبر سنة 1987، وتعرّف بـ "حاثّة المقطورة". انتفض مخيّم جباليا في غزّة يومها، فاستجاب له صباح اليوم التالي مخيّم بلاطة في الضفّة الغربيّة، فكانت الانتفاضة المجيدة الأولى الّتي انطلقت بدماء أربعة عمّال من العمّال الفلسطينيّين المياومين في ورشات بناء إسرائيل.

مظاهرة في غزّة عام 1987 (Getty)

كلّ فئات وقطاعات المجتمع الفلسطينيّ في الضفّة والقطاع التحقت بالانتفاضة الأولى، ومن هنا كان زخمها وشعبيّتها في حينه، من الفلّاحين والطلّاب والتجّار والنساء، وعلى رأسهم كانت الطبقة العمّاليّة الّتي اتّسعت وازدادت خلال عقدين ما بين سنوات 1967 – 1987، حيث جرت أكبر عمليّة "بلترة" للمجتمع الفلسطينيّ في ظلّ الاحتلال الإسرائيليّ. وقد وصل عدد العاملين داخل الخطّ الأخضر من عمّال الضفّة والقطاع ما بين سنوات الانتفاضة 1987 – 1992 إلى ما يقارب 116 ألف عامل، عمل معظمهم في الورشات وقطّاع البناء. وقد اكتسبت العمالة في إسرائيل أهمّيّة لدى أبناء قطاع غزّة أكثر من الضفّة في حينه، فما بين أعوام 1975 – 1990 استوعب سوق العمل الإسرائيليّ أكثر من 40% من عمّال غزّة، مقارنة بـ 30 -35% من عمّال الضفّة (1). ومردّ ذلك، إلى كون نسبة العمّال في غزّة كانت أعلى منها في الضفّة، بحكم نسبة عدد اللاجئين المرتفعة في القطاع.

والجدير التذكير به، هو أنّ الانتفاضة الأولى قد اندلعت ضدّ الاحتلال الّذي كان يحتلّ أراضي الضفّة والقطاع احتلالًا مباشرًا، حيث انغمس في إدارة شؤون الناس فيها يوميًّا، ولم تكن سلطة فلسطينيّة محلّيّة قد قامت بعد، تحول دون الناس والفعل ضدّ الاحتلال، وهذه مسألة مهمّة، ميّزت مجتمع الانتفاضة الأولى الفلسطينيّ من ناحية شعبيّة الانتفاضة وتنظيمها الأهليّ.

من هنا، كان انخراط الحركة العمّاليّة الفلسطينيّة عمومًا، والعاملة داخل الخطّ الأخضر في إسرائيل خصوصًا، في حراك الانتفاضة الأولى، يعود لأمرين أساسيّين، هما: الوعي والتنظيم. فقد امتلكت الحركة العمّاليّة وعيها للاحتلال وسياساته في بلترة الفلّاحين وانتزاعهم من أرضهم، ثمّ انتزاع أرضهم منهم لاستيطانها، فقد صادر الاحتلال في الضفّة الغربيّة منذ احتلالها وحتّى نهاية سنة 1980 ما يقارب ثلث أراضيها، وأقام عليها 109 مستوطنات حتّى سنة 1983 (2). وكذلك في ضرب الاحتلال للاقتصاد الفلسطينيّ المحلّيّ، وتحويله إلى تابع أو جيب خارجيّ للقطاع الصناعيّ الاستيطانيّ، فضلًا عن استغلال العمّال وتحديدًا المياومين داخل الخطّ الأخضر في ساعات العمل والأجور.

أمّا عن التنظيم، فقد عرفت الحركة العمّاليّة في الضفّة نشاطًا تنظيميًّا ونقابيًّا منذ مطلع بداية الاحتلال، وكان "الاتّحاد العامّ لنقابات العمّال في الضفّة الغربيّة" أوّل منظّمة جماهيريّة تعترف بمنظّمة التحرير الفلسطينيّة ممثّلًا شرعيًّا للشعب الفلسطينيّ في بيان صادر عن الاتّحاد سنة 1973. كما شارك العمّال من خلال نقاباتهم في حملة الانتخابات البلديّة الّتي جرت في نيسان/أبريل 1976 وفاز عدد من مرشّحيهم في كثير من المجالس المنتخبة (3). كما خاضت الحركة العمّاليّة ونقاباتها معارك عديدة ضدّ سلطات الاحتلال قبل اندلاع الانتفاضة، أهمّها المعركة الّتي خاضتها سنة 1981 ضدّ محاولة الاحتلال فصل نقابات القدس عن الجسم النقابيّ الفلسطينيّ.

