"البقعة": بلدة لا يتذكرها الا الاستيطان

نحو ستمائة فلسطيني يقطنون بلدة "البقعة" الواقعة على الأطراف الجنوبية لمدينة الخليل، والمحاصرة بين مستوطنتي "كريات أربع" و"خارصينا" من ناحية، و شارع "60" الاستيطاني من ناحية اخرى

"لن نرحل... ليس لنا مكان أخر نلجأ إليه"، يقول في إشارة إلى تمسكه ببلدته، رغم الحياة القاسية التي يعيشها بسبب مستوطنتين وشارع التفافي يعزلها عن محيطها.

عطا جابر (43 عاما) واحد من نحو ستمائة فلسطيني يقطنون بلدة "البقعة" الواقعة على الأطراف الجنوبية لمدينة الخليل، والمحاصرة بين مستوطنتي "كريات أربع" و"خارصينا" من ناحية، و شارع "60" الاستيطاني من ناحية اخرى.

وتقول لجنة الدفاع عن الأراضي ان بمحافظة الخليل 27 مستوطنة رئيسية، وعدد مماثل من البؤر الاستيطانية.

لا يمكن الوصول الى "البقعة" من مدينة الخليل بالسيارة، رغم قصر المسافة الفاصلة، فالشارع الرئيسي مغلق منذ بداية الانتفاضة، ولا يمكن المرور عبره إلا مشيا على الأقدام.

نضطر للتوجه الى بلدة "حلحول" شمالا، ومن ثم الاستدارة استدارة كاملة باتجاه الجنوب للوصول الى البقعة، سالكين طريقا استيطانيا يشق بساتين فلسطينية تزدهر بأشجار عنب ومشمش وتفاح غزيرة الأغصان. في هذه الأثناء، يدير السائق عداد المسافة ليحسب الكيلومترات الزائدة التي سنقطعها لسلوكنا هذه الطريق.

لا يمل عطا بوجهه الصغير النحيف الذي يختفي خلف شارب كث، وكوفية حمراء طوق بها عنقه، من الإشارة إلى البيوت والأراضي الواقعة على طرفي الشارع ذاكرا أصحابها وما آل إليه حالها من المصادرة أو الهدم أو الإنذار بكليهما.

"16 كيلومترا بدلا من كيلومتران"، يقول السائق بسخرية ناظرا إلى العداد الذي أداره آنفا لدى وصولنا مدخل "البقعة".

المدخل وعر مهمل، فيما بوابة مستوطنة "كريات أربع"، معبدة ومحاطة بأشجار طويلة خضراء، ومحمية بحراس مسلحين ببنادق رشاشة.

أما طريق البلدة الذي يمتد لمئات الأمتار، فتملؤه الحفر وأخاديد أحدثتها مياه الأمطار.

على حافتي الطريق تتناثر "معرشات" عنب ذابلة القطوف، فالأهالي لم يجنوها هذا العام لصعوبة تصديرها إلى سوق الخليل المجاورة بسبب الحواجز، "فكيف بأسواق الضفة الغربية الأخرى" يتسائل عطا بأسف.





نصل سهلا قاحلا هو مركز البلدة، تتناثر البيوت فيه بعشوائية، فيما تصعد بيوت أخرى جبلا مجاورا باتجاه الخليل، قبل أن يصطدم زحفها بجدار شائك طويل يحيط بالمستوطنتين.

معظم البيوت في "البقعة" قديمة حجارتها مصفرة، اقام العديد من سكانها حظائر للأغنام والدواجن بجوارها ، تفوح منها رائحة يزيدها ثقلا الدخان المنبعث من الحطب الذي يستعمله السكان للتدفئة والطبخ نظرا لضعف الكهرباء وصعوبة التزود بغاز الطهي.

ولا يوجد في البلدة عيادة صحية أو حتى طبيب، لذا ما ان دخلت سيارة اسعاف المنطقة حتى تدافعت عشرات النسوة اليها حاملين أطفالهن.

ووسيلة النقل العامة الوحيدة هي سيارة مرسيدس خاصة، تعود الى فترة السبعينات: غير قانونية، بالكاد يمكن اغلاق ابوابها ونوافذها، زجاجها الامامي مهشم، وخط سيرها من وسط البلدة الى مدخلها وبالعكس.

في بيت قديم مبني من الطوب، نحاور رجالا وطالب مدرسة، يرتدي جميعهم سراويل قطنية مهترئة، بعضها خاصة بثياب النوم. للرجال لحى خشنة وشعر غير مسرح، أما النساء اللواتي نلمح بعضهن، كتلك السيدة التي ناولت الشاي لاحد الرجال من خلف الباب، فلسن افضل حالا.