نداء للسواعد السمراء

"يا ذوي السواعد السمراء شمّروا عنها"؛ بهذه الكلمات كانت بيانات "اللجنة الفلسطينيّة الوطنيّة" للانتفاضة الأولى تنادي العمّال والحركة العمّاليّة في الضفّة والقطاع، ولم يتأخّر العمّال مرّة عن تلبية ذلك النداء، فقد انحازوا للإضراب العامّ، وعملوا على إنجاحه في كلّ مراحله، خصوصًا في عامي 1988-1989 مع أوج إشعاع الانتفاضة، كما قاطع العمّال العمل في المستوطنات، وتغيّبوا عن العمل في داخل الخطّ الأخضر، حيث آثروا في تعطيل حركة الإنتاج الإسرائيليّ بفعل مقاطعة الذهاب إلى المصانع والورش الإسرائيليّة، وقدّرت تكلفة تغيّبهم عن العمل بعد 5 أشهر على الانتفاضة ب 800 مليون دولار (4). وفي نهاية سنة 1988 العام الأوّل والأشدّ زخمًا في الانتفاضة تجاوزت خسائر الاحتلال جرّاء إضراب العمّال ومقاطعتهم للعمل 200 مليون دولار.

امتنعوا عن العمل في المستوطنات والمشاريع الإسرائيليّة في المناطق المحتلّة والداخل، واستنهضوا الاقتصاد المحلّيّ عبر ما عرف بـ "التوجّه للاكتفاء الذاتيّ" عبر تحفيز التنمية الريفيّة وزيادة المناطق المزروعة والعودة للأرض واستصلاحها وزيادة إنتاج المحاصيل الغذائيّة الأساسيّة منها. كما انخرط العمّال في أنشطة اللجان الشعبيّة في تشكيل صناديق جباية تبرّعات ماليّة وعينيّة، لمن كان يحتاج إليها من المحتاجين والمعوزين في الضفّة والقطاع. ونظّموا المظاهرات وساروا في صفوفها الأولى، ولم يتركوا جبهة من جبهات الانتفاضة إلّا وكانوا على رأسها، دون أن يأبهوا لا لممارسات جيش الاحتلال، أو لتهديدات مشغّليهم من المتعهّدين والمقاولين وأصحاب المصانع والورش اليهود، وأكثر من ذلك، فقد ساهم العمّال في فاتورة دم الانتفاضة منذ يومها الأوّل.

سكاكين وبطاقات

ربّما تحيل "حرب السكاكين" إلى تلك الهبة الّتي شهدتها مدينة القدس خلال عامي 2015-2016، غير أنّ هذا المصطلح في القاموس الفلسطينيّ يعود في حقيقته إلى زمن الانتفاضة الأولى، وقد ارتبطت حرب السكاكين بالعمّال الفلسطينيّين العاملين في إسرائيل، بعد أن نقل بعض العمّال الانتفاضة إلى داخل الخطّ الأخضر بسكاكين زواويد طعامهم في حينه.

كانت أشهر عمليّات حرب السكاكين في الانتفاضة الأولى، هي تلك الّتي عرفت بـ "عمليّة البقعة" نسبة لحيّ البقعة في القدس، والّتي نفّذها أحد العمّال المياومين هو عامر سعود أبو سرحان من قرية العبيديّة في ريف بيت لحم، حيث هاجم أبو سرحان بسكينة في يوم 21 تشرين أوّل/أكتوبر 1990 مجموعة مستوطنين في حيّ البقعة وقتل ثلاثة منهم. وكانت عمليّة البقعة وقتها ردًّا على مجزرة المسجد الأقصى الّتي ارتكبها الاحتلال قبل أيّام من عمليّة البقعة، في يوم 8 تشرين أوّل/أكتوبر 1990، والّتي راح عشرات الشهداء والجرحى عندما حاصر جيش الاحتلال المصلّين العزل، وأطلق النار عليهم داخل باحات الأقصى، ممّا أدّى إلى استشهاد 19 مصلّيًا.