فريد أبو عودة (42 عاما) يقول إن قوات الاحتلال أنذرته بهدم بيته مرتين بحجة عدم الترخيص، وأن الحكم ما زال سائرا، رغم استئنافه امام القضاء الاسرائيلي عدة مرات.

ويشرح أنه بنى الطابق الأول من المنزل عام 1989، وأضاف إليه طابقا ثانيا بعد ذلك بعامين عندما تزوج ابنه، وأنه صرف كل مدخراته من عمله بإسرائيل لبناء المنزل، ومن ثم توكيل محامين لوقف أمر هدمه. ويشير من النافذة الى حفرة كبيرة بجوار منزله مشيرا إلى انها كانت بئر ماء هدمته قوات الاحتلال تحت نفس الذريعة.

فريد العاطل عن العمل حاليا بسبب منع إسرائيل العمال الفلسطينيين من الدخول اليها، إضافة إلى التهاب في عموده الفقري أقعده عن العمل حتى في الورش المحلية، يرى أن لا هدف من هدم منزله إلا تهجيره من المنطقة تمهيدا لتوسيع المستوطنات على حسابه.

ويملك هؤلاء الرجال روايات عن جنود الاحتلال والمستوطنين، يبادر عزمي أبو عودة (49 عاما) لسرد بعضها.

ففي حفل زفاف أحد ابناء القرية لفتاة من خارجها، سمحت قوات الاحتلال بدخول سيارة العروسين، الا انها اعترضت جميع سيارات التي كانت خلفها لاكثر من ثلاث ساعات، لينقلب الفرح الى لحظات ترقب بانتظار وصول المدعوين.

وفي حادثة اخرى، اعترض حارس المستوطنة عمالا من بلدية الخليل جاءوا لاصلاح عطب أصاب عمود كهرباء، ولم يسمح لهم بالعمل إلا تحت مراقبته بعض فحص أوراقهم الثبوتية، ما اضطرهم لإنجاز عملهم بسرعة ودون اتقان ومغادرة المنطقة، ليعود العمود ويخرب بعد ايام قليلة.

كما لاحق مستوطن صبيا من البلدة محاولا سرقة حماره، ما اضطر الصبي الى القفز عن الحمار والهرب باتجاه البلدة، ليرجع الحمار مساء الى البيت بعد ان نجح هو الاخر في الفرار من المستوطن.

ويشتكي سكان البلدة من شح المياه، فالخط الرئيسي القادم من الخليل قطعته سلطات الاحتلال عندما شق الشارع الواصل بين "كريات أربع" و"خارصينا" اواسط الثمانينات، فيما تمتنع بلدية الخليل عن تزويد المنطقة بخط أخر بحجة أن المنطقة خارج نطاق اختصاصها، وأن قوات الاحتلال تمنعها من العمل فيها.

ويشيرون إلى حصولهم على المياه بطريقة (غير مشروعة): " نحدث ثقبا في الخط الرئيسي الذي يغذي المستوطنة، ونوصله بماسورة".

ويشتكون من نسيان المسؤولين لبلدتهم، فـ "لا احد يزورنا أو يسأل عنا، وكأننا لسنا موجودين"..

الطالب، عماد القيمري الذي يدرس في الخليل، اسوة بباقي الطلاب اذ لا توجد مدرسة بالبلدة، يقول انه يضطر يوميا للمشي مدة ساعة للوصول الى مدرسته، مع ان المسافة لم تكن تستغرق أكثر من ربع هذا الوقت بسيارة والده فيما مضى.

ويشير ان الخوف ينتابه كلما مر بالمستوطنين أو الجنود، فيسرع الخطى و" لا انظر اليهم حتى لا الفت انتباههم فيقوموا بإيذائي".

نترك البيت الذي يستمر رجاله بسرد قصص تبدو وكأن لا نهاية لها، ونصعد منحدرا جبليا طويلا، يحاول السائق تلافي الحفر العميقة فيه بإدارة المقود يمينا وشمالا. من خلف شارع يصل المستوطنتين ببعضهما، نلمح بيوت فلسطينية عالقة بين اسيجة معسكر للجيش ومنازل للمستوطنين، لا يستطيع قاطنوها الاتصال بالعالم الخارجي إلا عبر بوابة يغلقها جنود الاحتلال معظم الوقت.

عطا الذي تعلو صوت قهقهته يقول: "نحن نعيش بالجنة مقارنة بهم".

التعليقات