توالت عمليّات العمّال داخل الخطّ الأخضر، بعد عمليّة البقعة، مرورًا بحادثة "حافلة خطّ 66"، وصولًا إلى حادثة "معمل حيفا"، حيث تحوّلت حرب السكاكين إلى ظاهرة نقلت فعل التعبير عن الغضب والرفض إلى داخل الخطّ الأخضر، من خلال العمّال بالدرجة الأولى. وعلى إثر هذه العمليّات ولدت "البطاقة الخضراء" الّتي فرضها الاحتلال تحديدًا على سكّان الضفّة الغربيّة من أصحاب السوابق الأمنيّة، بهدف مراقبة دخول العمّال منهم إلى إسرائيل. وجاءت البطاقة الخضراء الأمنيّة، بعد عام من توزيع الاحتلال للـ"بطاقة الممغنطة" الّتي ارتبطت تحديدًا بعمّال قطاع غزّة العاملين داخل الخطّ الأخضر في فترة الانتفاضة، والبطاقة الممغنطة على نقيض الخضراء، كانت بمثابة شهادة حسن سلوك، يجيز الاحتلال لحاملها دخول إسرائيل (5). غير أنّ كلتا البطاقتين، الخضراء والممغنطة، قد ارتبطتا وقتها بالعمّال الفلسطينيّين العاملين داخل الخطّ الأخضر ودورهم في ظلّ الانتفاضة.

في العام الأوّل على الانتفاضة الأولى، بلغت نسبة العمّال من شهدائها ما بين 8-12-1987 و 17-10-1988 حوالي 44% في الضفّة الغربيّة، و45% في قطاع غزّة. مقابل 49% من المعتقلين.

أخيرًا

كان إضراب العامل وتغيّبه عن العمل في الانتفاضة الأولى يعتبر فعلًا نضاليًّا يعاقب العامل فيه الاحتلال، بينما يغيب العامل اليوم عن عمله عقابًا له، وكانت مقاطعة العامل للعمل داخل إسرائيل في الانتفاضة الأولى بمثابة عصيان وفعل نضاليّ يصنعه العامل التحامًا مع انتفاضة أبناء شعبه، فيما يعتبر العامل منعه من الدخول للعمل اليوم حرمانًا وابتزازًا له.

عمّال أعادهم الاحتلال إلى غزّة بعد التنكيل بهم (Getty)

كانت الحركة العمّاليّة وعمّالها، طبقة متطلّعة للتحرّر ومستعدّة للتضحية بحقوقها المعيشيّة من أجل حقوق سياسيّة، إذ لم يجلس العمّال بتغيّبهم عن عملهم في الانتفاضة الأولى في بيوتهم، بل انخرطوا في كافّة أعمال الانتفاضة. بينما اليوم وبعد ثلاثة عقود من تبخّر حلم الاستقلال والدولة، وكلّ تلك السرديّة التحرّريّة، لم يعد للعامل غير التشبّث بتصريحه عمله الممنوح له من قبل الاحتلال وهموم معاشه، كما لم يعد للعامل أرض يعود لها لفلحها، إذا ما قرّر شقّ أوراق تصريح عمله، فقد ابتلعت الأرض، وصارت الضفّة دولة للمستوطنين، أمّا كلّ ذلك الحديث عن عقيدة اقتصاديّة وطنيّة، واقتصاد وطنيّ فلسطينيّ مستقلّ، الّذي بشّر به أوسلو، فقد تبيّن أنّه جعجعة تسمع دون طحين يرى.

إنّ سؤال أزمة العامل في الضفّة الغربيّة اليوم ليست في فرص عمله ومنعه منها، إنّما أيضًا في غياب العمل النقابيّ العمّاليّ والأطر التنظيميّة للحركة العمّاليّة، والّتي جرى تجويفها كما جرى تجويف وتجريف كلّ مؤسّسات وبنى التنظيم الأهليّ في الضفّة الغربيّة في السنوات الأخيرة، ضمن سياسات إعادة هندسة مجتمع الضفّة الغربيّة بما يخدم احتلاله.


إحالات:

(1) فرسخ، ليلى، العمل الفلسطينيّ في إسرائيل: 1967-1997، معهد أبحاث السياسات الاقتصاديّة الفلسطينيّ (ماس)، 1998، ص20.

(2) ياسمين صالح ورجا الخالدي، الأبعاد الاقتصاديّة للانتفاضة الأولى في سياق المسار التنمويّ الفلسطينيّ، بحث منشور ضمن كتاب: انتفاضة 1987 تحوّل شعب، مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة، 2020، ص233.

(3) الشريف، ماهر، خلفيّات الانتفاضة الشعبيّة الكبرى على صعيد الوعي والتعبئة والتنظيم وأشكال المقاومة، ضمن كتاب: انتفاضة 1987 تحوّل شعب، مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة، 2020، ص26.

(4) ياسمين صالح ورجا الخالدي، المرجع السابق، ص237.

(5) شرارة، رندة، مشكلة العمّال الفلسطينيّين في إسرائيل، مجلّة الدراسات الفلسطينيّة، العدد 5، شتاء 1991، ص348.

التعليقات